قبل دراسة «المجلات القبطية» للباحث روبير الفارس، لم يكن هناك تناول جاد وشامل عن هذا النوع من الصحافة التي نشأت في مصر، خلال النصف الثاني من القرن الـ19، إذ كان هناك تناول جزئي لهذه الإصدارات الصحفية الخاصة، سواء في تقرير الحالة الدينية الذي صدر من مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أو في دراسات أخرى تتناول زاوية معينة من الموضوع كدور الأقباط في صناعة الصحافة المصرية، أو في أبحاث ورسائل علمية تتناول المسألة من منظور أكاديمي.

وكتاب روبير الفارس، الصادر حديثًا عن دار «روافد» للنشر والتوزيع، يمتاز، وفقًا لمقدمة الدكتورة نيفين مسعد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، بأنه قدم حصرًا شبه كامل للمجلات التي صدرت من الكنيسة والهيئات التابعة لها، ومؤسسات خاصة وجمعيات تعمل لخدمة الأقباط المصريين، إضافة إلى كونه تعاملاً مع المجلات القبطية التي تم طرحها للتداول – حصريًا – بين أبناء شعب الكنيسة، ومن ثم فما كان لغير القبطي أن يطلع عليها، لولا جهد المؤلف.

وقد قسم المؤلف كتابه إلى قسمين: الأول هو عبارة عن مدخل لفهم تاريخ وطبيعة الصحافة القبطية في مصر، وقد شرح بالتحليل كيفية الإصدار والرخص والتصاريح المطلوبة، وكذلك الأهداف الرئيسية، وطبيعة الموضوعات التي احتوتها المجلات، وكيفية تناولها، وكذلك الإخراج الصحفي. أما القسم الثاني من الدراسة فقد رأى الفارس أن يكون على شكل مختارات من أهم ما نُشر في تلك الإصدارات لتساعد القارئ في رسم الصورة الذهنية للشخصية القبطية وللمجتمع الكنسي في مصر خلال السنوات المئة التي بدأت في منتصف القرن الـ19، وحتى منتصف القرن الـ20.

بدايات الصحافة القبطية في مصر

يعود تاريخ إصدار أول مجلة قبطية أرثوذوكسية إلى سنة 1892، وكانت باسم «النشرة الدينية الأسبوعية»، وأصدرها القمص يوسف حبشي، أما أول مجلة كاثوليكية فكانت «الأسد المرقمي»، وقد أصدرتها جمعية الوحدة المرقسية عام 1899. ولكن المدهش أن أقدم مجلة قبطية ظهرت في مصر لم تكن أرثوذوكسية (الطائفة التي تنتمي إليها كنيسة الإسكندرية في مصر)، ولا الكاثوليكية، بل كانت تابعة للطائفة الإنجيلية، وهي مجلة «النشرة الإنجيلية المصرية»، وصدرت سنة 1864، أي بعد 10 سنوات فقط من بدء العمل الإنجيلي في مصر سنة 1854، وكذا قبل إنشاء جريدة «الأهرام» بنحو 11 سنة، وقبل صدور جريدة «المقطم» بنحو 24 سنة!

في هذه السنوات كانت الصحافة المصرية بشكل عام تخطو خطواتها الأولى في النمو، فكانت أول دورية تصدر في مصر بشكل منتظم، وهي الجريدة الرسمية التي حملت اسم «الوقائع المصرية»، خرج أول عدد منها إلى الوجود في القاهرة بتاريخ 20 نوفمبر من سنة 1828، فضلاً عن صدور صحف أخرى أصدرتها تجمعات دينية وعرقية في مدن مصرية، ولكن كان أغلبها ليس باللغة العربية.

ويشير روبير في دراسته إلى أن الصحافة القبطية نشأت في الأساس لأهداف دينية، تفسيرية ووعظية، حيث كانت تهتم أكثر بشرح آيات الإنجيل، وذكر سير القديسين والشهداء في التاريخ المسيحي، وكذلك الوعظ في أمور الدين والدنيا، وربما استمرت هذه الأهداف منذ النشأة وحتى الآن، حتى ولو تخللها فترات انجذاب للسياسة، حسب ما اقتضته طبيعة العلاقة بين الكنيسة والسلطة في مصر.

