تُعتبر كلمة الوعي من الكلمات الفضفاضة في لغتنا العربية والتي من الممكن أن تجعلنا نُفكِّر في أكثر من معنى حال سماعها أو إذا ما وجدناها عنواناً لكتاب!

كتاب «الوعي» للكاتبة سوزان بلاكمور، أحد كتب سلسلة «مقدمة قصيرة جدًا» التي قامت مؤسسة هنداوي بترجمتها، وهي سلسلة مهمة لأي قارئٍ يودُّ أن يطلع على مواضيع وقضايا متنوعة بشيء من الإيجاز والعمق الشديدين كما هو واضح من اسم السلسلة، كما أنَّ منتجاتِ مؤسسة هنداوي بشكلٍ عامٍ غايةٌ في النفاسة والأهمية.

أما عن كتابنا «الوعي» فلأول وهلةٍ تحسب الكتاب يتحدث عن الثقافة والإدراك وأثرهم في حياة الفرد وما أهمية أن يكون الواحد منا واعياً بمعنى مدركاً وفاهماً لكل ما يحدث حوله من أحداث وتحولات، لكن بمجرد أن تتصفح ديباجة الكتاب وهو الفصل الأول الذي تحاول فيه الكاتبة إعطاء تعريف للوعي تجد أن الأمر مغايرٌ تماماً.

تقرأ السؤال الذي تطرحه الكاتبة في البداية وهو «كيف يُمكن لإطلاق النبضات الكهربية من ملايين الخلايا الدماغية أن يٌنتج تجربةً واعيةً شخصيةً؟» حينها تُدرك أنَّ الكاتبة تتحدث عن الوعي العصبي أو الدماغي، أي أنَّها ستتحدث من منظور علم الأعصاب والذي سيتقاطع ولا بد مع نظرات فلسفية مختلفة عادة ما تسبق نظريات العلم التجريبي وسيتلاحم ولا بد مع نظريات وأطروحات علم النفس الإدراكي، وإن كنتَ من أصحاب القراءة التفاعلية لكفاك أن تقرأ عنوان الكتاب الأصلي باللغة الإنجليزية (Consciousness) لتعلم أنَّ هذا الكلمة تعني الوعي بمعنى الإدراك الدماغي وليس معنى آخر ربما تحمله كلمة الوعي الفضفاضة حمَّالة الأوجه في اللغة العربية.

«كيف يكون الحالُ لو كنتَ خفَّاشاً؟» ،«كيف يكونُ الحالُ لو كنتَ كوباً؟» بهذين السؤالين تحاول الكاتبة صياغة تعريف الوعي، حيث أنها تعتبر أن قدرة الإنسان على تخيل نفسه خفاشاً هي تجربة واعية ذاتية للمرء، وأنَّه من السهل عليه أن يقول إنَّ الكوب ليس واعياً لذا لا أستطيع أن أتخيَّل نفسي كوباً، لكنَّ الأمر يُصبحُ أكثر تعقيداً في حالة الديدان والذباب والبكتيريا والخفافيش، وقد اختار طارحو هذا السؤال حيوان الخفاش بوجهٍ خاصٍ لأنه يختلف عنا نحن البشر بشكل كبير من حيث نظامه الحياتي.

الزومبي

بعيداً عن نظرتنا للزومبي التي شكَّلتها لنا السينما الأجنبية بأنَّه إنسانٌ نصفُ ميتٍ، فإنَّ الزومبي عند الفلاسفة وعلماء النفس لا نستطيع تفريقه عن الإنسان العادي، والاختلاف الوحيد هو أنَّ الزومبي لا يملك وعياً، أي أنه لا يستطيع أن يستخلص من المواقف تجربةً واعيةً شخصيةً، حيث تحدث كلُّ تصرفاته دونَ وعيٍ منه، والجدلُ دائرٌ في الأوساط الفلسفية على احتمالية وجود الزومبي، وحتى لو كان موجوداً كيف نستطيع أن نعرفه؟ إذ لا فرق بينه – ظاهرياً – وبين الإنسان العادي! هكذا أوضحت الكاتبة في سياق حديثها عن الزومبي.

المسرح الديكارتي

سرعان ما تعود الكاتبة لتحاول أن تصف الوعي، فتنتقل لنظريةٍ قديمةٍ حديثةٍ وهي «المسرح الديكارتي»، والنظرية تفترض أنَّك جالسٌ داخل مسرح هو العقل تُشاهد ما يحدث بخارجك من خلال شاشة هي العينان وسماعة هي الأذنان، ولعلَّ الفيلم الكرتوني «Inside Out» استمد فكرته من فكرة المسرح الديكارتي التي صاغها الفيلسوف الشهير ديكارت وسماها بهذا الاسم الفيلسوف دانيال دينيت.

