تخيل عالماً لا وجود فيه للموت، إذا تعرضت لحادث سيارة فقدت على إثره حياتك يهرع إليك جهاز كمبيوتر في الدقائق الست التالية مباشرة لوفاتك، وقبل أن تسأل لمَ هي ست دقائق بالتحديد؟ سأخبرك أن تلك هي المدة التي يكون بمقدور مخ الإنسان فيها أن يظل سليماً بعد توقّف قلبه.

سيقوم جهاز الكمبيوتر بتحميل كافة بيانات دماغك والاحتفاظ بها من أجل بناء نسخة رقمية منك، شخص يشبهك تماماً ويحمل داخله ذكرياتك، أحداث حياتك، كل شيء عشته أو فكّرت فيه أو شعرت به يوماً ما، كل هذا موجود لديه.

والآن لابد أن أسئلة عديدة تراودك؛ ربما أكثرها إلحاحاً هو كيف أضمن أن النسخة الرقمية الجديدة ستكون أنا حقاً؟

يبدأ المشهد الأول من الوثائقي «العام مليون» بطرح هذا التساؤل، ماذا لو كان بإمكانك تغيير القدر؟ والاحتفاظ بنسخة دائمة من محبيك؟

لم يكن الوثائقي في حاجة إلى إجابة، لأن العلماء المستشرفين للمستقبل يثقون أنّه في المستقبل البعيد، ربما البعيد جداً، سنتمكن من تحميل «وعينا» على أجهزة حاسوب تعيش بدلاً منّا إلى الأبد.

لكن يبقى السؤال المُحيِّر دائماً، لو تطورت التكنولوجيا حقاً لتُنتِّج ذكاءً اصطناعياً مُشابهاً لأي إنسان شكلياً، وحمّلت عليه معلومات دماغه بالكامل، فماذا يضمن أن هذا الروبوت سيكون هو حقاً؟ منْ قال إنه بعد وفاته ووجود هذا الروبوت بدلاً منه سيكون واعياً بالحياة وقتها؟ بعبارة أخرى ما الذي يجعله هو؟ وما الذي يكوّن «وعيه»؟

تساؤلات مثل تلك تناولتها «آناكا هاريس» من منظور جديد في كتابها «الوعي: دليل موجز للُّغز الجوهري للعقل».

الوعي: نصنعه أم يصنعنا

تُعرِّف «آناكا هاريس» الوعي على أنه شيء يشبه كونك أنت في هذه اللحظة:

يكون الكائن الحي واعياً إذا كان ثمّة «شيء يشبه» كونه ذلك الكائن الحي.

لكن ذلك يزيد اللغز غموضاً حيال النقطة التي ينبثق عندها الوعي تحديداً؛ هل يمكن أن تكون كل الأشياء واعية لكنها فقط تفتقر القدرة على التعبير مثل الإنسان؟

«جان دومينيك بوبي»، صحفي فرنسي فَقَدَ على إثر جلطة قدرته على تحريك عضلات جسمه كلها، فيما يُعرف بمتلازمة المنحبس، لكن لا يزال بإمكان بوبي تحريك رمش عينه اليسرى، ومن خلاله تواصله مع البشر، كتب تجربته في المرض في كتابه الأشهر «بذلة الغوص والفراشة». يمكن أن يفقد المصاب بمتلازمة المنحبس القدرة على تحريك عضلات عينيه هي الأخرى، تخيّل لولا بوبي ربما كنّا سنظل معتقدين أن مرضى تلك المتلازمة قد فقدوا وعيهم مع مرضهم.

تساؤل آخر يُطرح هنا، أيعقل أن تكون جميع الأشياء واعية لكن القليل منها فقط هو القادر على التعبير عن وعيه هذا؟

تُعرف تلك النظرة بشمولية الوعي، وتنص على أن أي شيء في الكون هو واعٍ، الحيوانات، البكتيريا، أعضاء جسمك، وحتى الذرات. هذا يعني أنه لو قام أحدهم بتقطيعك إرباً واختفيت أنت من الوجود ستظل أعضاء جسمك مُدركة لنفسها ولن تتأثر الإلكترونات التي تدور في ذرات طرف إبهامك بشيء.

