في عام 1918 اجتاح وباء الإنفلونزا الإسبانية العالم، متسببًا في وفاة ما بين 25 و 50 مليون شخص، ليسود العديد من الأحاديث والنظريات التي ألقت بتهمة خلق هذا الوباء كسلاح على الجيش الألماني. بعدها بسنوات طويلة تزيد عن الـ50 عامًا، انتشر الإيدز ، لتسود أيضًا اتهامات عدة من قبل المخابرات السوفيتية بأن الولايات المتحدة قد قامت بتطوير الإيدز كسلاح بيولوجي جربته على سجناء ومثليين جنسيًّا مع جعل أفريقيا أصلًا للمرض.

بالرغم من نفي علماء الأحياء والأطباء بمختلف أرجاء العالم صحة مثل هذه النظريات، فإنها بقيت رائجة حتى يومنا هذا، وظهرت مع كل وباء جديد يجتاح العالم، وآخرهم كورونا الجديد «كوفيد 19»، حيث يروج لكونه سلاحًا بيولوجيًّا من إنتاج الصين، وكذا يتهم الجيش الأمريكي بنشر الفيروس. لكن نظرة سريعة على هذه الأحاديث تظهر أنها تأتي في إطار توظيف الأوبئة واستغلالها في الصراعات والمعارك السياسية بين الدول، وبمعنى آخر «تسييس الأوبئة».

واشنطن ضد بكين: كورونا حلقة جديدة في مسلسل التصعيد

اليوم وحتى كتابة هذه السطور، أصاب كورونا أكثر من 175 ألف شخص حول العالم، وتسبب بوفاة أكثر من 7 آلاف، وتخوض مختلف دول العالم معارك طبية في مواجهته، لكن على الجانب الآخر، هناك العديد من الدول التي دخلت في معارك سياسية مستمدة زخمها من الفيروس نفسه.

كانت البداية مع الولايات المتحدة التي في إطار صراعها السياسي والحرب التجارية المشتعلة بينها وبين الصين، وظفت الفيروس ضد بكين، مصورة إياه سلاحًا بيولوجيًّا تسرب من أحد مختبراتها خلال تطويره.

اعتمدت واشنطن على وسائل إعلامها المختلفة لاستخدام نظرية المؤامرة ضد الصين، ثم انتقلت لاحقًا إلى التلميح على لسان عدد من مسئوليها السياسيين بعدم الشفافية في مكافحة الفيروس، والترويج لأنه سلاح حيوي تم تصنيعه. ظهر ذلك واضحًا مع نشر صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية تقريرًا أشارت فيه إلى أن فيروس كورونا مخلق في مختبر عسكري في ووهان تديره الحكومة الصينية وتابع لمعهد ووهان لعلم الفيروسات، وأنه تم تصنيعه لاستخدامه كـسلاح بيولوجي عسكري.

اعتمدت الصحيفة في تقريرها على تصريحات ضابط استخبارات إسرائيلي سابق يدعى داني شوهام، وضح خلالها أن بعض المعاهد التابعة للمختبر الصيني كانت تعمل على دراسة وتطوير أسلحة بيولوجية صينية، وأنه ربما تكون منافذ أخرى التقطت الفكرة نفسها وسارت على نهجها وأدت بالخطأ لانتشار الفيروس.

​على المسار نفسه سارت إذاعة تكساس الأمريكية، فتناولت مجموعة من التحليلات التي تفيد أن الفيروس جرى إنتاجه في قسم الأسلحة البيولوجية التابع للجيش الصيني، وتساءلت الإذاعة «لماذا لا تخرج الصين للإعلان رسميًّا عن أصل هذا الفيروس القاتل؟ هل يمكن ربط الفيروس ببرنامج الحرب البيولوجية في الصين؟».

بالنظر إل طبيعة هذه المواقع وخاصة صحيفة واشنطن تايمز – التي بدأت تلك الضجة – وعدد من المواقع الأخرى التي تناولت القصة بنفس الاتجاه المتهم للصين، يلاحظ أن معظمها من المؤيدين للرئيس الأمريكي والداعمين له في صراعه السياسي ضد الصين، أي أن الأمر كان بمثابة حلقة جديدة من مسلسل التصعيد الأمريكي ضد بكين.

