محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2019/1/1
الكاتب
Ivan Pagliaro

ظل الفن الجماهيري، أي الفن الذي يقدم في وسائل الإعلام لجمهور واسع كالأغاني الشهيرة، يمثل سؤالا صعبا في الدراسات الثقافية، فهل يلعب هذا الفن دورا في نقد المجتمع وتثوير الجماهير، أم أنه فن مثبّط يدعم الوضع القائم وينوّم جمهوره، وهو فن أقل درجة، ومن الأفضل تشجيع الفن الكلاسيكي، فن الزمن الجميل، بوصفه فنًا راقيًا.

يتناول المقال الجدل الذي ثار بين الشيوعيين في إيطاليا بعد انتشار موسيقى الديسكو حيال ذلك الموضوع، وهو جدل يمكن أن نقارنه بالجدل الذي يدور في بلداننا العربية حول موسيقى المهرجانات مثلا، هل هي فن هابط ومبتذل يجب مقاومته، أم أنه فن يعبر تعبيرا صادقا عن طبقات شعبية لا تجد تعبيرًا عنها في الفن التقليدي.

في مارس/آذار من عام 1978، اجتاح فيلم «حمى ليل السبت» (Saturday Night Fever) إيطاليا كلها. وكان للجمهور الإيطالي اهتمام خاص بشخصية توني مانيرو التي جسدها جون تراڤولتا. كانت الشخصية لشاب عامل أمريكي من أصول إيطالية من بروكلين، يحب الرقص على موسيقى الديسكو. ورغم فترات كلٍ من فيوريلو لو جارديا (1934-1945) وڤينسنت إمبليتيري (1950-1954)، وكلاهما من أصول إيطالية، في منصب عمدة نيويورك، صوّر الفيلمُ الأمريكان من أصول إيطالية بأنهم في قاع المجتمع وكانوا في صدامات عنصرية مع الآخرين القريبين منهم. وكنت ذرائع المعارك التي تقوم بين العصابات واحدة دائمًا: السيطرة على المناطق والنساء.

حبكةُ الفيلم مبتذلةٌ إلى حد كبير، لكنه اتسم بواقعية تكشف التركيب الفظيع من الذكورة والفحولة: الفخر والعنف والشرف والاغتصاب. لكن يبدو أن توني لم يكن كذلك، لأنه في نهاية الفيلم أعطى كأس مسابقة الرقص البارزة للراقصَين الجديرَيْن بها من بورتوريكو، وهما اللذان تعرّضا للتمييز العنصري من قِبَل الجماهير. يساعد ذلك على إنهاء الصراع العنصري ويؤسس لخلاصه الشخصي باعتباره شخصيةً إيجابية.

إن الرقص شيء نقي بالنسبة لتوني: فهو يريد أن يستعرض على المسرح ويثبت موهبته، ولا يعكر صفو ذلك شيء كالطبقة أو العِرق. وذلك لأنه أمريكي. لكن الفيلم ونشأة الديسكو في خلفيته، كان له أثر كبير على إيطاليا. فيصدق ذلك على الأقل على أن الأمر شمل شباب الحزب الشيوعي الإيطالي العظيم.

ومنذ نشأته حزبًا جماهيريًا في أثناء مقاومة النازيين، سعى الحزب الذي كان يمثّل ثاني أكبر كتلةٍ تصويتية إلى توسعة هيمنته على المجال الثقافي بضمه عددًا من المفكرين وصناع السينما البارزين. لكن في حين حاول مفكرو الحزب الشيوعي جعل الثقافة العالية تصل إلى العمال وتتحدث باسمهم، كانت نشأة الديسكو تحديًا جديدًا ومختلفًا.

لقد كانت الثقافة الجماهيرية «السافلة» Low Culture والمجتمع الاستهلاكي أمورًا جديدةً إلى حد كبير؛ فقد أحدث دخول التلفاز في منتصف الخمسينيات ثورةً في التواصل الجماهيري في إيطاليا، كما فعلت الطفرة الاقتصادية بداية العِقد التالي. لكن مع تراڤولتا، جاء تحدٍ جديد. فالشيوعيون الذين ظلوا لفترةٍ طويلة لا يتحركون من أعشاشهم الثقافية، سيجب عليهم تعلم الرقص.