ولأن الصحافة القبطية جزءٌ من تاريخ الصحافة بشكل عام، فإنها خضعت – في جانب – لما تخضع له الصحف العادية في مرحلة الإصدار، إذ كان العمل بنظام الترخيص الحكومي من عام 1881 وحتى 1931، ليحل محله بعد ذلك الإخطار المقيد، ثم صدور قانون تنظيم الصحافة في 1960. أما الجانب الآخر، فهي كانت تحتاج باعتبارها دوريات دينية إلى موافقتين: الأولى من وزارة الداخلية وتحديدًا من إدارة المطبوعات، والثانية من المؤسسة الدينية التابعة لها، إذ كانت الدوريات القبطية لابد من أن تحصل على موافقة البطريركية أو الكنيسة، ومباركتها لها أحيانًا.

وقد نشأت في مصر عدد من المجلات القبطية ذات التخصص الواحد، فمثلاً صدرت سنة 1907 مجلة «الجنس اللطيف النسائية» والتي كانت تختص بأمور المرأة القبطية وأصدرتها الست ملكة سعد، كما صدرت مجلات للأطفال مثل «أولاد وملائكة»، وللشبان مثل «الرجاء»، ولأقباط المهجر بالإنجليزية والعربية على السواء، فيما كانت مجلة مثل «الكرمة» الصادرة في 1904 تهتم بالشؤون العلمية والفلسفية، وأيضًا مجلة «جمعية الآثار القبطية»، وهي المتخصصة في مجال الدراسات القبطية الأثرية.

ولم يكن معنى أن تكون الدورية متخصصة أو موجهة لقطاع معين أن تهمل الجانب الإخباري والتاريخي، بل توردها بالتوازي مع الموضوعات التي تخص الفئة الموجهة إليها. وكان يكتب في تلك المجلات أساقفة من الكنائس، وكتّاب صحفيون مسيحيون ومسلمون، بل وأقطاب من الصحافة المصرية العادية، وأحيانًا ما كانت تُعاد نشر أعمالهم التي كتبوها في إصداراتهم الصحفية الأصلية.

مجلة «الكرازة»: تاريخ من الصخب

ربما لم تصنع دورية قبطية صخبًا كبيرًا مثلما صنعت مجلة «الكرازة». يقول روبير إنها صدرت أول ما صدرت في سنة 1965، وأسسها البابا شنودة نفسه أيام كان أسقفًا للتعليم وتاريخ الكنيسة، وكانت شهرية في أول الأمر، وقد برز من بين كتابها الأنبا جريجوريوس، أسقف البحث العلمي والدراسات القبطية فيما بعد، خاصة أن الأنبا شنودة كان متخصصًا في إجابة الأسئلة العقائدية والطقسية فيها.

ومن بين المعارك التي شهدتها تلك المجلة أثناء فترة خلاف الأنبا شنودة مع البابا كيرلس السادس، وكان خلافًا إداريًا في الأساس حول طريقة إدارة الإكليركية، وكان العدد الصادر في يونيو 1967 يحتوي على مقالات حادة في نقد البابا كيرلس، الأمر الذي أدى إلى إصدار الأخير لقرار إعادة الأنبا شنودة إلى دير السريان في وادي النطرون، بل أن البابا كيرلس السادس في أحد أحاديثه الصحفية أطلق عليها اسم مجلة «القذارة»، بدلاً من مجلة «الكرازة».

وبعد تجليس البابا شنودة على مقعد البطرياركية أصبحت أسبوعية، واعتبرت صوت الكنيسة الرسمي. ورغم الاحتفاء الذي قدمته المجلة للرئيس السادات، خصوصًا بعد معاهدة السلام، إلا أن الخلاف بين البابا شنودة والرئيس المصري الراحل أنور السادات كان كبيرًا، فلم تكف المجلة عن مشاغبتها، وكان العدد الصادر يوم الجمعة 4 أبريل 1980، هو آخر أعدادها في عصر السادات، لنشرها خبرًا على رأس الصفحة الأولى يفيد بقرار المجمع المقدس بإلغاء جميع الاحتفالات بعيد القيامة والاكتفاء بالصلاة في الكنائس، وعدم تقبل تهاني العيد، واعتكاف الآباء المطارنة والأساقفة في الدير خلال العيد، إذ كان خبرًا بمثابة القنبلة، كما يرى المؤلف، وهو الخبر الذي تسبب في مصادرة المجلة خلال بقية الأشهر التي عاشها السادات، بل امتد التوقف عن الصدور حتى سنة 1988.