تنتقل الكاتبة فيما بعد لتتحدث في الفصل الثاني عن «الدماغ البشري» وكيف تتم عمليات التحكم المختلفة سواء التحكم البصري أو السمعي، إلى جانب أنها تنتقل إلى مجموعة من المشاكل التي قد تصيب العقل بخلل في أداء وظائفه مما يؤثر بدوره على عملية تشكيل الوعي لدى الإنسان مثل حدوث السكتة الدماغية والعمه البصري وغيره.

العمه البصري

يُعدُّ العمه البصري من الأمور التي تفرض نفسها حال الحديث عن الوعي الدماغي، فالقولُ بأنَّنا أجسامٌ ماديةٌ غيرٌ واعيةٍ وأنَّ ما يحدثُ فينا عبارة عن تفاعلات كيميائية فقط يواجه مأزقاً حاداً في حالة العمه البصري، فالعمه البصري ليس فقدَ القدرة على البصر، وإنما هو فقدُ القدرة على التعرُّف على الأشكال والأنماط أو تمييز الحروف والأرقام، إذاً هنا المصاب يمتلك حاسة البصر المطلوبة لكنه يفتقد القدرة على تحويل مدخلات هذه الحاسة إلى تجربة واعية يستطيع أن يستفيد منها على النحو المطلوب، وفي هذا تقول الكاتبة:

تأتي المعلومات إلى العينين ويعالجها الدماغ؛ فيؤدي هذا إلى رؤيتنا الواعية لصورةٍ من العالم، وبناءً على ذلك يمكن أن نتفاعل معها. وبعبارة أخرى: يجب علينا أن نرى شيئاً على نحوٍ واعٍ قبل أن نكون قادرين على التفاعل معه. وقد ثبت أن الدماغ ليس مصمماً بتلك الطريقة على الإطلاق، وإن كان كذلك، فما كان لنا أن نستمر في هذه الحياة أبداً.

تنتقلُ الكاتبة في الفصل الثالث تحت عنوان «الوقت والمكان» لتحاول الإجابة على سؤال «هل يُمكن أن يتأخر الوعي عن أحداث العالم الواقعي؟»، وقد ركزَّت في ذلك على تجارب ليبيت التي زعم من خلالها أنَّ التجربة الواعية تحدث بعد نصف ثانية من بدء التحفيز، وهو ما ستوضحه أكثر في الفصل الخامس حينما تتحدث عن «الذات».

مشكلة الإرادة الحرة

تعقد الكاتبة الفصل السادس عن مسألة من أكثر المسائل التي أثارت العقل البشري طوال حياته وهي مسألة «الإرادة الواعية» هل نحن حقاً نمتلك إرادة تُمكننا من اختيار ما نقوم به من أفعال بشكل واعٍ؟ أم أنَّ الأمر يسير بدينامية متصلة لا دخل لإرادة الإنسان فيها؟

بشكلٍ مبسطٍ، فإن أغلب المسلمين يعتقدون بوجود تلك الإرادة وقد دللوا على هذا الأمر بأدلة عقلية كثيرة. أما الكاتبة، فقد ظهرت في شكل المتسائل الذي يحاول الإجابة ولا يحسمها، فهي تعرض آراء وتبنيات التوجهات الفلسفية المختلفة حول هذه القضية ثم بدت أكثر ميلاً نحو التوجه القائل بعدم امتلاكنا لإرادة واعية، كما أنها أشارت إلى أنَّ البعض – وهو رأي ليبيت – يرى أنَّ الإرادة الواعية تكمن في الامتناع عن فعل شيء ما وليس الإقدام عليه، وهو ما سماه «فيتو واعٍ»؛ «فالوعي – بحسب قوله – لا يمكنه بدء عملية ثني الرسغ، لكن يمكنه أن يعمل على منعها. بعبارة أخرى، على الرغم من أنه ليست لدينا إرادة حرة للفعل، فإن لدينا إرادة حرة لعدم الفعل».

بعد ذلك تتحدث الكاتبة عن تجارب مختلفة للإرادة الواعية وهي تتمثل في الأحلام وهل الأحلام تجارب حقاً، وتلفت النظر إلى تأثير العقاقير على الإدراك قائلة: «يُقدم تأثير العقاقير على الوعي الدليلَ الأكثر إقناعاً على أنَّ الإدراك يعتمد على الدماغ» وقد قدَّمت هذا رداً على من يعتقدون أن العقل منفصل عن الدماغ.