هذا النوع من التفكير يواجه مشكلة واحدة، وهي مشكلة «الدمج»، التي تقضي بأنه إذا كانت جميع الذرات والخلايا في الدماغ تتمتع بمستوى من الخبرة الواعية، فكيف يمكن أن تندمج نقاط الوعي الصغيرة تلك معاً لتُشكِّل الدماغ، الذي هو مجال أكثر تعقيداً من الوعي؟

ثمة شخص في رأسي لكنه ليس أنا

لو صحّت نظرية شمولية الوعي بإمكاننا القول إنّ داخل كل منّا يعيش عدد لا نهائي من الكيانات الواعية، وربما علينا دمج دماغين بشريين معاً للتأكد من تلك الفرضية والتيقن ما إذا كان دمج عدة كيانات واعية سينتج في النهاية كياناً واعياً أكثر تعقيداً، لا تزال أدواتنا العلمية قاصرة عن مثل تلك التجربة، لكن يوجد شيء مُشابه لها لا يقل عنها غرابة.

يرتبط نصفا الدماغ معاً بما يُسمى «الجسم الثفني»، وهو تركيب لجأ علماء القرن الماضي لقطعه جزئياً أو كلياً في الحالات المستعصية من الصرع، من أجل فصل الروابط بين نصفيّ الدماغ.

يؤدي كل من نصفيّ الدماغ وظيفة مختلفة عن النصف الآخر، وينقل كلاهما المعلومات للآخر عبر الجسم الثفني؛ فإذا أعطينا عملة معدنية لمريض يعاني من الانقسام الدماغي -ممّن خضعوا للجراحة المذكورة آنفاً- ووضعناها في يده اليسرى، دون أن يتمكن من رؤيتها، ثم سألته عمّا يمسك به، فلن يُجيب، بينما لو طلبت منه الإشارة إليه، فإنه سيشير إلى صورة العملة المعدنية بنجاح.

يرجع ذلك إلى وظيفة نصفي الدماغ، حيث تمثّل عضلات كل جانب من جوانب الجسم بالنصف المقابل من نصفي الدماغ، هنا مثلاً لأننا وضعنا العملة في يد المريض اليسرى فسيكون نصف المخ الأيمن على دراية بشأن العملة بينما لا يعلم النصف الأيسر عنها شيئاً، وحين تطلب من المريض أن يخبرك بما في يده لن يستطيع، لأن نصف الدماغ الأيسر القادر على التواصل لفظياً ليس لديه علم بشأن العملة، بينما إذا طلبت من المريض الإشارة إلى صورة ذلك الشيء سيشير بشكل صحيح، لأن نصف الدماغ الأيمن هو المسؤول عن تلك الوظيفة.

لا تظن أن ذلك هو أغرب ما يواجهه هؤلاء المرضى، فهناك ظاهرة أغرب كثيراً تُسمى «تنافس نصفيّ الدماغ»، إذ يتصرف فيها المريض كأنه شخصان وليس شخصاً واحداً، كأن تحاول إحدى يديه إغلاق أزرار القميص بينما الأخرى تفتحه.

لدى تحري العلماء الأمر، اكتشفوا أن لكل من نصفي الدماغ آراء ورغبات متباينة، بل وإجابتين مختلفتين على نفس السؤال. مثال آخر: حين يُعطي نصف الدماغ الأيمن لشخص في أحد التجارب أمراً «ارحل من هنا»، سيقف المريض ويبدأ في المشي، وإذا استوقفته لتسأله عن سبب قيامه سيخبرك أنه ذاهب لإحضار مشروب، إن نصف الدماغ الأيسر هنا قام بتقديم تفسير عن أمر لا يعلم عنه شيئاً، يدفع هذا علماء الأعصاب إلى الاعتقاد بأن كل نصف من الدماغ هو واعٍ إذ يقوم بتصرفات مُعقدة ومُخطَّط لها كما لو كان له تصرفات واعية ومشاعر مختلفة عن النصف الآخر.

أنت آخر من يعلم!

الدماغ يعرف قبل أن تعرف أنت.
«مايكل جازانيجا» – عالم أعصاب.

إذا كان كلا نصفي الدماغ يخططان لتصرفاتهما، فهل يفعل دماغ الإنسان العادي غير المصاب بالانفصال الدماغي الشيء ذاته؟

في الحقيقة: نعم!

