الأم هي عالم الطفل وكل ما له، تلاعبه فيبتسم عالمه، تضحك فيضحك كل ما له، إن غابت دون مقدمات اختفى كل هذا وتهدد أمانه فهو وحيد متروك فقدَ مرساه. هل هذه أمور تستدعي البكاء؟، والنحيب كذلك، فمصدر الآمان في هذا العالم لم يعد موجودًا ولا يمكن توقع ماذا يمكن أن يحدث، كل شيء مُهدد!.

والأمر يحتمل ما هو أصعب،الدراسات الحديثة تقول إن الطفل لا يدرك في شهوره الأولى أن أمه ذات إرادة خاصة وكيان مستقبل يمكّنها من الانفصال عنه، نحن متلازمان، أنتِ لي وأنا منك، هذا هو ميثاق الطفل في شهوره الأولى.

و يؤكد (إريك إريكسون) عالم النفس الكبير الذي طوّرت نظرياته علم نفس الطفل: «أن مراحل النمو النفسي تنقسم لعدة مستويات، أولها (مرحلة الثقة/انعدام الثقة) والتي تستمر منذ ولادة الطفل حتى 18 شهًرا، وفيها يبني الطفل اطمئنانه وثقته في العالم كله على هذه المرحلة، فهي التي تحدد ما إذا سينشأ خائفًا مرتعدًا من أي تفصيلة غير اعتيادية، أو واثقًا مطمئنًا لما حوله، فأمي هنا في الجوار. كل هذه المشاعر يتحكم فيها شيء واحد؛ ثقة الطفل في والديه».

فيكِ يا أمي يختزل طفلك العالم كله، إن عاملتِه جيدًا، فالعالم مكانٌ جيدٌ مُحبٌّ جدير بالثقة، إن كنتِ غير موثوقة مُخادعة فالعالم قاسٍ كاذبٍ يستحق الخوف والصراخ عند أدنى بادرة خوف.

هنا في هذه الأشهر القليلة، تتوقف ثقة طفلك وشخصيته الآمنة طوال حياته.

لكن في نفس الوقت تفهمنا للحب الطفولي هذا، حتى أننا نشبه به حب الكبار المُتملك في بعض الأحيان، لا يعني التسليم بذلك التملُّك المُرهق، فلا أمٌ يجب عليها أن تلتصق بطفلها طوال اليوم لأي سبب كان، هذا قاتل لنفسيتها وسيطال القتل شخصية طفلها بعد ضياع روحها.

فكيف يمكننا إذًا معادلة الأمرين، إعطاء حرية التواجد/عدم التواجد للأم، وطمأنة الطفل والحفاظ على ثقته؟، هل يمكن الجمع بين النقيضين؟، نعم لأنهما ليسا نقيضين، فقط الطفل لا يفهم، ودورنا أن نقوم بإفهامه.


ما لا أراه غير موجود

الطفل في هذه المرحلة لا يقتنع بوجود ما لا يراه أو يلمسه بشكل مباشر، هذا عامل مهم في فقده الثقة في الأشياء التي ليست أمامه وليست في متناوله، هذا سبب البكاء كلما تركتِه وذهبتِ لأي مكان حتى لو كان الحمام!.

لذلك البداية هي إفهام الطفل حقيقة أن (غير المرئي) (موجود)، أمك لو لم تكن أمامك فهي لا زالت موجودة، أنت لا تراها لكنها هنا في الجوار، هل يمكن فعل هذا؟، نعم، ببعض التمرينات التي تُكسب الطفل الثقة في نفسه، وحواسه والموجودات من حوله، وفيكِ.


