بنهاية عام الجائحة (2020)، استطاع أصحاب المليارات جني نحو 3.9 تريليون دولار جديدة وضمها إلى ثرواتهم، والتي بلغت مجتمعة 11.4 تريليون دولار، وهو أكبر من حجم المساعدات الحكومية التي قدمتها مجموعة دول العشرين مجتمعة خلال الجائحة، وذلك وفقاً لتقرير منظمة أوكسفام.

على الجانب الآخر، كان الأثر الأكبر المترتب على الجائحة هو تراجع الدخول وفقدان الوظائف، وعليه فقد ازداد عدد الفقراء الجُدد- كنتيجة مباشرة للجائحة- إلى معدلات غير مسبوقة منذ 20 عاماً، حيث قدّرهم البنك الدولي بـ124 مليوناً، بينما قدّرت الأمم المتحدة أعدادهم بـ235 مليوناً، وقدرتهم مؤسسة أوكسفام ما بين 200 مليون إلى 500 مليون فقير جديد.

غير أن اللافت هو نطاق تغير الثروة، إذ إن معدل ارتفاع ثروات الأغنياء شهد قفزة قياسية. فقد ارتفعت ثروات أغنى 1000 شخص في العالم بنسبة 100% خلال فبراير 2020، وبنسبة 99% خلال نوفمبر 2020. حتى أطلق عليها البعض مصطلح «الأرباح الوبائية».

كل هذه الأرقام والمؤشرات تخلق تساؤلات مُقلِقة حول قنوات توزيع الموارد على الحاجات العامة، وآليات الاستجابة العادلة للأزمة، وجدوى سياسات المالية العامة لإعادة توزيع الدخول.

تغير نطاق الثروة

على الرغم من أن عام 2019 قد شهد تراجعاً في إجمالي حجم ثروات المليارديرات في العالم وكذلك انخفاضاً في عددهم، فإن عام 2020– عام الجائحة- والذي شهد إغلاقاً تاماً للأنشطة الاقتصادية ومنع السفر وفرض حظر التجوال في أغلب دول العالم ، قد شهد زيادة كبيرة في إجمالي حجم ثروات الأغنياء وزيادة عدد المليارديرات أيضاً.

وطبقًا لفوربس، فإن عام 2019 قد شهد انخفاضاً في عدد المليارديرات ليصل إلى 2153 مقابل 2208 في عام 2018. بالتوازي مع ذلك تراجع إجمالي حجم ثرواتهم ليصل إلى 8.7 تريليون دولار في عام 2019 مقابل 9.1 تريليون دولار عام 2018. أما في عام الجائحة 2020، فطبقاً لنفس المصدر، اتسع إجمالي حجم ثروات المليارديرات في العالم بنسبة 20% ليصل إلى 11.4 تريليون دولار. كما ارتفع عددهم ليصل إلى 2200 ملياردير.

إلى جانب قائمة الفوربس للأثرياء الأكثر شهرة التي تعتمد في حساباتها على قيم أسهم الأثرياء، تُصدِر الصين أيضاً «قائمة هورون للأثرياء»، والتي تأخذ نطاقاً أوسع من الأوصول في حساباتها لقائمة أغنياء العالم، حيث تعتمد على صافي قيمة الثروة. ووفقاً لقائمة هورون لأثرياء العالم- والتي تم تحديثها في مارس 2021- فإن عام 2020 شهد إضافة 8 مليارديرات جُدد أسبوعياً، ليصلوا في نهاية العام إلى 421 مليارديراً جديداً، وليرتفع العدد الإجمالي إلى 3288. كما ارتفع حجم إجمالي ثروة جميع المليارديرات بنسبة 32%، ليصل إلى 14.7 تريليون دولار.

ووفقاً لمدير تقرير هورون، فإن الزيادة في حجم ثروة المليارديرات خلال عام 2020 هي أكبر زيادة شهدها التقرير منذ إصداره منذ 22 عاماً، أما حجم الزيادة التي شهدها أثرياء الصين خلال عام الجائحة فهي أكبر من الزيادات التي شهدتها السنوات الخمس السابقة مجتمعة.