انتقلت حلقات المسلسل بعد ذلك من الترويج الإعلامي عبر الصحف والمواقع إلى مراحل أكثر تقدمًا، حيث دخل المسئولون الأمريكيون على خط الأزمة، مثل مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين الذي تحدث عبر قناة سي بي أس الأمريكية عن رفض الصين للعروض الأمريكية للمساعدة.

نفت الخارجية الصينية تلقي أي عروض من الولايات المتحدة، قائلة إنها «لم تتلقَّ أي مساعدة جوهرية من الولايات المتحدة، وأن كل ما تلقته هو نشر الذعر فقط»، مشيرة إلى أن «الولايات المتحدة، كانت أول دولة تقترح انسحابًا جزئيًّا لموظفي سفارتها، وأول دولة تفرض حظرًا على سفر الأشخاص من الصين، وأن كل ما فعلته لا يمكن أن يوصف إلا كمحاولة لخلق ونشر الخوف».

بعد ذلك خرج وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو متهمًا الصين وإيران بالتستر على شدة الوباء، الأمر الذي ردت عليه بكين بأنها زودت تايوان بجميع المعلومات المتعلقة بالوباء وطرق السيطرة عليه فور حدوثه، داعية واشنطن إلى وقف المضاربة السياسية وعدم تسييس الوباء.

علاوة على ما سبق، تحولت بكين إلى المهاجمة، إذ دفعت بأحاديث جديدة حول أصول الفيروس مفادها أنه ربما يكون مرضًا أدخله أفراد من الجيش الأمريكي الذين زاروا ووهان في أكتوبر/ تشرين الماضي. ما ظهر جليًا في تغريدة مسئول كبير في بكين بأن «الجيش الأمريكي بدأ وباء كوفيد 19».

تكاثرت الأحاديث والاتهامات المتبادلة بين واشنطن وبكين على مختلف المستويات بدءًا من الإعلام إلى المسئولين من كلا البلدين، انتقل الأمر إلى مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف دول العالم، حيث ثارت العديد من التحليلات والتساؤلات عما إذا كان الفيروس الجديد صنيعة صينية أو حرب بيولوجية انقلبت عليها. والأمر في الواقع ليس أكثر من توظيف سياسي للوباء من قبل الطرفين ضمن الصراع السياسي والاقتصادي بينهما.

إن نظرة على الإجراءات الدولية المتخذة وما ترتب على الوباء من تداعيات سلبية على اقتصاد البلدين ومختلف دول العالم، تكشف أن الضرر الناجم عن الفيروس يصيب الجميع، فاقتصاديات العولمة لا تسمح لأحد أن ينجح أو ينقذ نفسه بينما يُهلك الآخرين.

موسكو تدخل على الخط

دخلت موسكو أيضًا على خط الأزمة وسعت إلى توظيف الوباء سياسيًّا ضد الولايات المتحدة، فبمجرد انتشار الأنباء عن الفيروس، عمدت وسائل الإعلام الروسية إلى تحميل واشنطن ومختبراتها مسئولية استخدام كورونا كسلاح ضد خصومها وخاصة بكين وطهران.

مثلما جرى توظيف الإعلام الأمريكي في توجيه الاتهامات للصين، وظف الإعلام أيضًا في موسكو. عرضت القناة الروسية الأولى تقريرًا يوضح أن فريقًا واسعًا من الروس مقتنع أن الولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترامب شخصيًّا يقفان وراء انتشار الوباء القاتل، وأن السبب في ذلك واضح على أساس أن اسمه «فيروس كورونا» أي الفيروس التاجي. بناءً على تاريخ ترامب الذي كان يوزع التيجان على ملكات الجمال قبل أن يصبح رئيسًا، بدا منطقيًّا للقناة أن واشنطن هي من قامت بنشر الفيروس في الصين، بعد أن تعهد ترامب بتدمير اقتصادها.

