عندما تدلف إلى كنيسة قبطية أول ما يقع عليه بصرك؛ هو الأيقونات المنتشرة على الجدران، فالأيقونات ليست فقط شكلًا من أشكال الجمال الفني، لكنها تعبير عن فكر لاهوتي منذ فجر المسيحية، وهي أهم أدوات العبادة الليتورجية[1]، وهناك مِن آباء الكنيسة مَن كان رافضًا للأيقونات مثل: «أبيفانيوس» أسقف «سلاميس» (قبرص)، ولكن في النهاية تم السماح بها في آخر مجمع مسكوني، مجمع نيقية الثاني عام 787م.

أيقونات الملائكة

في المخطوطة رقم (59) المحفوظة في مكتبة الفاتيكان، نجد ذكِرًا لعِظة منسوبة إلى أرخيلاوس[2] عن أيقونة الملاك غبرائيل (أي جبرائيل – جبريل) مكتوبة باللهجة البحيرية من دير أنبا مقار في وادي النطرون بمصر.

تسرد لنا المخطوطة حكاية رسم الأيقونة، «حينئذ أيضًا رسموا صورة رئيس الملائكة «غبريال» عند باب الكنيسة أمام حوض الغسيل»، كما صنفها البروفسور «ليو ديبويدت» أستاذ علم المصريات والآشوريات في جامعة برَون الأمريكية، في كتابه «Catalogue of the Coptic Manuscripts in Pierpont Morgan Library»، ونجد أيضًا مخطوطتين للعظة ذاتها، واحدة في مكتبة «بيربونت مورجان» بنيويورك، مكتوبة باللهجة الصعيدية، وأخرى في المكتبة الأهلية بباريس، مأخوذة من الدير الأبيض بسوهاج.

يسرد لنا الدكتور «يوحنا نسيم يوسف» في كتيب «الأيقونات القبطية في التاريخ والأدب والطقوس» مِن سلسلة مكتبة الإسكندرية، إحدى العظات التي تسرد حكاية إعجازية للأيقونات، وهى عظة منسوبة إلى شخص يُدعى «أوسطاتيوس» وقد قيلت في عيد الملاك «ميخائيل» -على حد قولهم- وردت العظة في ثلاث مخطوطات أقدمها على البردي من دير البلايزة في أسيوط وتعود إلى القرن السابع أو الثامن الميلادي، والثانية من إدفو والاثنان باللهجة الصعيدية أما النسخة الثالثة باللهجة البحيرية وكتبتْ لكنيسة الملاك القبلي (مصر القديمة) ويعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي.

تحكي لنا المخطوطة حكاية امرأة نبيلة اسمها «أوفمية» وزوجة لكبير القادة في خدمة الأمبراطور «هنوريوس» فترة حكمه بين (395 – 423م) اسمه «أريسترخوس»، وعندما اقترب من الموت أوصى زوجته بأن تستمر في تقديم العطايا والهبات في عيد الملاك ميخائيل والسيدة العذراء وميلاد المسيح، وطلبت الزوجة أن يأمر فنانًا ليرسم له أيقونة للملاك ميخائيل على لوحي خشب لتضعها على سرير زوجها ليحمها بعد وفاته، وبالفعل أمر زوجها الفنان برسم أيقونة وقد غطاها بالأحجار الكريمة والذهب وأهداها لزوجته، ولما رأتها الزوجة والزوج تعزيا جدًا…. وتستمر العظة في سرد العديد من المعجزات.

أيقونات الشهداء والرهبان

يكشف لنا السير «وليام بودجي» عالم المصريات في كتابه «Miscellaneous Coptic Texts in the Dialect of Upper Egypt»، أن الأيقونات لم تقتصر على الملائكة فقط، بل ضمت أيضًا أيقونات للشهداء والرهبان، ومن أهم العظات التي سردت حكاية القديس الشهيد «تادرس المشرقي» (لم يُعرف عنه شيء) التي دونت في مخطوطة باللهجة الصعيدية ومحفوظة حاليًا في المتحف البريطاني ولها نسخة أخرى باللهجة البحيرية من دير الأنبا مقار، ومحفوظة حاليًا في مكتبة الفاتيكان تحت رقم (25/2)، وبها يحكي بطريرك «أنطاكية» الأحداث في حياة القديس «تادرس المشرقي» واستشهاده بطريقة عير معتادة، ويبدأ بذكر محاسن أنطاكية، ثم يعلق على موت القديس، ويذكر شجاعته في الرد على الأمبراطور الروماني «دقلديانوس» وحكم من (284 : 305م)، وسرد العذبات التي تلقاها القديس على يديه، ثم يبدأ بذكر مجموعة من المعجزات، وما يهمنا هنا هو وصفه للأيقونات: «كنتُ أتجول في كنائس الشهداء على الأرض وأرى الأيقونات المرسومة، وهم مرسومون جنبًا إلى جنب كأنهم ذاهبون إلى الحرب».

