انتهينا في المقال السابق إلى أن المذهب الحنفي لم يوفَّق إلى تأسيس “حاضنة علمية” في مصر، رغم دعم الخلافة العباسية له؛ ومن هنا فقد بدا أقربَ إلى أن يكون “مذهبًا سلطويًّا” تفرضه الدولةُ فرضًا بإيثارها فقهاءَ الأحناف بمنصب القضاء، دون أن يتجاوز أولئك الفقهاءُ تلك الدائرةَ الضيقة إلى التغلغل في المجتمع المصري، على غرار فقهاء المذهب المالكي الذين كانت لهم “السيادةُ الشعبيةُ” آنذاك.

ومن الحقّ أننا لا نستطيعُ أن نتحدَّث عن وجود جماعي للحنفية في مصر قبل منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)؛ إذ رُزِق المذهبُ منذ ذلك التاريخ مَنْ توفَّروا على نشره والمنافحة عنه والعمل على ترسيخ جذوره في البيئة المصرية، وعلى رأسهم ثلاثةٌ من الفقهاء المحدِّثين، هم: القاضي بكار بن قتيبة، وأحمد بن أبي عمران، وأبو جعفر الطحاوي.

أمابكار بن قتيبة (182- 270هـ/798- 883م) فقد وُلد في البصرة ونشأ بها على رواية الحديث ودراسة الفقه على طريقة أصحاب الرأي، فأُوتي من التعمق فيه والإحاطة بمسائله ما دفع الخليفة العباسي المتوكل (232- 247هـ) إلى تعيينه قاضيًا على مصر، فرحل إليها سنة 246هـ/860م، متقلِّدًا قضاءها نحو أربعة وعشرين عامًا، كان خلالها مثالاً للفقيه العالِم والمحدِّث الثقة والقاضي النزيه، فلا عجب تعلَّق به أهلُ مصر وأحبُّوه، وأنساهم حسنُ سيرته تجبرَ سلفه ابن أبي الليث الحنفي الذي ساير السلطة العباسية في حمل الناس على رأي المعتزلة القائلين بخلق القرآن، إبان سنوات المحنة، ونكّل بفقهاء المذهبين المالكي والشافعي ممن رفضوا التسليمَ بهذا الرأي أو الإذعان لذلك الإرهاب الفكري .

ولقد بلغ من حبِّ المصريين بكارًا أنْ اعتقدوا فيه الوَلاية، ولهجوا بذكر مناقبه، بل إنهم اتخذوا قبره مزارًا، يلتمسون فى رحابه شيئًا من السكينة الروحية والاطمئنان النفسي، ويردِّدون في يقين وثقة أن الدعاء عنده مستجاب، على عادتهم في تقديس الأولياء والصالحين.

وفضلاً عن تلك الصلة الرُّوحية التي ألَّفت بين بكارٍ وأهل مصر، فقد أُتيحت له ــــ بحكم الإقامة الطويلة ـــــ فرصةٌ مثالية لنشر مذهبه، وبناء قاعدة واسعة من التلاميذ والأتباع. وكان مما أعانه على ذلك رسوخُ قدمه في علم الحديث، وتوسعه في روايته؛ إذ كان كما تصفه المصادر“محدِّثًا جليلاً”. وليس يخفى أن الحديثَ “أصلٌ نَصّي” لا يَسْتَغْني عنه فقيهٌ أو راغبٌ في دراسة الشريعة أيًّا كان مذهبه، وبعبارة أخرى: فهو أصلٌ محايدٌ يسمو على فكرة التمذهب ذاتها. ولعل بكارًا قد استدرك بذلك نقصًا طالما تعلّق به نقادُ المذهبِ الحنفي، ومدارُ ذلك النقد على اتهام صاحب المذهب بقلة الرواية وتقديمه الرأيَ والقياسَ على الأخذ بالحديث، وربما بُولغ في ذلك إلى حدّ وصم أبي حنيفة بتجاهل الحديث أو تعمد إهماله.

ومهما يكن من أمر، فقد أقبل طلابُ المعرفة الدينية في مصر ــــ باختلاف مذاهبهم ــــ على بكار يسمعون منه ويأخذون عنه مروياته الحديثية، مُذْ وطئت قدماه مصر إلى أن وافته المنية، حتى إنه حين أمر ابنُ طولون بسجنه كان يحدِّث الناس من طاق في محبسه([1]).

وكذلك فقد كان بكار حريصًا على إقامة علاقة طيبة مع فقهاء مصر (من المالكية والشافعية)، بالتودد إليهم، والمبالغة في إكرامهم، كأنه يريدُ أن يمحو بهذا المسلك المحمود إساءةَ ابن أبي الليث إليهم خلال سنوات المحنة([2]). وأخيرًا فقد ترك بكار بعضَ المؤلفات بدا فيها مُدَافِعًا عن مذهبه ضد المذهب الشافعي ـــــ الذي عرف طريقه إلى مصر أواخر القرن الثاني الهجري على نحو ما سنشير في المقال التالي ـــــ مثل ذلك الكتاب الذي “نقض فيه على الإمام الشافعي في رده على أبي حنيفة”([3]).

وهكذا فقد استقام لبكار من حسن السيرة في القضاء، ومن اتساع الرواية في الحديث، ومن رسوخ الملكة في الفقه، ومن رفعة المكانة في المجتمع= ما كان خليقًا أن يجعله رأسًا لمدرسة حنفية بدأ يتشكل“بناؤها الجماعي” في مصر، وهي المدرسة التي تأكَّد وجودها مع فقيه عراقي آخر ينتمي (جغرافيًّا) إلى بغداد، وهو أحمد بن أبي عمران (ت 280هـ/893م) الذي عاصر بكارًا، ونافسه في سعة المعرفة بالفقه والحديث، وانتهت إليه بعده رئاسةُ الأحناف في مصر([4]).

وأماأبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ/933هـ) فيمثِّل ظهوره منعطفًا حاسمًا في تاريخ المذهب الحنفي في مصر؛ ذلك أنه ـــــ في حدود اطلاعي ــــ أولُ فقيهٍ حنفي مُبرِّز ينتمي جغرافيًّا إلى البيئة المصرية بخلاف مَنْ تقدَّمه من الأحناف الذين وفدوا إليها من العراق، واقتصرت صلتُهم بها على ممارسة وظيفة القضاء.

وُلد أبو جعفر الطحاوي في قرية طَحَا بالمنيا، وانتسب إليها، فقيل:الطحاوي المصري. وقد افتتح دراسته للفقه بملازمة خاله المزني (الفقيه الشافعي الكبير)، ثم لم يلبث أن تركه مُؤْثِرًا الانحيازَ إلى مذهب أبي حنيفة، مُتَرسِّمًا خطى أستاذيه بكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران في طلب الحديث والتوسع في روايته، حتى بلغ رتبة الُحفَّاظ([5]).

وقد رُوي أن السبب الذي دعاه إلى ترك المذهب الشافعي أن خاله وأستاذه الأولَ المزني شكَّك يومًا في حسن استعداده للدراسة الفقهية قائلاً:“والله ما جاء منك شيءٌ”، فتركه الطحاويُّ غضبان أسفًا، مُقْبِلاً على مجلس ابن أبي عمران عازمًا على النبوغ في فقه أبي حنيفة، باعتباره أحد المذاهب المنافسة للمذهب الشافعي. وآخرون من كُتاب التراجم أنكروا أن يكون الغضب ــــ الذي هو لونٌ من ألوان الهوى النفسي ــــ سببًا لذلك التحول، ولكن الطحاوي ــــ في رأيهم ــــ وازن بين المذهبين موازنة دقيقة، أدت به إلى ترجيح المذهب الحنفي، وخاصة أن المزني نفسَهُ عُرِف بإدامة النظر في كتب أبي حنيفة، والانتفاع بطريقته في تأسيس الأحكام الفقهية([6]).

والواقع أن الطحاويّ كان مثالاً للفقيه الموسوعي الذي لا يقنع بدراسة مذهبٍ واحدٍ، ولا يُرضيه التفرغُ لمسلكٍ في النظر لا يعدوه إلى سواه؛ ولذا فقد ألزم نفسَهُ بدراسة المذاهب الأخرى، وأظهر في الإلمام بمسائلها ومنهجياتها ما أثار الإعجاب والتقدير؛ فأشاد به ابنُ عبد البر قائلاً:“كان عالمًا بجميع مذاهب الفقهاء”([7]). ولعل نظرةً سريعةً إلى مؤلفات الطحاوي تعكس ما كان يمتاز به تكوينه العلمي من رقي واستيعاب لمجمل معارف عصره، وخاصة في الفقه والحديث([8]). ولم يكن من المستغرب إذن أن تنتهي إليه “رئاسة الحنفية في مصر”، بعبارة المؤرخين وكتاب التراجم([9])، وهي العبارة التي تقطع بأن ثمة مدرسة للفقه الحنفي قد تشكلت، وأن وجودًا جماعيًّا قد تهيَّأ لذلك المذهب في مصر.

وفي نهاية القرن الثاني الهجري طرق المذهبُ الشافعي أبوابَ مصر طرقًا شديدًا، فكان ذلك إيذانًا باستقرار الفقه السُّني بها، وذلك هو موضوع المقال التالي بإذن الله، فإلى الملتقى.


([1]) لمزيد من التفاصيل عن السبب الذي دعا ابن طولون إلى حبسه، راجع: المقفى الكبير للمقريزي 2/444 وما بعدها.

([2]) ابن حجر، رفع الإصر عن قضاة مصر، ص 100.

([3]) راجع فيما تقدَّم عن بكار بن قتيبة: وفيات الأعيان 1/279، 282، رفع الإصر عن قضاة مصر، ص 98- 107، المقفى الكبير 2/443- 453.

([4]) عن ابن أبي عمران الحنفي راجع: طبقات الفقهاء للشيرازي، ص 140. وراجع أيضًا: المقفى 1/725، الطبقات السنية في تراجم الحنفية 1/315، حسن المحاضرة 1/385.

([5]) ولذا فقد ترجم له السيوطي ضمن من كان بمصر من حفاظ الحديث، مكتفيًا بالإشارة إليه حين تعرض لمن كان بمصر من فقهاء الأحناف. انظر: حسن المحاضرة 1/299.

([6]) الطبقات السنية في تراجم الحنفية 2/51.

([7]) السابق 2/50.

([8]) من مؤلفات الطحاوي في الحديث: “معاني الآثار”، و”شرح معاني الآثار”، و”شرح مشكل أحاديث رسول الله”. ومن مؤلفاته في الفقه: “المختصر في الفقه”، و”النوادر الفقهية”، و”اختلاف الروايات على مذهب الكوفيين”.

([9]) راجع فيما تقدم عن الإمام الطحاوي: طبقات الفقهاء للشيرازي، ص 142، المقفى الكبير 1/721- 724، حسن المحاضرة 1/299، الطبقات السنية في تراجم الحنفية 2/49- 50.