بعد اندلاع جائحة فيروس كورونا المستجد، وفرض العديد من الحكومات حول العالم سياسات الإغلاق العام والعزل الصحي وحظر التجول، انتشرت عديد من نظريات المؤامرة حول منشأ ذلك الفيروس، وهوية من يقف وراء انتشاره، وحول ردود فعل الحكومات تجاه الفيروس، والغرض الحقيقي من السياسات الصارمة التي اتبعتها لمنع تفاقم انتشار العدوى.

هنا نطرح تساؤلًا عن دلالة مصطلح «نظرية المؤامرة»، الذي يعد استخدامه لوصف أي تناول سياسي أو تاريخي، بمثابة قدح أو ذم أو تقليل من القيمة أو الأهمية لذلك التناول، رغم رواج ذلك النمط من التفكير عالميًا.

فما هي نظرية المؤامرة؟ وهل تقدم لنا تلك النظرية الحقيقة التاريخية أم ما تقدمه ليس سوى مجرد شكل من أشكال العلم الزائف «Pseudoscience»؟

ما نظرية المؤامرة؟

لا يعني استخدام وصف نظرية المؤامرة، أن هناك نظرية واحدة في هذا السياق، لتفسير مختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية والتاريخية في العالم المعاصر، لكن المقصود عادة عند استخدام هذا الوصف، هو ذلك النمط من التفكير، الذي يميل إلى التشكيك في الروايات السائدة للأحداث المختلفة، عبر تبني سرديات أخرى تخلط بين الحقائق والفرضيات، دون رسم حدود فاصلة واضحة بين العالمين.

وفقًا لمايكل باركون أستاذ العلوم السياسية في كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة بجامعة سيراكيوز في نيويورك، في كتابه « A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America» تسيطر على النزعة التفسيرية التآمرية ثلاثة مبادئ:

1. عدم الاعتقاد بوجود مصادفات.

2. ظاهر الأشياء يختلف عن حقيقتها الجوهرية.

3. كل الأشياء مرتبطة ببعضها.

تميل نظرية المؤامرة -بحسب باركون- إلى التحول إلى نظرية «غير قابلة للدحض» وفق مفهوم الفيلسوف النمساوي-الإنجليزي كارل بوبر، حيث تعد القابلية للدحض أو التفنيد بحسبه حجر الأساس في المعرفة العلمية، ويُستخدم هنا في هذا السياق النموذج الشهير عن الفرضية الاستقرائية عن أن كل البجع بيضاء، الذي اكُتشف أنه يخالف المشاهدات الحقيقية للبجع السوداء في أستراليا في القرن السابع عشر؛ ولهذا تتحول نظرية المؤامرة بحسب باركون من مسألة تحتاج إلى الإثبات وتخضع للدليل والبرهان، إلى مسألة إيمان عند أصحابها.

لم يكن من الغريب في السنوات الأخيرة زيادة رواج نظريات المؤامرة في البلدان الغربية، بالتزامن مع الصعود الكبير لتيار اليمين الشعبوي الذي حقق العديد من الانتصارات السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، من خلال فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، ومن خلال الفوز في المملكة المتحدة في عملية التصويت على استفتاء البركست، وعبر فوز الأحزاب الشعبوية في أوروبا بتمثيل سياسي كبير، برلماني وحكومي، من خلال الفوز في الانتخابات التشريعية في العديد من البلدان الأوروبية.

لماذا نقول ذلك؟ نقوله لأن «الشعبوية» تقوم على مبدأ أساسي هام، يتآزر مع مبدئها الرئيسي ألا وهو تملقها وتزلفها للطبقات الشعبية، وهو العداء للمؤسسة السياسية التقليدية والنخب الاجتماعية، ولذلك شكل صعود الشعبوية في السنوات الماضية مناخًا سياسيًا مثاليًا لرواج نظريات المؤامرة.

ثنائية المثالية والمادية في الماركسية ونظرية المؤامرة

 تعبر نظرية المؤامرة والماركسية عن نمطين مختلفين من التفكير، يعود اختلافهما إلى جذور فلسفية أعمق، تتمثل في الاختلاف بين المادية الجدلية والمثالية الديالكتيكية الهيجلية، حيث يشكل كل من المنهجين أساسًا لنظرتين مختلفتين من التفكير.

تعزي النظرة المادية، للمكون المادي في الحياة، الأساس في فهم وتفسير التفاعلات التي تشكل الحياة الاجتماعية والوعي البشري، بينما تنظر الفلسفة المثالية إلى العقل والوعي كحقائق من الدرجة الأولى تسمو على عالم المادة الذي يأتي في المرتبة الثانية، لذلك تميل التفسيرات المادية إلى تفسير نشأة ظواهر الحياة، بدءًا من نشأة الوجود، وصولًا إلى مختلف الظواهر الاجتماعية تفسيرًا يقوم على الصدفية العمياء، بينما تتجه المثالية إلى الإيمان بعقل أسمى وأعلى، وأن التفاعلات المختلفة تنتج عن قصد وإرادة، أو يكون هذا سبب منشئها على الأقل.

في مقابل تبني الرؤية المادية أو الماركسية على نطاق واسع من قبل التيارات اليسارية، يسيطر باردايم (نموذج إداركي) مضاد على تيارات اليمين، يميل إلى تفسير الظواهر الاجتماعية بشكل مختلف عن التصور المادي أو الماركسي، الأمر الذي يجعل من قواعدها الشعبية على الأقل، أكثر ميلاً إلى نظرية المؤامرة في تفسير أحداث معينة، ويكون ذلك عادةً في ظل الافتقار إلى معلومات أساسية حول تلك الأحداث، نتيجة كونها غامضة من الأساس، أو أن هناك تعتيم ما عليها من قبل بعض الجهات.