الشحم والديسكو

بعد ستة أشهر من «حمى ليل السبت»، اجتاح تراڤولتا الشاشات مرةً أخرى بفيلم «الشحم» (Grease Brillantina). ونشرت جريدة الشباب الشيوعي «مدينة المستقبل» مقالًا من صفحتين بعنوان «الشحم والديسكو». ركز مقال ماسيمو بودا (Massimo Buda) على ظاهرة الديسكو المتنامية التي هيمنت على المراقص ذاك الصيف، بالإضافة إلى رفض عديد الشيوعيين لهذه الثقافة الشعبية الوافدة من الولايات المتحدة.

فبعد عقدٍ من انخراط الشباب الإيطاليون في حركات غير ممثلةٍ في البرلمان، تساءلت الصحيفة عن الكيفية التي تمكِّن الحزب الشيوعي من إعادة اختراق جماهير شابة (ومن ثم قاعدة نشطة) ممن باتت الصحافة الحزبية الباهتة والمتعبة غير قادرةٍ على التواصل معهم. وفي الحقيقة، كانت قد برزت مراجعات أخرى عديدة ليسار الحزب الشيوعي الذي تعامَل بشكلٍ أكثر استقلالية مع الموسيقى والأدب والسينما والثقافة (والثقافات المضادة) مثل مجلات Re Nudo وMuzak وGong. وحتى في جريدة «مدينة المستقبل» المرتبطة بالحزب الشيوعي كانت هناك تجربة قصيرة (استمرت من 1977م حتى 1979م) طرحت الأسئلة المتعلقة بالثقافة الجماهيرية كتلك التي أطلقها «حمى ليل السبت».

من الخطأ الاستنكار أو قول «نعم، من المهم فهم ذلك، لكن …»، لأن ذلك يعبر عن موقفٍ أخلاقي وبُعدٍ متغطرس على الشباب ممن يغلبُ فيهم العمال والشابات [هكذا وردت]. إن جون تراڤولتا أحدث النجوم الوافدين من أمريكا: سيخبرنا الزمن إن كان سيبقى كذلك، لكنه اليوم نجمٌ كبير أبهر ملايين الشباب. وهز الرأس بالرفض أيضًا أمرٌ خاطئ، ولا يمثل إلا عزاءً للنفس. «فالسياسة» توجد حيث ينظم الشباب أنفسهم لأجل حاجاتهم، حقيقيةً كانت أو «زائفة».

ووفقًا لمقالة بودا، تراجع الحزب الشيوعي أمام أنواعٍ جديدة من الثقافة الشعبية. قال بودا:

لكن للأسف، لم يكن هذا الانفتاح على الثقافة الشعبية في الصحافة الشيوعية أكثر من مجرد بيانات تعبيرية عَرَضية. لكن ربما هناك سببا وجيها لذلك؛ إذ ألم يكن من المفارق للواقع أن نتخيل معركةً فكرية على مستوى الثقافة الجماهيرية؟

الثقافة الشعبية

استقطب الحزب الشيوعي بعد عام 1945 كتيبةً مسلحة بالأقلام وفرشات الرسم وآلات تصوير الأفلام شكّلت طبقةً من المثقفين مستعدين لخوض معركة لأجل الهيمنة الثقافية. لكن حلفاءه الجدد كانوا «ممأسسين» للغاية. نتج عن ذلك نسخةٌ متحجرة من مشروع أنطونيو جرامشي الثقافي الديمقراطي الذي شدد على البعد «القومي الشعبي». لقد كان هؤلاء المفكرون راسخين بقوةٍ في الانشقاق التاريخي بين الثقافة العالية والثقافة السافلة، أي أنهم كانوا في مستوى الثقافة العالية (إذ يرون مثلًا أن الموسيقى الكلاسيكية هي النموذج الذهبي)، ويعتبرون أي شيء خارجٍ عنها ليس من الثقافة على الإطلاق.

ومن ثم، أصبح يُنظر إلى الثقافة «السافلة» أو الشعبية باعتبار أنه يجب وضعها جانبًا أو «تجاوزها». ومن ثمّ، وحتى عندما حوّلت إيطاليا قوتها العاملة من الزراعة إلى الصناعة، ظل المفكرون يتحدثون إلى العمال وعنهم، لكن باسمهم. لكن الفلاحين بعد أن أصبحوا عمالًا قد جلبوا معهم عقلياتٍ راسخة بعمق، وأنماط حياةٍ يمكن دمجها في بيئاتهم الجديدة وإعادة تشكيلها.