اشتهر «بنجامين ليبيت» في جامعة كاليفورنيا بإجراء تجارب تُثبِّت أن دماغك هو منْ يتحكم بك وليس العكس، يشاهد المشاركون في تلك التجربة ساعةً خاصة أمامهم، ويكون بحوزتهم ساعة أخرى، ومطلوب منهم أن يُحدِّدوا عليها بالدقة -بالثانية- الوقت الذي يودون فيه تحريك عضلة معينة لديهم ولتكن إصبعهم، ومن خلال جهاز رسم الدماغ المُوصّل للمشاركين، وجد العلماء أن نشاط القشرة الجبهية التي تُرسِل الإشارة من أجل تحريك الإصبع، قد بدأ قبل نصف ثانية من اعتقاد المشاركين أنهم قرروا تحريك إصبعهم، بمعنى آخر يجهز دماغك حركات ميكانيكية معقدة لجسمك قبل أن تدرك حتى بوعي قرار التحرك!

تختلف سرعة انتقال المعلومات البصرية والسمعية وغيرهما من المعلومات الحسية عبر جهازنا العصبي، لا ترى عيناك كرة التنس تلامس مضربك في نفس اللحظة التي تسمع فيها أذناك دويّها، ولا في نفس اللحظة التي تشعر بها يدك المُمسكة بالمضرب بارتطام الكرة، ومع ذلك يجمع مخك كل تلك المدخلات الحسية ذات الصلة ويُزامنها سوياً، ويُدخِلها إلى تجربتك الواعية، فيجعلك ترى وتسمع وتشعر أن الكرة ارتطمت بالمضرب في اللحظة ذاتها.

وبحلول الوقت الذي تعتقد فيه أن هذه اللحظة تحدث، تكون تلك اللحظة قد انتهت منذ وقت طويل. إن تكلفة مزامنة المعلومات الواردة من الحواس هي أن يتأخر إدراكُنا الواعي عن العالَم المادي.
ديفيد إيجلمان.

وما هو الوعي بعد؟

يُقدِّم عالم الفيزياء «براين جرين» فكرته عن «النقل الآني»، التي لا يزال العلم بصدد تطويرها، عبر المثال الآتي:

يجلس الشخص -الذي يريد السفر- في غرفة في نيويورك، والتي تحتوي على ذرات متشابكة كمياً مع أخرى موجودة في غرفة في باريس، ثمّ بعد تفاعل كمي تبادلت فيه الذرات المعلومات فيما بينها، يخرج المُسافِر من غرفة باريس ويكون قد سافر عبر العالم في أقل من ثانية.

تحمل ذرات الشخص الجديد نفس معلومات ذراته القديمة، لكنها ليست نفس الذرات، لذا يأتي السؤال هنا: هل هذا هو حقاً نفس الشخص؟ وهل سيظل الشخص محتفظاً بنسخة الوعي ذاتها؟

حين عرّفنا الوعي أنّه شخص يشبه ذلك الكائن الحي، فعلى أي أساس نعرف لو طرأ تغيّر على هذا الكائن؟ هل كل الكيانات -حية كانت أم غير حية- التي تحيطنا من كل مكان ليست سوى نسخ أخرى من «جان دومينيك بوبي» بانتظار رموش لتعبر عن نفسها؟ هل أنا ناتج جمع وعي كل الذرات بداخلي؟ أم ناتج اتفاق نصفي دماغي؟ والأهم من هذا كله؛ لو وجدت بعد مليون سنة ووافقت على تحميل وعيي على جهاز روبوت، هل حقاً سيكون هو أنا؟ هل سيأتي وقت لا نستطيع التمييز بين البشر والروبوتات، لأن الأخيرة اكتسبت وعياً مماثلاً؟

يقول العلماء إن هذا ممكن، فنحن نميل إلى الحكم على وعي الشخص أو عدمه من خلال رصد سلوكياته ومقارنة ما إذا كانت تشبه خاصته، وهو حكم حتى الآن أقرب للصواب، لذا في المرة القادمة بعد آلاف السنين، حين تشاهد روبوتاً يصرخ ويقع في الشارع، فلتتصل بالإسعاف فوراً، لأنّه ربما وقتها تكون الروبوتات قد طوّرت وعيها لدرجة أنها صارت تشعر بالألم.