العيب الرئيسي في نظريات المؤامرة، التي تخرج في هذا السياق عمومًا، هو خلطها بين الحقائق والفرضيات، دون تحديد واضح أين تنتهي المعلومة وأين يبدأ التحليل؟ هنا تختلف المواد التي تصنف تحت خانة «نظرية المؤامرة» عن التحقيقات الصحفية الجادة والأبحاث والدراسات الرصينة والكتب جيدة التوثيق، ومقالات التحليل السياسي، والمقالات والكتب الفكرية، ولهذا لا تحظى باحترام أو مصداقية حقيقية، رغم رواجها الواسع في كثير من الأحيان.

هذا بجانب عدد كبير من المشاكل والعيوب الأخرى، التي تتسم بها نظريات المؤامرة، مثل التبسيط والاختزال، للواقع الإنساني المعقد المتشابك، الذي يصعب معه تحقق التحكم الكامل من قبل أي طرف، حتى مع وجود محاولات للسيطرة الشمولية على الواقع الاجتماعي بالفعل، في العديد من البلدان مثل كوريا الشمالية والصين. يؤدي هذا النمط من التفكير، الذي ينسب التحكم الكامل إلى بشر آخرين، إلى الوقوع في استلاب الإرادة الكامل، والسلبية والشعور بالعجز المطلق، ويحرم البشر من رؤية الممكنات الجدلية للتفاعل مع أي واقع صعب مفروض عليهم.

يبقي هنا تساؤل: هل معنى هذا هو رفض فحوى نظريات المؤامرة بالمطلق؟ الإجابة هي أن الرفض الدوغمائي للمعطيات التي يطرحها منظرو نظريات المؤامرة، ليس بالتأكيد هو رد الفعل الملائم. إنما التصرف الأمثل هو فحص الأدلة والبراهين التي يطرحها أي متحدث، وعدم التسرع بإطلاق صفة «نظرية المؤامرة» على أي رواية أو سردية تخالف الروايات السائدة أو الرسمية للأحداث، طالما يرسم صاحبها حدودًا فاصلة واضحة بين المعلومات الثابتة والتحليل في أطروحته، ويبني قناعته واستنتاجاته النهائية بناءً على حجم معقول من الأدلة الثابتة والمعتبرة.

يتضح الفارق هنا بين «المؤامرة» الفعلية إذا ثبتت -كما حدث في فضيحة «ووترجيت» على سبيل المثال في الولايات المتحدة، التي كشفت تجسس الرئيس الأمريكي السابق ريتشادر نيكسون على مكاتب الحزب الديمقراطي في سبعينات القرن الماضي- وبين «نظرية المؤامرة»، في حجم الاعتماد على المعطى التحليلي في مقابل الحقائق، وفي الادعاء أن ذلك التحليل الذي يقدمه أحدهم هو الحقيقة بعينها.

أشهر منظري ونظريات المؤامرة

هناك العديد من الأدبيات الشهيرة لنظرية المؤامرة، ويعد أشهرها في هذا السياق هو «بروتوكولات حكماء صهيون»، الذي يتفق الكثير من الباحثين على أن نصه مستوحى من كتاب «حوار في الجحيم بين مونتسكيو ومكيافيللي»، وأن الذي قام بإعداد تلك الوثيقة هو الشرطة السرية الروسية، في إطار الحملة التي شنها الإمبراطور الروسي نيكولا الثاني ضد اليهود.

هناك أيضًا نظريات مؤامرة شهيرة حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر \ أيلول 2001، ولكن إذا طبقنا المعيار الذي نقدمه هنا في تناول نظريات المؤامرة، سنجد أن العديد من النظريات المطروحة في هذا الشأن، تقدم الكثير من الأدلة والمعطيات بالغة الأهمية والموثوقية عن احتمال تورط الحكومية في تسهيل حدوث تلك الهجمات، ويمكن الرجوع إلى سلسلة التحقيقات التي بثتها بها فضائية الجزيرة تحت عنوان «أجراس الخطر.. الحقيقة وراء 11 سبتمبر» خلال برنامج سري للغاية للإعلامي المصري يسري فودة.

هناك العديد أيضًا من منظري نظريات المؤامرة، التي لاقت كتاباتهم نجاحًا وشهرة كبيرة في هذا السياق، مثل ضابط البحرية الكندي السابق وليام غاي كار، صاحب الكتاب ذائع الصيت «أحجار على رقعة الشطرنج»، ومؤلف العديد من الكتب الأخرى مثل «ضباب أحمر في سماء أمريكا» و«الشيطان أمير هذا العالم».

هناك كذلك الكاتب الإنجليزي ديفيد آيك، المعلق الرياضي السابق، الذي تحدث مؤخرًا عن علاقة شبكات الجيل الخامس من الهواتف المحمولة بانتشار فيروس كورونا، والذي حظر موقع يوتيوب قناته الرسمية، وحظر موقع فيسبوك صفحته الشخصية، بسبب ترويجه لنظريات مؤامرة عدة عن الجهة التي تقف وراء انتشار فيروس كورونا، والهلع الذي تسبب به عالميًا. وهناك أخيرًا الإعلامي الأمريكي أليكس جونز، صاحب إذاعة InfoWars التي تُبث من مدينة أوستن بولاية تكساس.