يزيل عالم القبطيات الألماني «كاسبر ديتليف مُولر» الغبار عن عديد من المخطوطات القبطية التي سردت العظات الخاصة بالأيقونات، ففي كتابه باللغة الألمانية « Die Homilie über die Hochzeit zu Kana und weitere Schriften des Patriarchen Benjamin I. von Alexandrien»، يسرد لنا العظة الخاصة بحياة «البابا بنيامين» (626 – 665م) الذي كان يعيش في البحيرة في قرية تسمى «برشوط» وترهبن في دير «كانوب» بجوار أبو قير حاليًا، وعاصر مجيء الفرس إلى مصر وخروجهم ورجوع البيزنطيين ثم دخول العرب، ووردت لنا عن طريق مخطوطة صعيدية من الدير الأبيض بسوهاج:

سوف أخبركم على أعجوبة عظيمة حدثت عندما ذهبنا في اليوم الأول إلى الكنيسة الكبرى وكبار الدير مشوا معنا، وكانت هناك صور الرهبان على حائط الهيكل من آبائنا الرهبان «أنطونيوس الكبير»، «باخوم»، «أنبا بولا»، أنبا مقاريوس، وعلى الجانب الآخر رؤساء الأساقفة على العرش هم القديس مرقس، وأنبا بطرس…. كلهم مرسومون على الحائط، وأنا أشهد أنه دخل الأنبا بنيامين إليهم، وقبلهم يصرخون بلغة سمائية قائلين: مبارك الملك الرب مع قديسيه أن «الشاروبيم» الذي كان يجلس عليهم «أثناسيوس وليباريوس» يرفرفون بأجنحتهم وملاك المذبح يصرخ قائلًا: «مستحق مستحق أن تصير رئيس الكهنة.

ولكن يبقى السؤال من أين جاءت فكرة تصوير الملائكة والشهداء والرهبان على شكل أيقونات؟

الأيقونات في الفكر اللاهوتي المسيحي

تصوير الأقباط الصور في الكنائس المتمثلة في أيقونات له عدة أسباب؛ الأول اقتداءً بحديث الرب مع موسى عليه السلام[3] الذي ورد في سفر الخروج (25: 1 – 9)؛ «وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ. فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا، وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ. مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ. وَيَكُونُ الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ، مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ، وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الآخَرِ. نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ». والكروبين أو الكروبيم باللغة العبرية، هما ملاكان نُحتا على تابوت العهد الذي حُفظ به الوصايا العشر وعصا موسى.

وأيضًا في الحديث بين الرب وسيدنا سليمان عندما بدأ يبني الهيكل في أورشاليم، فأوصى الرب سليمان بأن يصنع له كروبيم من الخشب باسطين أجنحتهما، ونجد الوصف كاملًا في سفر الملوك الأول (6: 22 – 23)،

