في مطلع هذا العام كان الكثير من المحللين الاقتصاديين يشعرون بالتفاؤل، فبعد سنوات من تراجع المصريين عن معدلاتهم المعتادة في الاستهلاك، بسبب الغلاء الذي أعقب التعويم، رأى الخبراء أن عام 2020 ستكون سنة استقرار الجنيه وتحسن مبيعات الشركات.

وجاء فيروس كورونا ليضيف بعدًا جديدًا لهذا المشهد، فهو من جهة دفع المستهلكين للتوسع في شراء الاحتياجات الأساسية بقوة، بسبب رغبة الكثيرين بالبقاء في المنزل لتجنب العدوى.

ولكن من ناحية أخرى، بات يهدد الاقتصاد بأكمله بالتباطؤ، وبالتالي الإضرار بحركة الاستهلاك والمبيعات على المدى المتوسط.

سنحاول قراءة الميول الاستهلاكية للمصريين في هذه الفترة الحرجة من خلال بياناتنا الاقتصادية الأخيرة.

لماذا كان يشعر محللو الاقتصاد بالتفاؤل؟

بداية، فإن الاقتصاديين مشغولون بقراراتنا الاستهلاكية لما تمثله من أهمية لنمو الاقتصاد، خاصة وأن الاقتصاد المصري يعتمد بدرجة كبيرة على الطلب الاستهلاكي المحلي من أجل تنمية ناتجه الإجمالي، بالنظر لتواضع قدراتنا على التصدير للخارج.

وبحسب المجموعة المالية هيرميس، فإن الطلب الاستهلاكي الخاص في مصر سجل واحدة من أضعف معدلات نموه خلال العقود الأخيرة، حيث نما بأقل من 1% خلال تسعة أشهر من العام المالي الماضي، وهو ما يقل عن معدل نمو السكان بـ 2.5%.

ورأت العديد من الجهات البحثية أن عام 2020 قد يكون السنة التي يستعيد فيها المصريون إقبالهم على الشراء بنهم أكبر، وهناك عدة عوامل تتكرر في التحليلات الأخيرة تدعم هذه الرؤية المتفائلة، على رأسها بطبيعة الحال استقرار الجنيه أمام الدولار خلال الأشهر الأخيرة.

فقد كان السبب الرئيسي وراء صدمة ارتفاع الأسعار منذ 2016 ، التي دفعت الكثير من المواطنين للحد من نفقاتهم الاستهلاكية، هو تعويم الجنيه في نوفمبر من هذا العام، والذي أفقد العملة الوطنية أكثر من نصف قيمتها وأدى لمضاعفة أسعار الكثير من السلع.

ومنذ بداية العام الماضي كان الجنيه يتعافى أمام الدولار بشكل تدريجي، حيث كانت العملة الأمريكية عند قرب الـ 18 جنيهًا في يناير/ كانون الثاني 2019، وظلت تنخفض حتى كسرت حاجز الـ16 جنيهًا في بداية هذا العام.

هذا بجانب هدوء ارتفاعات معدل التضخم، فقد وصل المؤشر لمستويات قياسية في 2017 (متجاوزًا 30%) متأثرًا بسلسلة من الزيادات في الأسعار الناتجة عن تراجع قيمة الجنيه، لكنه اتجه بعد ذلك للانخفاض ونزل عن مستوى الـ 10% في يونيو الماضي.

كما يرى محللون أن الكثير من العاملين بأجر استطاعوا في الوقت الراهن أن يصلوا مع أصحاب العمل إلى اتفاقات لزيادة الأجور، بما يجعلها تتماشى مع مستويات المعيشة في عصر ما بعد التعويم، وهو ما يعزز من قدرتهم الشرائية.

وتمثل القروض الاستهلاكية مصدرًا أيضًا لتمويل المشتريات، ومن المرجح أن تنتعش تلك القروض بشكل أكبر بعد التخفيضات الأخيرة التي أجراها البنك المركزي على أسعار الفائدة.