لماذا هذا الثراء؟

يأتي اكتناز هذه الثروات- على الرغم من الجائحة التي حصدت مليارات الدخول والأرباح- مدفوعاً بعدد من الأسباب، منها ما هو أصيل بحد ذاته ويتعلق بهيكل الأسواق وآليات توزيع الثروة، ومنها ما هو مستجد نتيجة لتداعيات الجائحة:

1. تغير اتجاهات الطلب

أدت إجراءات التباعد الاجتماعي الصارمة وأشهر الحظر الطويلة إلى تغيير سلوك المستهلكين وتغيير تفضيلاتهم. وهو ما أدى إلى تغييرات في اتجاهات الطلب، فقد شهدت بعض القطاعات ارتفاعاً حاداً في الطلب عليها (كقطاع التجارة الإلكترونية والصناعات الغذائية وصناعة الأدوية واللقاحات والمطهرات والتكنولوجيا والمعلومات)، بينما شهدت قطاعات اقتصادية أخرى تراجعاً حاداً في الطلب وعزوفاً في أحيان كثيرة (كقطاع السياحة والسفر والترفيه والسيارات والملابس الجاهزة والعطور).

كما ظهر سلوك جديد من المستهلكين جراء تفشي وباء كورونا، سُمي «شراء الذعر»، وهو سلوك يندفع فيه المستهلك إلى شراء كميات كبيرة من المنتج بدافع الخوف من نقص العرض مستقبلاً. وعليه فقد اتجه المستهلكون لتخزين المأكولات والمشروبات وأدوات النظافة والتعقيم والرعاية الصحية والأدوية.

أدت الجائحة أيضاً إلى ارتفاع الطلب على التطبيقات الذكية ومواقع الإنترنت بأغراض العمل والتعليم والترفيه والتسوق. فعلى سبيل المثال، أدى تغير أنماط العمل وشيوع نظم «العمل عن بعد»، و«العمل من المنزل»، إلى نمو غير مسبوق في الطلب على خدمات نظم العمل عن بعد، ومن ذلك أن شهد تطبيق Zoom وحده نمواً في التنزيلات بنسبة 109%.

وعليه، فليس من المستغرب أن تزداد ثروة «جيف بيزوس»- الرجل الأغنى في العالم- من 75 مليار دولار قبل الجائحة إلى 185 مليار دولار في نهاية عام 2020، أي بنسبة 147%، وذلك كونه المدير التنفيذي لشركة «أمازون» أكبر متجر إلكتروني في العالم.

 كما تضم القائمة الأمريكية أيضاً بيل جيتس مؤسس «مايكروسوفوت»، ومارك زوكربيرج مؤسس «فيسبوك»، الذي شهدت ثروته زيادة بلغت 80%، ولاري بيج مؤسس «جوجل» الذي زادت ثروته بمقدار النصف وصولاً إلى 76 مليار دولار، وشهد المُؤسِّس المشارك، سيرجي برين، زيادة مماثلة لتصل ثروته إلى 74 مليار دولار.

وجاء على رأس قائمة أغنياء الصين وآسيا Zhong Shansha– وفقاً لقائمة هورون- صاحب أكبر شركة للمياه المعبأة بالصين Nongfu Spring، وهو أيضاً صاحب شركة التطعيم Beijing Wantai Biological Pharmacy. يليه، Ding Lei، الرئيس التنفيذي لشركة NetEase الرائدة في صناعة الألعاب عبر الإنترنت.

2. صناعة الأدوية: الحصان الرابح

كانت صناعة الأدوية واللقاحات هي الحصان الرابح خلال عام 2020، حيث حازت على أكبر نصيب من التمويلات والمنح العامة والخاصة، وذلك كنتيجة مباشرة لوجود الجائحة.

وتندرج هذه الصناعة تحت ما يُسمى «سوق احتكار القلة»، حيث هناك عدد محدود من شركات الإنتاج، والتي تتحكم في العرض والأسعار داخل السوق، وبالتالي تتحكم في الأرباح.

وكما سبقت الإشارة، فإن الجائحة أدت بشكل مباشر إلى تصاعد غير مسبوق للطلب على صناعة الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية. ولذلك فقد كان من اللافت في الصين- خلال الأسبوع الأول من مارس 2020- أن نصف ارتفاع الثروة الذي شهده أغنى 10 أثرياء في الصين (والذي قُدر بـ 14 مليار دولار) كان عائداً إلى شركات الرعاية الصحية.