تمارين الثقة

1- البدء عند نهاية الشهر الثالث بإخفاء أدوات الطفل وأشيائه المُحببة أسفل الوسادة، ومن ثم سؤاله بمرح أين اللعبة؟، ثم إخراجها من أسفل الوسادة وإظهارها له مرة أخرى، لكن علينا فعل بعض الأشياء لحيازة النتيجة الكاملة:

  • التحرك ببطء في العموم، سواء حركة اليد عند إدخال اللعبة أسفل الوسادة أو عند إخراجها، الطفل لا يتابع الحركات السريعة جيدًا في هذا العمر.
  • أثناء الحديث، الطفل ينظر لوجهك في الأساس، عند إخراج اللعبة لا تمسكيها بيدك أمام صدرك، بل ضعي اللعبة أمام وجهك في الأعلى ليشاهدكما الطفل معًا في مشهد واحد، لا تضطريه للنظر أسفل ثم أعلى ثم أسفل، لن يلاحقك جيدًا وستفقدين جانبًا من ملاحظته.
  • أنتِ وكل ما يحدث يجب أن يكون قريبًا من عين الطفل بمساحة قليلة كي يرى بوضوح، حوالي 30-50 سنتيمترًا.
  • الأداء السينمائي الواضح الكارتوني مهم، الأصوات الرفيعة العالية المتبوعة بالأصوات الهادئة الهامسة المُتبعة بالابتسامات الواسعة والعين الواضحة أثناء التمرين ستحافظ على انتباه طفلك لكِ لفترة طويلة، كذلك التصفيق فور إخراج اللعبة واستخدام كلمات الاستحسان الخاصة بكما، كرري مرة بعد مرة وبعد أيام قليلة، سيبدأ طفلك في مد يده أسفل الوسادة لإخراج اللعبة بنفسه، الآن بات يعرف أن عدم وجود اللعبة أمامه لا يعني أنها غير موجودة أصلاً، لا يجب أن أراها كي أتوقع مكانها، ها هي هناك.

الآن نستبدل الأم باللُعبة، فهي لن تكون هناك، لكن سيمكن لطفلها توقع مكانها والاطمئنان لوجودها.

2- قفي على باب الحجرة في موضع يراكِ فيه الطفل لكنه يسمح في نفس الوقت بالاختفاء عن نظره بحركة جانبية، حدِّثي الطفل بالطريقة السينمائية سابقة الذكر، أصدري أصواتًا مثل (عن – بخ) لضمان جذب انتباهه ثم اختفي لثوانٍ وأنتِ مستمرة في الحديث، ثم أظهري نفسك له فجأة بحركات مَرحة، بجانب استمتاع الطفل بهذه اللعبة، هو يحاول أن يدرك الآن ما يحدث وسنستمر في مساعدته على الإدراك أكثر، سنختفي في المرة القادمة دون أن نصدر صوتًا ثم نظهر أنفسنا. سنطيل الاختفاء في المرات القادمة لوقتٍ أطول، ثم نُظهر أنفسنا، يجب أن يتقبل الطفل هذا التمرين دون بكاء للانتقال للخطوة القادمة.

3- عندما يستيقظ الطفل من النوم وأنتِ خارج الغرفة، لا تجري ناحيته للحاق به، بل عند سماع صوت البكاء أصدري صوتًا مستمرًا من مكانك البعيد، (بسبسة) أو صفيرًا يتخلله صوتك أو محادثتك له: (حاضر – جايّة)، واستمري أثناء قدومك في اتجاهه. حاسة السمع لدى الطفل مطورة بشكل جيد ربما منذ ولادته في الأيام الأولى ويمكن الاعتماد عليها في تحديد الطفل لمكانك وفقًا لمكان صدور صوتك، سندربه على هذا مرة تلو الأخرى فسيربط قريبًا، اقترابك باقتراب الصوت، ومكانك بمكان صدور الصوت، ووجودك وأنتِ غير مرئية أصلاً، وسيفهم كل شيء. بضع مرات أخرى وعند أول (بسبسة) أو صفيرٍ سيصمت عن البكاء منتظرك، لكن استمري في إصدار الصوت كي يمكنه تحديد مكانك والوثوق في حضورك رغم عدم رؤيتك.