وكان البنك المركزي قام برفع الفائدة بشكل عنيف بعد التعويم، إعمالاً للقاعدة الكلاسيكية التي تقول إنه في حالة ارتفاع التضخم يجب جذب الناس لوضع سيولتهم في البنوك عن طريق الفائدة المرتفعة حتى يقللوا من معدلات استهلاكهم فيتم الحد من التضخم، وقد بدأ المركزي في التراجع عن سياسة الفائدة المرتفعة بالتزامن مع اتجاه التضخم للانخفاض.

وهذا الشهر قرر البنك المركزي تطبيق خفض قوي في أسعار الفائدة بنسبة 3%، لتشجيع عمليات الإقراض للشركات والأفراد، وعزز المركزي من القروض الاستهلاكية بقرار ثانٍ برفع حظر التعامل عن الأفراد المتعثرين في قروض شخصية.

أضف إلى العناصر السابقة أن برامج تقليص الإنفاق على الدعم التي بدأتها الدولة بشكل ممنهج منذ 2014 قد انتهى تنفيذها، وهو ما سيقلل من فرص حدوث قفزات الأسعار التي شهدناها في الفترات الأخيرة، أو كما تقول المجموعة المالية هيرميس فإن الاقتصاد «ينفض عن نفسه ببطء غبار التقشف».

 فقد أنهت الحكومة عملية تحرير أسعار الوقود والكهرباء وبدأت منذ أكتوبر في عملية التسعير التلقائي للبنزين، وهو ما يعني أن أسعار الطاقة اقتربت من سعر السوق ولا يُتوقع أن تشهد قفزات متتالية مثل التي شهدتها خلال السنوات الماضية.

في ظل هذا الاستقرار المرجح في الأسعار والزيادة التي حدثت في الأجور، يرى خبراء الاقتصاد أن المواطنين سيكونون أكثر إقبالا على الاستهلاك، وأن معدلات الإنفاق على الاستهلاك الخاص ستنمو بشكل أقوى، بعد أن سجلت معدلات نمو ضعيفة للغاية خلال السنوات الأخيرة، كما يظهر من الرسم التالي المقتبس من تقرير لشركة بلتون.

المصدر: التقرير السنوي لشركة بلتون. (معدلات النمو بدءًا من العام المالي 2019 -2020 معدلات متوقعة وليست فعلية).

هل هو تفاؤل مبالغ فيه؟

بالطبع فإن هناك العديد من العوامل التي تجعلنا لا نزال مترددين بشأن التمادي في الاستجابة لرغباتنا الاستهلاكية المكبوتة على مدار السنوات الأربع الماضية.

بداية، فإن انخفاض معدل التضخم لا يعني أننا عدنا إلى مستويات الأسعار السابقة على التعويم، الغلاء الذي حدث منذ 2016 لا زال كما هو، الجديد فقط هو أن هذا الغلاء لا يتفاقم بوتيرة سريعة مثلما كان الأمر من قبل.

هذا بجانب أن معدلات التضخم منذ سبتمبر الماضي لا تعكس حقيقة هذا المؤشر، فقد بدأ جهاز التعبئة والإحصاء في سنة أساس جديدة للمؤشر منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، بالإضافة لتعديله للأوزان النسبية التي يتم على أساسها إعداد الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، وهي كلها عوامل ساهمت في تخفيض التضخم وكانت محل انتقاد من بعض الخبراء، بالنظر إلى أن تعديل سنة الأساس ينحي أثر تضخم ما بعد التعويم من المؤشر، كما أن الأوزان النسبية الجديدة رأى البعض أنها لا تعبر عن حقيقة معيشة المواطنين.

أما عن الأجور، فيقول تقرير بلتون إنها لم تزد خلال 2019 بالمعدلات القوية المطلوبة التي تجعلها مسايرة للأسعار.