فعلى سبيل المثال، حقّقت Zhong Huijuan، رئيسة شركة Hansoh للأدوية الصينية، صافي زيادة في ثروتها بمقدار 2.2 مليار دولار، أو ما يقرب من 16% خلال الأسبوع الأول من مارس. كما أضاف Li Xiting، المؤسس والرئيس التنفيذي لأكبر مُورِّد لأجهزة المستشفيات في الصين، Mindray Medical International، 1.3 مليار دولار إلى ثروته، أو 11%، خلال الأسبوع نفسه.

3. النفوذ المعرفي للأثرياء

يتمتع الأثرياء– إضافة إلى خبراتهم المالية الكبيرة- بقدرتهم الواسعة على شراء خدمات مؤسسات وخبراء ماليين محترفين لإدارة أصولهم، فيما يُمكن أن نُسمِّيه «نفوذاً معرفياً»، وهو ما مكّنهم من جني الأرباح داخل أسواق المال بمعرفة الأوقات المناسبة للبيع والشراء.

فقد نظر الأثرياء إلى الانخفاض الحاد في أسعار الأسهم الناتج عن تداعيات الجائحة كفرصة استثمارية. حيث تمكنوا من تجميع المزيد منها بشكل ملحوظ قبل أن تستعيد قيمتها. وبذلك تم جني كثير من المكاسب المالية للمليارديرات.

فلا يتمتع معظم الناس بنفس النوع من قدرة الوصول إلى أسواق الأسهم مثل الأثرياء، الذين يُوظِّفون المصرفيين والمستشارين لإدارة أموالهم. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، امتلك أغنى 1% من السكان أسهم بقيمة 14 تريليون دولار (اعتباراً من الربع الثاني من عام 2020)، بينما امتلك الـ50% الأدنى في هرم الدخل أسهم بقيمة 160 مليار دولار فقط.

4. تفوق بيئة ممارسة الأعمال على نظم الحماية الاجتماعية

استطاع الأثرياء تحقيق استفادة قصوى من التسهيلات التمويلية والامتيازات غير الاعتيادية التي منحتها الحكومات إلى الشركات والأفراد لمواجهة تداعيات الجائحة الاقتصادية. فثمة فروق ملحوظة في قنوات توزيع المساعدات الحكومية المقررة كاستجابة للجائحة ما بين تلك المقدمة للشركات، والأخرى المقدمة للعاملين أو الأفراد. وكذلك فاعلية آليات الاستجابة المختارة للتعامل مع كل منهما.

وهذا تحديداً يُبرِز ويكشف الفارق ما بين قوة بيئة ممارسة الأعمال التي تهدف إلى دفع أرباح الأعمال، وقوة نظم الأمان الاجتماعية التي تهدف إلى ضمان الحد الأدنى من احتياجات الأفراد. فقد قدّمت الحكومات حزم إنقاذ للشركات من خلال قطاع الخدمات المالية وقطاع المالية العامة، وهو ما أفضى إلى تقليل تكلفة الإنتاج وإتاحة قدر أكبر من التمويل. حيث قامت الحكومات بتقديم إعفاءات ضريبية وضخ أسهم وضمان القروض وتوفير تسهيلات ائتمانية.

أمّا المساعدات المقدمة إلى الموظفين والأفراد، فتمت من خلال تحويل قيمة مباشرة بمبالغ محدودة، أو من خلال تحويل قيم للشركات بهدف دفع الأجور. وفيما يخص نظم الحماية الاجتماعية فهي تفتقر إلى وجود أذرع مالية قوية. واعتمدت اتحادات العمال على الضغط من أجل الحصول على ساعات عمل مرنة وإجازات مدفوعة الأجر.

ونخلص من ذلك إلى أن الشركات قد استطاعت الاستفادة من حزم المساعدات الحكومية لتقليل الخسائر ودفع الأرباح من خلال بيئة قوية لممارسة الأعمال، تتميز بمؤسسات فاعلة وسريعة التحرك. في حين استفاد الموظفون والأفراد من حزم المساعدات المالية من خلال المحافظة على نصيب من السيولة النقدية كاف لتغطية متطللبات المعيشة خلال الجائحة.

غير أن هذا لا ينسدل على جميع الحكومات والدول- طبقاً لتحليل ماكنزي للاستجابات الحكومية المختلفة- بل إنه تصاعد في دول ذات اقتصادات السوق المنفتحة كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي تتسم بمحدودية التغطية الذاتية للعمال، ومحدودية تدابير الحماية الاجتماعية، كما تعتمد في هيكلها الاقتصادي على دور أكبر للشركات كبيرة الحجم. ينسدل ذلك النسق أيضاً على الاقتصادات الصاعدة كالصين والهند، وقد شهدتا إضافة أثرياء جدد إلى قائمة المليارديرات العالمين خلال الجائحة.