بدا جلياً في عدة مواضع أنَّ الكاتبة من أنصار نظرية التطور حيث عقدت الفصل الثامن والأخير عن «تطوَّر الوعي » وقد تحدَّثت عن هذه النقطة في الفصل الأول حينما قالت:

إن كان الوعي عنصراً خارجياً إضافياً، فسنود بطبيعة الحال أن نسأل عن سبب امتلاكنا إياه، وأن نسأل عن أهميته والوظيفة التي يؤديها وكيف نمتلكه. ووفقاً لهذا الرأي، من السهل أن نتخيَّل أننا ربما قد تطورنا من دونه، وهكذا سنودُّ أن نعرف السبب الذي أدَّى إلى تطور الوعي.

هذا ما ذكرته في الفصل الأول لتحاول الإجابة عنه في الفصل الأخير: «في عام 1872م أعطى تشارلز دارون اثنين من حيوانات إنسان الغاب في حديقة الحيوان، ووصف كيف لعبا وحاولا تقبيل صورتيهما المنعكستين، لكن لم يكن متأكداً من أنهما تعرَّفان على نفسيهما»، وذكرت أنَّه تلت محاولة دارون محاولات وتجارب عديدة لكنَّها رجَّحت عدم جزم تلك التجارب بوجود وعيٍ ذاتيٍ لتلك الحيوانات، فقد اختلفت النتائج من حيوانٍ لآخرٍ كما أنَّ الحيتان والدلافين تلك التي تتمتع بنوع عالٍ من الذكاء لم تستطع التجارب التأكد من وجود وعي ذاتي لديها.

تذكر بلاكمور أنَّ الخط الفاصل في عملية الوعي هو اللغة، «من دون اللغة لا يُمكن أن يكون أيُّ حيوان واعياً» هكذا قالت، وقد قصدت باللغة: اللغة الفعلية وليس الأشكال الأخرى من التواصل، فالحيوانات، تُصدر إشاراتٍ معينةٍ للتحذير أو لتوصيلِ معلوماتٍ عن أماكن الطعام وغيره من الإشارات المهمة لحياة تلك الحيوانات، إلا أنَّ تلك الإشارات لها معانٍ ثابتة لا يُمكن الجمع بينها لإصدار إشاراتٍ جديدة، أما في اللغة الحقيقة يتم الجمع بين الأصوات أو الإشارات المحدَّدة بعددٍ لا نهائي من الطرق لإنتاج عدد كبير من المعاني المختلفة.

من وجهة نظري: هذا الكتاب ليس كتابَ إجاباتٍ، وإنَّما هو كتابُ عرضٍ، تطرح فيه الكاتبة الأسئلة وتحاول الإجابة، فالكاتبة بحكم تخصصها في علم الباراسيكولوجي استطاعت أن تعطي لمحاتٍ عن الأمر من جانب علم النفس والفلسفة وعلم الأعصاب أيضاً، لكنها حال الإجابة لم تجزم وإنما تميل إلى توجهٍ معين ثم تترك الكاتب مع تلك الأطروحات التي عرضتها ليعاني من الحيرة التي عانتها، والكتاب الذي من المفترض أن يخبرنا عن كنه الوعي وما المقصود به لم يفعل ذلك بل زيادة على ذلك شكك في وجوده وأوضح أنَّ الأمر لا يزال شائكاً، واكتفى بأن أعطى مسحةً نوعيةً من عدة جوانب حول الموضوع تاركاً القارئ في منتصف الطريق ليعاني وحده.

في النهاية لا يسعني سوى أن ألفت انتباه القارئ إلى أنَّه بالرغم من وجود تلك الأطروحات حول قضية الوعي والجدل الدائر حول امتلاكنا إياه، فأنت بالفعل تقرأ وتكتب وتختار، وبرغم هذا الجدل فإنَّك بالفعل تقوم بتجارب عديدة لحظياً سواء سميتها واعية أم لا، كما أنَّ حسم قضية الوعي لن يُغيَّر من طبيعة هذه التجارب التي تقوم بها بشكلٍ دوريٍ شيئاً، وأخيراً فالإنسان منذ القدم يتناول هذه القضية بعمقٍ كبيرٍ ويتحدث عن الإرادة وهل هي موجودة أم لا، فإن لم يكن ذلك الشخص الذي يتناول ويبحث عن حقيقة امتلاكه لقدرة البحث والتفكير يمتلك وعياً وإدراكاً وإرادةً ذاتيةً فمن يمتلك؟!