وقد كان لأختِ المجتمع الاستهلاكي، الثقافة الجماهيرية الجديدة، جذورٌ راسخة بالفعل في سنوات ما بعد الحرب، لكنها انتشرت على نطاق واسع في أثناء الطفرة الاقتصادية الإيطالية (1958-1963)، وساعد على ذلك دخول الإذاعة والتلفاز (إذ أُطلِقت أول قناة تلفزيونية في إيطاليا في عام 1954). أدت هذه الاختراعات إلى اضطرابات في حياة الإيطاليين باختلاف مستواهم الثقافي. وبنبرةٍ نخبوية ومحافِظة أحيانًا، اقتصر السياسيون والمفكرون اليساريون على التعليق على الثقافة الجماهيرية بتعليقاتٍ تستنكر «الانحطاط» والتهديدات التي تحيق بالجماهير بسبب هذا التغير.

وفي هذا الصدد، تمدنا مقالة منشورة في أغسطس/آب من عام 1962 في صحيفة «ولادة جديدة» (Rinascita) التابعة للحزب الشيوعي (وهي ذراع للحزب تستهدف قبل كل شيء جمهور الناشطين الداخليين وقادة الحزب والمفكرين)، ردّ الأمين العام للحزب بالميرو تولياتي (Palmiro Togliatti) في هذه المقالة على شاب يطلب النصيحة. يرى توجلياتي أن:

الإذاعة والتلفاز أشياء عظيمة، لكن من يختزل كل يوم وقتَ فراغه كله أمام الشاشة أو السمّاعات، لن يكون رجلًا حرًا. هناك أحدٌ آخر يفكر بدلًا عنه، ويحرمه من رؤية المشكلات الحقيقية الكبرى التي تهز العالم اليوم. نعم؛ إن الصراع الطبقي المنظَّم قوةٌ محررة. لكن من يحكم على الشاب الذي يبحث عن أشياءٍ لنفسه؟

لكن هذا النوع من الرد ظهر مرةً أخرى بعد بضع سنين (في مارس/آذار من عام 1965) عندما كتب مراسلَان شابان في الجريدة اليومية الرسمية للحزب الشيوعي المسماة «الوحدة» (L’Unità) معلِّقين بقولهم إن: «البيتلز» (the Beatles) هم التعبير الأصيل عن الأوضاع الاجتماعية والمشاعر الخاصة بشبابٍ محبطين وثائرين يريدون القَطْع مع التقاليد القديمة»، ردت جريدة الحزب الشيوعي بصرامة وقالت:

تقولون إن البيتلز يمثلون هروبًا من الحياة البرجوازية الرتيبة التي نشأت عن جيلٍ جديد في بريطانيا لم يرضَ بعدُ رضاءً عميقًا، وإن كانوا قد استراحوا ماديًا. إذن، هذا هو البيتلز. وما من شيء أكثر عبثًا من الهروب. وإن كان علينا أن نعترف بحق الشباب في «الهروب» بما يوافق أذواقهم، أو الهروب في موقفٍ اجتماعي معين، فإنه يجب علينا أيضًا أن نخبرهم بكل صراحةٍ أن الحياة ليست هروبًا كلها، وأن الهروب بلا نهاية سينتهي إلى ثمنٍ باهظ سيدفعونه، أيًا يكن مكانهم في العالم.

وقد بدا أن الشيوعية والاستهلاكية لا يجتمعان معًا إلا في القاموس. وبالنسبة للحزب الشيوعي على وجهٍ خاص، كان يجب أن يظل نمط الحياة الأمريكي في مكانه على الجانب الآخر من الأطلنطي. لكن مع دخول هذه العاصفة من التدفقات التجارية وأنماط التفكير الجديدة إلى إيطاليا، لم يقتصر الأمر على إنتاج رابطةٍ مصطنعة أو شكلية بين الاستهلاك والرخاء. بل أدت أيضًا إلى نشأة سلوكيات وأنساقٍ قيمية جديدة، كافح الشيوعيون غالبًا لقراءتها.