بينما لا تندرج الدول ذات «اقتصادات السوق المنسقة» ضمن هذا النسق، كالنمسا وفنلندا وألمانيا والدنمارك، حيث تتميز هذه الاقتصادات بسياسات عمل أكثر صرامة، وتغطية أكبر للعمالة، وتعتمد في هيكلها على الشركات الصغيرة والمتوسطة والتي تُنتج في المتوسط 60% من الناتج المحلي الإجمالي.

5. اللامساواة

إن «اللامساواة في الثروة» المتأصلة في العالم بالفعل قبل الجائحة، أدت إلى اختلاف الاستجابة للأزمة على مستوى الأفراد. حيث ظهرت الجائحة في عالم يكسب فيه الـ1% الأغنى أكثر من كل ما يكسبه 50% من السكان، وهم الأكثر فقراً. وهو تفاوت شاسع مبنى على أساس اختلاف النوع الاجتماعي والعرق.

هذا ولم يكن متاحاً لأكثر من ثلاثة مليارات شخص الحصول على الرعاية الصحية، ولم يكن يتمتع 75% من العمال بالحماية الاجتماعية، كما يقبع نصف العمال في الفقر، وذلك على مستوى العالم.

ففي حين استطاع ذوو الدخول المرتفعة تمويل إجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي وتحمل مصروفات التعقيم والعمل عن بعد أو أخذ إجازات. لم يستطع الأقل دخلاً تحمل ذلك، بل وأجبروا على النزول إلى العمل. وكشفت الأزمة أن الغالبية العظمى من سكان الكوكب لا يعتمدون في تكوين ثرواتهم على الأجور أو الدخول الدورية، ولا يملكون المدخرات الكافية لمواجهة الانقطاع المفاجئ لهذه الدخول سوى لبضعة أشهر.

في المقابل، يمتلك الأثرياء بطبيعة الحال مجموعة واسعة من الأصول، إضافة إلى حجم كبير من المدخرات يمكنهم من تحمل انقطاع الدخول لمدى أطول، وبل وتدبير الإجراءات الكافية لتعويض خسائرهم من الجائحة في أقصر وقت. فوفقاً لتقرير أوكسفام عن اللامساواة، الصادر في يناير/كانون الثاني 2021 والذي تمت مناقشته في منتدى دافوس العالمي، فقد نجح الألف شخص الأكثر ثراءً حول العالم في تعويض خسائرهم في الثروة (والتي صاحبت بداية الأزمة) خلال تسعة أشهر فقط في عام 2020، بينما يحتاج الأكثر فقراً إلى أكثر من عشر سنوات للعودة إلى مستوياتهم قبل الأزمة.

السيناريوهات المتوقعة

تذهب التوقعات إلى استمرار فجوة اللامساواة في الاتساع، حيث ستكون الدول الأغنى هي الأسرع في التعافي، كما سينجح الأثرياء والشركات الرابحة في حصد المزيد من الأرباح خلال العام الراهن.

في المقابل، ستتصاعد بقوة الأصوات المطالبة بفرض ضرائب أعلى على الدخل والثروة على الأثرياء، وبإحكام رقابي أعلى على طرق نقلهم للأموال. كما ستعلو المطالبات الدولية الموجهة لشركات تصنيع اللقاحات بتخفيض أسعاره، وقد ينتج عن ذلك أن تُوفِّر بعض الشركات كميات من اللقاح بسعر التكلفة فقط في فترة انتشار الوباء، أي لبضعة أشهر. في حين ستستثمر الحكومات أموالاً أكبر في استراتيجيات محاربة الأوبئة.

وختاماً، فإن اتجاهات خلق الثروة خلال الجائحة قد أثارت قلقاً واسعاً حول آليات توزيع الثروة ومدى وملاءمتها لاحتياجات المجتمع، إذ اتجهت الأموال إلى الأثرياء في حين أن المجتمع الدولي يحتاجها بشدة لمواجهة الوباء الشرس. كما أثارت الشكوك حول قوة وفاعلية منظمات المجتمع الدولي في حماية الدول والشعوب الأكثر فقراً، وكفالة حقهم في الصحة والعدالة.