وصحيح أن إجراءات التقشف انتهت بنهاية برنامج صندوق النقد خلال العام الماضي، لكن جهة مثل وحدة بحوث بلتون ترى أن معدلات نمو الاستهلاك حتى وإن نمت خلال العام الجاري ستظل تنمو بأقل من معدلات النمو في 2007-2008، وذلك لأن توافر دعم الطاقة في هذا الوقت كان يساهم في إبقاء أسعار السلع عند مستويات منخفضة نسبيًا قياسًا للوضع الحالي.

حتى استقرار الجنيه يراه البعض عاملاً غير كافٍ للتحفيز على الاستهلاك بشكل أكبر، حيث تقول شركة فاروس إنه عندما كانت العملة المحلية تتراجع أمام الدولار كان المواطنون يقبلون على الشراء خشية أن تتزايد أسعار السلع بشكل أكبر في المستقبل، لكن مع استقرار العملة مال البعض لتأجيل قرار الشراء حتى يطمئنوا إلى أن الدولار وصل إلى قاع انخفاضه.

هذا كله بجانب المخاطر الاقتصادية التي استحدثها انتشار فيروس كورونا، والتي تهدد العالم كله بتباطؤ اقتصادي، وضعف نشاط السياحة، وارتفاع في أسعار المنتجات بسبب تعطل الإنتاج، وقد تتأثر مصر بهذه العوامل مما ينعكس على توفير فرص العمل وعلى مستويات دخول العاملين.

ما الذي تخبرنا به نتائج الأعمال في 2019؟

بنظرة سريعة على إفصاحات شركات المنتجات الاستهلاكية المقيدة في البورصة المصرية، بخصوص نتائجها المالية في 2019، نستطيع أن نرى بوضوح كيف كانت تتكرر شكاوى هذه الشركات من ضعف القدرة الاستهلاكية.

مثلاً شركات القطاع الغذائي، وهو القطاع الذي يفترض أن الطلب عليه غير مرن، بمعنى أن المواطنين لا يقللون بسهولة من مشترياتهم لهذه المنتجات حتى إذا زادت أسعارها.

تقول مثلاً شركة جهينة إنها زادت من قيمة مبيعاتها العام الماضي 7.6% «بالرغم من التحديات التي يشهدها السوق، حيث لا زال ضعف القدرة الشرائية وعدم تعافي الشريحة الأكبر من المستهلكين هو التحدي الأساسي لنمو السوق».

ما تقوله جهينة لا يعني أن كل المصريين قللوا من إنفاقهم على المنتجات الغذائية خلال الفترة الماضية، ولكن في الوقت الذي كان البعض يتقشف فيه كانت الشرائح الغنية تتوسع في الاستهلاك، إلا أن استهلاك الغالبية يظل هو المحرك الرئيسي للسوق.

تقول وزارة الزراعة الامريكية في تقريرها لعام 2019 عن مبيعات التجزئة في مصر، إن “مستهلكي فئة الدخول العليا كانوا أقل تأثرًا بالتضخم وتنامي التقشف الحكومي، بينما المشترون من الفئات متوسطة ومنخفضة الدخل كانوا مجبرين على تعديل نمطهم الاستهلاكي”.

لا يعني ذلك أن أنشطة الأغذية معطلة في مصر، فلا زالت العديد من شركات هذا القطاع تحقق نموًا لا بأس به في أرباحها كما يظهر من الرسم التالي.

الأرباح الصافية في 2018 و 2019 بالمليون جنيه (المصدر: البورصة المصرية)

لكن البعض تكبد الخسائر بسبب عدم قدرة المنتجين على زيادة أسعار الأغذية بما يتماشى مع الارتفاع في تكاليف الإنتاج، يظهر ذلك بوضوح في نتائج أعمال شركات الدواجن، والتي عانت من ارتفاع أسعار الأعلاف بعد التعويم.

الميل للتقشف لا يعني أننا لا نتعرض لغواية السلع الإلكترونية والكهربائية، فكما يظهر من نتائج أعمال شركة إم إم جروب، وهي إحدى شركات التوزيع الكبرى في مصر، فإن الإقبال على هذه المنتجات قد تعرض لصدمة قوية في 2017، ولكنه تعافى قليلاً في 2018 وعاد للنمو بقوة في 2019.