موسيقى على الذوق (Gastronomic Music)

لقد كانت كتابات تيودور أدورنو عما سماه «الموسيقى الاستهلاكية» نقطةً مرجعيةً للعديد من المفكرين في هذا الصدد. تحدث أدورنو في تحليله عن موسيقى تكرارية وسطحية ومجمّعة، تهدف إلى تنويم المستمع مغناطيسيًا، وهو أمرٌ مفيد للغاية في آليات الإقناع الكبيرة. كان ذلك متسقًا مع نقد أدورنو الواضح والحاد والمرعب حقًا للثقافة الجماهيرية، لكنه أشار أيضًا إلى «عيب التصنيع» المصاحب لهذا المنتج، أي أنه من المستحيل كراهية هذه الثقافة بغير الحط من شأن من يستمتع بها، أي الجماهير.

من اليسير تخيل كيف كان أثر توجهٍ كذلك على النخبة المثقفة في حزبٍ كالحزب الشيوعي الإيطالي الذي قدّم نفسه باعتباره طليعة الجماهير وقائدها والناطق باسمهم.

وكانت هناك بعض الأصوات الاستثنائية التي لم تعتبر المجتمع الاستهلاكي والثقافة الجماهيرية أعداءً يجب مقاومتهم أو عقبات يجب التغلب عليها، بل ظروف عامة جديدة ووضع أنثروبولوجي يجب التعامل في إطاره، وتحتاج توجهاته إلى تأويلٍ سليم؛ لكن هذه الأصوات إما فارقت السياسة الثقافية الخاصة بالحزب، أو أنها كانت غريبة عن الحزب نفسه مثل الشاعر وصانع الأفلام بيير باولو بازوليني (Pier Paolo Pasolini)، وعالِم الاجتماع فرانكو فيروراتي (Franco Ferrorati)، والكاتب والفيلسوف أمبرتو إيكو (Umberto Eco).

آمن هؤلاء أنه يجب التمييز بين الثقافة الجماهيرية باعتبارها وضعًا أنثروبولوجيًا أصبحت «الهروبية» (escapism) فيه هي الغاية، وبين لحظات «الهروب» الفعلية. وسعت مقارباتهم المختلفة إلى كسر غطرسة المفكرين ممن رفضوا بعجرفةٍ الاهتمام بالثقافة المُنتَجة في المجتمع الاستهلاكي.

وكان جياني بورنا (Gianni Borgna) في تعليقه على مهرجان سان ريمو، أكبر مسابقةٍ غنائية في إيطاليا، مثالًا من الجانب الآخر من بين صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي. رأى بورنا الذي قد يُعتبر أقدر المراقبين (والمستمعين) وأكثرهم انتباهًا لما تقدّمه الثقافة الجماهيرية للجمهور الإيطالي أن المهرجان الذي افتُتِح في عام 1951 لم يكن فقط أداةَ منافسةٍ تخدم الجهاز الأيديولوجي الديمقراطي المسيحي، بل كان معبرًا مخلصًا عن عادات الأمة الخاصة. فبالنسبة إليه، كان المهرجان الذي تتنافس فيه أغنيات إيطالية حصرية مسرحًا للحرب بين القديم والحديث، وبين المحافظ والتقدمي، لأجل الهيمنة. وأصر على ضرورة التركيز على الرسائل التي تُبثُ من سان ريمو إلى كل بيت في إيطاليا.

وعلاوةً على ذلك، كان للحزب الشيوعي خبرته التي امتدت لعقود في الموسيقى الشعبية. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرةً فصاعدًا، أطلق الحزب احتفالات الوحدة المحلية والقومية التي يتحدث فيها أنصار الحزب مع بعضهم البعض عن السياسة وينظمون النضال سويًا ويأكلون ويشربون ويرقصون معًا؛ وباختصار: يحتفلون معًا. فإلى جانب استضافة وفود من الجمهوريات السوفيتية الشقيقة والقيام برقصات شعبية في أزياء تقليدية، كان هناك مطربون إيطاليون تقليديون، وفنانو بوب صاعدون وكتّاب أغانٍ يساريون مثل كلوديو ڤيلا (Claudio Villa) وجياني موراندي (Gianni Morandi) وفابريتسيو دآندري (Fabrizio De Andre).