مقالات مختارة بعناية

في الجزء الثاني من الكتاب اختار الكاتب روبير الفارس عددًا من المقالات المنشورة في الدوريات القبطية، والتي بالتأكيد تقدم ملمحًا مهمًا وحيويًا لحياة الأقباط السياسية والاجتماعية في مصر، ومن بين ما اختار المؤلف مقال بعنوان «هدية العيد» بقلم نظير جيد (وهو اسم البابا شنودة قبل رهبنته)، وهو منشور في العدد الأول والثاني من مجلة «مدارس الأحد» سنة 1952، ويحكي فيه عن حادث طائفي وقع في السويس، وفيه انتقد المجتمع ككل بسبب الاعتداءات التي ارتكبت في حق المسيحيين في المدينة الساحلية.

وفي مجلة «مرقس» نُشر مقال بعنوان «عبد الناصر.. رسالة في حياته وموته» غير موقع باسم كاتبه في نوفمبر سنة 1970، وهو أشبه بمرثية للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، يقول كاتبها فيها: «لو تركنا الدموع تسح وحدها في مجالها الصامت.. لو تركنا غصة الألم تعصر الصدر في صمت جانبًا.. لو تركنا عبارات الرثاء التي تجمع آلاف المعاني تصور أعمق المشاعر وأصدق آيات الإخلاص والوفاء والولاء تسبح في سماء الفكر، لو تركنا كل هذا جانبًا لنواجه الواقع وحقيقة الأمر لوجدنا عبد الناصر في حياته وفي موته معًا كان رسالة. رسالة حية مقروءة مملوءة بالعبر».

يورد روبير كذلك مقالات للأب متى المسكين، ولمفكرين مثل سمير مرقص، وغيره من الباحثين العلميين والدارسين للتاريخ والآداب، بل ضم كذلك مقالات كتبها شيوخ مسلمون، ومنها ما كتبه الشيخ عبد الله علي بعنوان «اعتراف» في مجلة «اليقظة» في مايو سنة 1940، حيث كان يمتدح قسًا في بلدته التي يسكنها.

نظرة عامة

وبالنظر إلى محتوى المقالات، والظروف التي نشأت واستمرت فيها الدوريات القبطية، نجد أن أقباط مصر (كما عبروا في صحافتهم) مروا بمراحل مختلفة في علاقتهم بالأحداث السياسية والاجتماعية، ويمكن تقسيم تلك المراحل إلى أربع: الأولى من نهاية القرن الـ19 وحتى ثورة يوليو 1952، وهي المرحلة التي تراجعت فيها الوجبة السياسة نسبيًا، على حساب الوجبة الدينية والوعظية والإرشادية، والثانية هي فترة الرئيس عبد الناصر وحتى وفاته في 1970، وفيها حضرت السياسة ليظهر الأقباط دعمهم الواضح لناصر واتجاهاته الاجتماعية والسياسية، والمرحلة الثالثة هي مرحلة السادات والتي انتهت برحيله في 1981، وهي المرحلة الأكثر توترًا وسوءًا بين الكنيسة والسلطة بشكل عام، أما المرحلة الأخيرة فهي بعد هذا التاريخ، وهي متقلبة، ولكن لا توجد صدامات كبيرة، أو دعم غير مشروط، مثل المراحل السابقة.

الواضح كذلك أن مستوى الكتابة في هذه الصحافة القبطية لم يكن مثل نظيره في الصحافة العادية، ربما لأسباب عدة، أهمها طبيعة الدورية وهدفها الرئيسي الوعظي والإرشادي، وكذلك قصر العمل فيها على مجموعة محددة وهم الأقباط وغيرهم من الراغبين في الكتابة، ما أفقدها التنوع المطلوب. وكذلك النقطة الأهم وهي الإخراج الصحفي، والتي يقول روبير الفارس إنها ليست على المستوى بكل تأكيد.

دراسة «المجلات القبطية» ورغم أهميتها الشديدة في تعريف القارئ بجزء مهم من تاريخ الصحافة في مصر، بل وتاريخ مصر بشكل عام، إلا أن الكاتب لم يورد إحصائية واضحة بعدد الدوريات الصادرة، وما الذي توقف منها عن الصدور وما الذي استمر، فضلاً عن استخدامه للفظ «المجلة» على كل الإصدارات تقريبًا، والأفضل كان استخدام لفظ «الإصدار».