 

ولكن علينا أن نلفت إلى أن قيمة المبيعات لا تعكس فقط الإقبال على الشراء، ولكن أيضًا الزيادات السعرية الكبيرة التي شهدتها المنتجات الإلكترونية والكهربائية بعد التعويم.

وكذلك يأخذنا الحماس أحيانًا لتجديد شكل المنزل في هذه الظروف الصعبة، شركات مثل النساجون الشرقيون لمنتجات السجاد تراهن على هذا الحماس لتنمية أرباحها، لكن وحدة أبحاث بلتون تخبرنا في تقريرها السنوي إن النساجون قد تستهدف هوامش ربحية أقل مما كانت تحققه من قبل، من أجل أن تجعل زيادة الأسعار (متدرجة) غير صادمة للمستهلكين.

على أي حال، بالتأكيد نحن أقل تسرعًا في حسم قراراتنا الاستهلاكية بشأن السلع المعمرة مرتفعة الثمن، وهذا التردد ربما تزايد بشأن السيارات خلال العام الماضي، في ظل شعور المستهلكين بمغالاة وكلاء السيارات في تحديد هوامش ربحيتهم، وتطلعات المستهلكين أيضًا للاستفادة من رفع الجمارك عن السيارات الأوروبية، وهي العوامل التي ساهمت في تراجع حركة البيع في هذا القطاع خلال العام الماضي.

ونفس الحال مع النشاط العقاري، حيث تخبرنا شركة طلعت مصطفى (والتي تعد من أضخم شركات هذا القطاع حيث بلغت مبيعاتها العقارية العام الماضي فقط 20.4 مليار جنيه) أن السوق شهد تباطؤًا ملحوظًا في 2019.

وتقول الشركة في إفصاحها للبورصة إن حركة السوق العقاري شهدت «تباطؤًا ملحوظًا خلال النصف الثاني من 2019، والذي دل عليه قيام بعض المطورين العقاريين بطرح عروض بيعية تشتمل على إتاحة مدد تقسيط أطول مع عدم اشتراط دفعات مقدمة أو تخفيض لأسعار البيع وذلك بهدف زيادة مبيعاتهم».

المصدر: البورصة المصرية (بالمليار جنيه)

ربما تراجع أو محدودية نمو أرباح العديد من الشركات العقارية خلال العام الماضي أن السوق المصري تشبع بشأن العقارات الفاخرة التي يركز عليها الكثير من المطورين العقاريين في الوقت الراهن، أو ربما يكون هذا التباطؤ بسبب تراجع المصريين قليلاً عن شراء العقار كأداة للمضاربة أو كحماية للمدخرات في ظل استقرار العملة المحلية.

باختصار، فإن نتائج 2019 تُظهر لنا أن المستهلك المصري لا يزال مُنهكًا من صدمة التعويم، بالرغم من أن العام الماضي كان عام تعافي الجنيه أمام الدولار، والسنة الجديدة تأتي بتحديات تهدد الحلم الوردي بصحوة هذا المستهلك ومن أبرز هذه التحديات بالطبع فيروس كورونا.

 كما أن تآكل دولة الرفاه المصرية في ظل الطريقة المتسارعة للتخارج من سياسات الدعم مع ضعف سياسات الأجور في مصر كلها عوامل تكبل من فرص انطلاق هذا المستهلك،وتعوق بالتبعية من نمو الاقتصاد.

نضيف إلى ذلك المخاطر التي استحدثها فيروس كورونا، والتي لا يزال من الصعب التنبؤ بها، لكنها بشكل عام تهدد بتعطل الإنتاج في العديد من المواقع، بالإضافة إلى تراجع إيراداتنا الدولارية، الأمر الذي قد يؤثر على سعر الدولار ويعيد الجنيه إلى عدم الاستقرار.