كان هذا الخليط من الأذواق في الاحتفالات استجابةً لحاجة الشيوعيين تقديم تشكيلةٍ منوعة من الترفيه الذي يمكنه جذب العديد من الناس المختلفين ليحضروا، وفيهم مجموعة متنوعة من الشيوعيين من الرجال والنساء والعمال والطلاب والشباب والشيوخ. لكن «بيوت الشعب» (مراكز ترفيهية كالحانات) المنتشرة في كل إيطاليا كانت أكثر عملية في اختياراتها الثقافية والموسيقية. وإذ لم يكن هناك خط جمالي استراتيجي معين مفروضٌ من الأعلى (أي عبر الموسيقى السياسية الصارمة)، اعتمدت إدارة هذا النشاط الترفيهي الشيوعي على حسن نوايا وجهود المنظمين المحليين من الأفراد. فطوال العام، كانوا يقيمون حفلاتٍ تغني فيها فرق ومطربون ومؤلفون، وتُقام فيها مسابقات بين المطربين المحليين مع ليالٍ راقصة لا تُفوَّت.

باخ ضد تراڤولتا… وديلان

قامت «مدينة المستقبل» في فبراير/شباط عام 1979 باستطلاع رأي على ألف شخص: ما أكثر ذوق موسيقي منتشر بين قرائها، ومن ثم بين الشيوعيين؟ صدّرت الجريدة الاستطلاع بالعنوان التالي: «باخ أم جوتشيني أم جون تراڤولتا؟» (تناظر مكانة فرانشيسكو جوتشيني كمغنٍّ ومؤلف يساري بالنسبة للحركة الطلابية الإيطالية في عهد 1968، ما كان عليه بوب ديلان في أولى سنواته بالنسبة لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة).

أشار هذا العنوان الاستفزازي إلى البدائل الثلاثة: الموسيقى الكلاسيكية (التي كانت تعتبر «ثقافةً عالية» أساسية، ومعيارًا ذهبيًا) والغناء والتأليف (اليساري الملتزم سياسيًا والموجه لجيلٍ بعينه)، وموسيقى الاستهلاك الجماهيري (نجومية تراڤولتا الحالية التي تأكدت بعد نجاح فيلميه «حمى ليل السبت» و«الشحم» في إيطاليا العام السابق).

وكما قال بودا في مقالةٍ أخرى:

لقد رد البعض: «كيف يعقل أن تُهجر مبادراتٌ سياسية جادة في الوقت الذي تنجح فيه هذه التفاهات؟». إن الواقع يقول إن العديد من الرفاق يعتبرون، بتحيز نموذجي لدى المنخرطين في التنظيم السياسي (وهو أمرٌ «جاد» بالفعل)، أن ظواهر كالموسيقى والرقص وأشكال الترفيه والثقافة الجماهيرية الأخرى مجردُ تفاهات، إما غريبة أو غير ذات جدوى… لكن هذه التوجهات نفسها وإظهار عدم الاهتمام بهذا النوع من المسائل والتفكير بأن ما نفعله يكفي، هو ما يخلق الاغتراب عن السياسة ويبرز انفصال «السياسي» عن «الشخصي» في حياة الشباب وطليعتهم البارزة، وخاصةً بين الشباب ممن ناقشنا معهم في الشهور السابقة بالفعل أن هذا الانفصال من بين الأسباب الرئيسية للصعوبات التي تواجه منظمة الشباب الشيوعي في ممارسة السياسة الجماهيرية.

جاءت نتيجة استبيان «مدينة المستقبل» بأن فرانشيسكو جوتشيني وجيوڤانا ماريني هما الأكثر شعبية في إيطاليا (وهما اثنان لا يختلفان عن بوب ديلان وجوان بايز اللذيْن خرجا في الاستطلاع بوصفهما أكثر مغنييَن منفردَيْن عالميين شعبية). كانت الألبومات الأغاني الأجنبية الأكثر رواجًا بين الشيوعيين الذين راسلوا الجريدة هي ألبوم ديلان «Street-Legal» وألبوم نيل يونج «Comes a Time»، لكن جاءت الموسيقى التصويرية لفيلمي «حمى ليل السبت» و«الشحم» في المركزين الثالث والرابع. وأشار الاستطلاع أيضًا إلى تفضيلات معينة لنجوم الموسيقى الاستهلاكية من أمثال باتي سميث وديڤيد باوي وفريق جينيسيس ممن حصلوا على ترتيب مرتفع.