لن أحكي لكِ كم يكون هذا مريحًا عندما تكون الحلّة الساخنة في يد الأم والطفل يستيقظ فجأة مفزوعًا باكيًا، أو عندما تكونين في الحمام والطفل يبدأ البكاء، بصوت بسيط، سيصمت طفلك وينتظرك، ربما لدقيقة كاملة في هدوء سينتظرك حتى تأتين، فالطفل لم يعد مؤمِنًا كما كان أن وجودك أمام عينيه فقط هو السبيل الوحيد لتأكيد وجودك، هو فقط كان يريدك حوله، وأنتِ أثبتي له أنك فعلاً في نطاقه ومحيطه. ربما بين الفينة والأخرى يستخدم صوته أو بكاءه البسيط للنداء عليكِ، لكن بمجرد طمأنته في المرة الأولى سيهدأ. هو لم يعد خائفًا، لقد دربتِ عقله ووسعتِ إدراكه بمفاهيم لم يكن ليدركها بمفرده قبل شهور إضافية، الآن بات طفلك يعرف أن أمه هنا، العالم كله هنا فلا داعٍ للخوف المحموم الذي كان.

4- حذاري وخداع الطفل أو إجباره على قبول الترك مرغمًا، أو الاستمرار رغم البكاء، الطفل لا يتعلم أثناء البكاء، وهذه التمارين تحتاج لتركيزه وإدراكه الكامل، لذلك إن بكى واستمر، نستثني كل شيء ونجلس معه فلا داعٍ لإجراء التدريبات فربما طفلك ليس بخير.

5- في الشهور المتقدمة قليلاً وعندما يبدأ في الحبو والتنقل في المنزل، عززي التمرينات بأخرى: اختبئي خلف ستائر المنزل وأظهري نفسك، أيضًا طفلك في هذا العمر سيقوم بإظهار اللعب التي تقومين بإخفائها وسيقوم بمحاولة جذب الستارة عنك لكشفك. مبروك، نتيجة كاملة في اكتساب الثقة وتنمية إدراك طفلك.

6- الآن سيتحقق الحلم بعيد المنال، سترين طفلك يجلس وحده في مكانه الخاص يلعب بمفرده -غير ملاصق لكِ- وأنت تتجولين في أرجاء المنزل تمارسين يومك الطبيعي، ربما يستمر هذا لساعة كاملة. والأهم، عندما تصلين لأشهد فترات (قلق الانفصال)في الشهر التاسع، سيكون طفلك هناك يعرف أن العالم مكان آمن يستطيع فيه توقع ما سيحدث، وأن أي مشكلة تطرأ لا قلق كبير منها فمصدر الدعم قادم بعد قليل، ستنعمين بالتفاهم مع طفلك وستسمعين حكايات الأمهات الذين لا ينفصلون عن أطفالهن ويلاصقونهن دومًا؛ وتفخرين لأن طفلك يفعلها ويجلس منفردًا مطمئنًا.

7- بين الحين والآخر سيمل الطفل ويطلب حضورك أو سيذهب لكِ مباشرة، لا تتجاهليه أو ترفضيه، لكن إياكِ وحمله، قفي أمامه أو اجلسي في مستوى نظره وحادثيه، أعطيه حنانًا وطمئنة وعوضيه عن الغياب بالتربيت على ظهره أو عناقه حتى، لكن لا تحمليه طالما الأمور طبيعية، لا نريد تحويل حاجته لرؤيتك والاطمئنان بوجودك، لأنه يريد أن يُحمَل.


في الشهور الـ 18 الأولى، ستتمكنين من الحركة وستمر عليكِ مرحلة قلق الانفصال في يسر وهدوء، ومكافأة إضافية لن يعتاد طفلك البكاء على الفارغ و الملآن، سيكون بكاؤه فقط عندما يوجد ما يستدعي ذلك، وعليك الإجابة الفورية حينها، فمرة واحدة يفقد فيها الطفل ثقته فيكِ، ستدفعين ثمنها الإعادة من البداية كأن ثقة من قبل لم تُكتسب.

هذه ليست آراء وتوجيهات علمية فقط، جربت أنا وزوجتي الأمر منذ بداية عُمر ابنتي وكانت النتيجة منقطعة النظير، تستمر نتائجها حتى الآن. سترين بنفسك.
المراجع
  1. How to Ease Your Child’s Separation Anxiety
  2. What Your Baby Knows About You
  3. Trust erickson stages – 1 Trust vs Mistrust When a child…
  4. Separation Anxiety
  5. Cognitive Development: 4 to 7 Months
  6. Developmental milestone: Separation and independence
  7. Erik Erikson, 91, Psychoanalyst Who Reshaped Views of Human Growth, Dies
  8. Erik Erikson