وعَمِلَ فِي الْمِحْرَابِ كَرُوبَيْنِ مِنْ خَشَبِ الزَّيْتُونِ، عُلُوُّ الْوَاحِدِ عَشَرُ أَذْرُعٍ. وَخَمْسُ أَذْرُعٍ جَنَاحُ الْكَرُوبِ الْوَاحِدُ، وَخَمْسُ أَذْرُعٍ جَنَاحُ الْكَرُوبِ الآخَرُ. عَشَرُ أَذْرُعٍ مِنْ طَرَفِ جَنَاحِهِ إِلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ. وَعَشَرُ أَذْرُعٍ الْكَرُوبُ الآخَرُ. قِيَاسٌ وَاحِدٌ، وَشَكْلٌ وَاحِدٌ لِلْكَرُوبَيْنِ. عُلُوُّ الْكَرُوبِ الْوَاحِدِ عَشَرُ أَذْرُعٍ وَكَذَا الْكَرُوبُ الآخَرُ. وَجَعَلَ الْكَرُوبَيْنِ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ الدَّاخِلِيِّ، وَبَسَطُوا أَجْنِحَةَ الْكَرُوبَيْنِ فَمَسَّ جَنَاحُ الْوَاحِدِ الْحَائِطَ وَجَنَاحُ الْكَرُوبِ الآخَرِ مَسَّ الْحَائِطَ الآخَرَ. وَكَانَتْ أَجْنِحَتُهُمَا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ يَمَسُّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَغَشَّى الْكَرُوبَيْنِ بِذَهَبٍ. وَجَمِيعُ حِيطَانِ الْبَيْتِ فِي مُسْتَدِيرِهَا رَسَمَهَا نَقْشًا بِنَقْرِ كَرُوبِيمَ وَنَخِيل وَبَرَاعِمِ زُهُورٍ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ. وَغَشَّى أَرْضَ الْبَيْتِ بِذَهَبٍ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ.

وبحسب ما عرضه دكتور «يوحنا يوسف» في كتيبه[4]، أن الأسباب الحديثة لتصوير الملائكة أو الرهبان وحتى السيد المسيح ذاته، كان الخبر الذي وصل لنا عن حكاية ملك «الرها» الذي كان يُدعى «أبجر» فامتحن بأمراض شديدة وكانت أخبار المسيح تنتقل له وسمع عن معجزات المسيح، فأرسل له رسالة بأنه يتمنى أن يأتي إليه ليشفيه وبالفعل عطف عليه المسيح وأخذ منديلًا ووضعه على وجهه الكريم فارتسمت ملامح وجهه به، فأرسله إليه مع رسالة منه وعَرّفه بأنه لا يغادر أرض بني إسرائيل.

لما وصل إليه المنديل قبّله وعظمه ومسح به وجهه وبدنه؛ فكانت المعجزة أنه شُفي، وذهب إليه تلميذًا المسيح «أدي» و«ماري» فلآمن وعُمِّدَ على أيديهما، ولم يتوقف المنديل على شفاه هو فقط بل شفا غيره، فبنوا في مكان إقامة الملك كنيسة عظيمة، وكانت تلك الحكاية أكثر الأسباب التي جعلت المسيحيين يصورون الصور في كنائسهم.

بحسب المرويات المسيحية، فإن اليهود، كنوع من أنواع إهانة المسيح، يصورونه مصلوبًا ليهزؤوا به ويبصقون على صورته، وفي مرة واحد منهم طعن الصورة في جنبها فجرى منها دم وماء فتعجبوا، وكان يحضر بينهم شخص كفيف، فلما سمع ما حدث وضع يده على موضع الطعنة وأخذ بيده من ذلك الدم والماء فمسح عينيه مؤمنًا بأن المسيح سيعيد إليه بصره، وبالفعل أبصر الرجل الكفيف، ثم أخذ من الماء والدم ونقلهم إلى عديد من الأديرة والكنائس وآمن العديد بالمسيح، ووصل الخبر إلى تلاميذه فأمروا بتصوير المسيح في أيقونات داخل الكنائس، وصار يظهر منها الآيات والمعجزات والعجائب.

وصلت لنا حكاية إعجازية أخرى عن اعتقال الأب «باسيليوس»، أسقف قيسارية، على يد مَلك الروم «يوليانوس» الذي عُرف باسم «يوليانوس الجاحد أو المرتد» وحَكم ما بين (331- 363 م)، فكان يجبر المسيحيين على الارتداد عن دينهم، واعتقل آنذاك الأب «باسيليوس» وكان معه صورة للقديس «أبو مرقورة» فالتفت إلى الأيقونة ولم يجد بها القديس فتعجب؛ ثم نظر مرة أخرى فوجد أن القديس قد عاد وطرف سنان رمحه في الصورة ملوث بالدماء، فتحدث إلى الصورة قائلًا: هل قتلته؟ (يقصد الملك) فنكس القديس رأسه، ففهم الأب أنه نعم، قد قتله، فازداد إيمان الأب «باسيليوس» ونشر بين المؤمنين الحكاية بعد أن خرج من سجنه.