لا يُستغرب الإعجاب الخاص لدى الشباب الشيوعيين بالإنتاج الملتزم سياسيًا لدى مغنيين ومؤلفين يتحدثون عن أمريكا مختلفة ويحطون من شأن دولة إيطاليا القائمة. وهذا التفضيل لا شك غنيٌ عن البيان. لكن من الأنفع أن نركز على هذا الاضطراب القائم في الانسجام الذي مثلته (لحسن الحظ) «التراڤولتية»، والذي يمنعنا من التفكير في المجيبين على الاستطلاع وفي الشباب الشيوعي باعتبارهم جيشًا من الآلات يلتزمون ببعض التفضيلات الموسيقية المقدسة سياسيًا.

وكان ذلك انفصالًا أيضًا عن افتراضات معينة سابقة. فقد تأسست مجموعة الموسيقيين اليساريين المسماة «المؤلفون الطليان الجدد» (Nuovo Canzoniere Italiano) في عام 1964م، وارتبطت برموز من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية وكذلك أقصى اليسار، وعلى الرغم من أنهم بدأوا ببعث تقليد أغاني الاحتجاج حتى من خلال مجلتهم التي حملت نفس الاسم، فإنهم انتهوا بحلول عام 1978 إلى فرقة جماهيرية عادية.

كانت موسيقى الديسكو ومقاطع فيلم «الشحم» بعيدةً عن هذه الأغاني السياسية لدى الشباب الشيوعيين الطليان، لكن كان من الممكن أن يجتمع حب النوعين لدى البعض. أشار ذلك إلى أن شبح «الهروبية» المخيف، الذي رآه الحزب الشيوعي تجسيدًا للتلاعب الرأسمالي، لم يكن مفيدًا في تفسير أي شيء. وكان شبح الهروبية هذا منفصلًا كذلك عن أي قيمةٍ سياسية، وكان مجرد وَحْشٍ مصطنع رفعه النشطاء الأكثر جديةً – أو الأكثر تزمتًا – في وجه زملائهم الأصغر سنًا.

وقد خسر بالفعل كلُ من يناضل فقط إلى جانب من يسمع نفس نوع الموسيقى الذي يفضله. فالتعريف عبر نوعٍ موسيقي معين قد يكون نوعًا مريحًا من الرابط التكتيكي بين من ينتسبون إلى المجموعةِ نفسها. لكن التشديد على هذا النوع من الخيارات يؤدي إلى رؤيةٍ أوسع غير قادرةٍ على التعامل مع الثقافة الجماهيرية التي تتشكل من كل ما حولنا، إذ يحرفُ هذا التشديد النشاطَ السياسي عن الطريق عبر [بنائه] تصورًا مثاليًا للثقافة منفصمًا عن الأذواق الجماهيرية، ومن ثمّ منفصلًا عن الواقع. وبدلًا عن ذلك، يجب أن تكون البداية من الأمور الملموسة. فكما قال جرامشي في «دفاتر السجن» (بتصرُّف):

إن أساس الثقافة الجديدة لا يمكن أن يكون إلا الشائع تاريخيًا وسياسيًا. إذ يجب أن يهدف إلى بلورة ما هو قائم بالفعل، سواءً بشكل جدلي أو بأي طريقةٍ أخرى لا يهم. لكن ما يهم هو أن تضرب بجذورها في تربة الثقافة الجماهيرية كما هي، بأذواقها وميولها وبعالمها الأخلاقي والفكري، حتى وإن كان رجعيًا وتقليديًا.

 إن الوصول إلى نتائج سياسية حقيقية في هذا المشهد هو بالطبع مهمةٌ شاقة للغاية. لكن المقاربة الأساسية التي أشار إليها جرامشي تحمل كثيرًا مما يجب أن نتعلمه. إن المنتجات الثقافية لا يجب محاكمتها وفقًا لمثال معين من الثقافة العالية، بل يجب أن يُنظر إليها في سياقها الخاص وبما تحمله من مغزىً للجمهور المستهدف. وبغير فهم هذا السياق، لا يمكننا فهم أي شيء في المعركة القائمة حول المشهد الثقافي.

هل سيؤثر جون تراڤولتا إن غنّى في غابة؟ نعم؛ إن كان هناك من يستمع إليه.