الحاجة إلى الأيقونات

في كتاب «مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة» لشمس الرياسة بن كبر، فكان قسًا ولاهوتيًا مصريًا، أخبرنا بأن تصوير الصور والأيقونات كان مُحرمًا في البداية؛ لأن بني إسرائيل عندما عاشوا في مصر القديمة، قبل خروجهم مع موسى، عليه السلام، تعلموا من المصريين القدماء أشياء رديئة، كصنع التماثيل وعبادتها، ودخول الملاهي أثناء العبادة (يقصد به الرقص والغناء)، ولكن بعد أن خرجوا من مصر أُمروا فقط بصنع كروبيم من الذهب ليس لعبادتها ولكن كشكل من أشكال التذكرة به، وليستخدموه في ما ينفعهم وليس ما يضرهم.

يضيف القس شمس الرياسة بن كبر، أنهم بعد أن فهموا كلمات الرب وشريعته، وبعد أن ظهر المسيح ومعجزاته، أقرت المسيحية بحتمية تصوير المسيح وذلك ليتذكروا إحسان المسيح ولا ينسوا أمور سياسته والتدبر في أمر ميلاده العجيب وقيامته وصعوده إلى السماء بالجسد، وغير ذلك مما لا يمكن للعامة أن يحفظه أو يفهمه إلا بتكرار مشاهدتهم له، ثم تصوير الرهبان والشهداء في أيقونات، ليتذكروا تضحيتهم في سبيل المسيح ويقتدوا بهم وتمسكهم بالإيمان.

ونجد أيضًا حكاية في كتاب «يوحنا بن زكريا بن السباع» وهو من أشهر رجال اللاهوت في القرن الثالث عشر الميلادي، وحَمل كتابه اسم «الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة»، أن السيدة العذراء قبل موتها طلبت من «لوقا الإنجيلي» (يقصد به صاحب إنجيل لوقا) أن يُصور لها صورة، «صوروا صورتي عندكم حتى لا تنسوني» وبالفعل صور لوقا الصورة على لوح خشب بأصباغ ملونة وفي أحضانها ابنها المسيح، ثم بدأت الصورة في التداول بين الكنائس حتى يومنا هذا.

فَكَّرَ اللاهوتيون المسيحيون بأن يكون لكل صورة أو أيقونة دلالة معينة تُعرف بها؛ فجعلوا الإشارة التي تعرف بها صورة المخلص (يقصد المسيح) هو النور المحيط بوجهه (يقصد هالة النور التي تكون مرسومة حول رأسه)، وأما إشارة قبض الإبهام بالبنصر، فقالوا إنها يُقصد بها إنه حرم الشيطان به (لم يتقرب منه الشيطان قط، أو مسه الضُر)، وقال آخرون إنها تشير إلى مجيئه لخلاص العالم في الألف السادس من خلق آدم كما أُخرج من الفردوس في اليوم السادس، وأما تصوير الثور والحملان يقبلان المسيح عند ولادته وهو ملفوف؛ فتشير إلى نبوءة «إشعياء» (1: 3)، «اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ» (يُقصد به بأن بني إسرائيل لم يعرفوا مُخلصهم، وهو السيد المسيح). وأما تصويره وهو قاعد على كرسي يحمله أربعة وجوه ذوات الست أجنحة؛ أي أنه كلمة الرب الذي كلم بها موسى والأنبياء ورآه حزقيال على هذه الهيئة.

المراجع
  1. عبادة دينية، أو ممارسة طقوسية، وتطلق خاصة على الطقوس المسيحية الأرثوذكسية
  2. لا بعرف عنه الكثير من التفاصيل، ولكن يبدو أنه كان راهب يسكن منطقة نابلس.
  3. يعرف القارئ بأن الكتاب المقدس، يحتوي على العهد القديم الذي يؤمن به اليهود، والعهد الجديد وهو الأناجيل المسيحية، أي أن الأقباط والمسيحين بصفة عامة يؤمنوا بما جاء في العهد القديم الخاص باليهود.
  4. الأيقونات القبطية في الأدب والتاريخ والطقوس، يوحنا نسيم يوسف، سلسلة مكتبة الإسكندرية، ص: 33 – 34