بالطبع أثار تقرير كورونا وملكات الجمال سخرية الكثير من الروس، لكن ذلك لم يمنع استكمال عملية الترويج، فقامت العديد من القنوات – مثل «تسارغراد» – ببث تقارير وأفلام وثائقية تدلل بها على تورط واشنطن في انتشار الفيروس، معتمدين في ذلك على تحليلات مسئولين روس سابقين وضحوا أن الولايات المتحدة تقوم بإنتاج فيروسات مصممة على أساس الهندسة الوراثية، ليصاب بها عرق محدد دون غيره، مرجحين أن يكون فيروس كورونا من هذا النوع، على أساس أن غالبية المصابين به من الصينيين.

مع انتشار الفيروس بمختلف أرجاء العالم، وتفشيه بشكل كبير بدول معينة مثل إيطاليا، بدا واضحًا للروس كذب مثل هذه التحليلات، لكن وسائل الإعلام الروسية استمرت في مسارها للكشف عن جرائم الولايات المتحدة واستخدامها السلاح البيولوجي المحرّم دوليًّا، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.

انتقدت الخارجية الأمريكية ما تبثه وسائل الإعلام الروسية، مؤكدة أيضًا أن الأمر لا يقتصر عليها بل امتد إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اكتشفت آلاف الحسابات المرتبطة بروسيا على تلك المواقع تروج لمثل هذه المزاعم، ما ردت عليه الخارجية الروسية بالنفي، فوضحت المتحدثة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا أن ما تقوله الخارجية الأمريكية «قصة كاذبة ومتعمدة».

لم تكن منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن هذا التسييس، إذ استغلت بعض الدول الوباء كأداة في الصراع السياسي بينها، كانت أبرز الأمثلة على هذا السعودية وإيران. فقد وظفت المملكة الفيروس في صراعها السياسي مع طهران، وروجت لأنها تتعمد تصدير الوباء إلى الخارج كما تعمدت تصدير ثورتها من قبل.

الشرق الأوسط كان حاضرًا أيضًا

سلطت وسائل إعلام السعودية الضوء على الطريقة التي تتعامل بها طهران مع الوباء موجهة لها العديد من الانتقادات التي تركزت بالأساس عدم الشفافية وإخفاقها في السيطرة على الوضع الكارثي بها في ظل ضعف إمكانياتها الصحية وتركيز جهودها على التوسع الخارجي ونشر أيديولوجيتها بدلًا من الاهتمام بتحسين الأوضاع الداخلية لسكانها.

في السياق نفسه، تناقلت وسائل إعلام سعودية وأخرى مصرية خبر إصابة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بفيروس كورونا، رغم عدم صحته، ونشرت في المقابل وسائل إعلام أخرى بعضها مقرب من قطر خبر إصابة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد بالفيروس.

تطور الأمر بعد ذلك إلى اتهام السعودية رسميًّا لإيران بنشر الفيروس من خلال إدخالها مواطنين سعوديين إلى أراضيها، دون وضع ختم على جوازاتهم، حيث خرج أحد مسئولي الخارجية السعودية ليطالب طهران بالإفصاح عن هويات المواطنين السعوديين الذين زاروها بشكل مخالف منذ الأول من فبراير الماضي، وحملها المسئولية المباشرة في التسبب في تفشي الإصابة بالفيروس وانتشاره عبر العالم. الأمر الذي نفى صحته المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، مطالبًا السعودية بالامتناع عن تسييس مرض كورونا وإشاعة أخبار غير صحيحة.

كذلك خرجت وسائل أخرى لتبالغ في أعداد المصابين بالفيروس في مصر كما هو الحال في صحيفة الجارديان التي تمتلك قطر حصة بها منذ عام 2013، والتي أشارت لوصول أعداد المصابين بمصر لأكثر من 19 ألف مصاب اعتمادًا على تقديرات وإحصائيات غير رسمية، رغم أن ما تم إعلانه رسميًّا حتى يوم الـ17 من مارس/آذار لم يتعدَّ 196 حالة، الأمر الذي انتهى بإغلاق مكتب الصحيفة بالقاهرة.

كورونا: سلاح المعارضة في وجه النظام

تجسدت الحالة الأولى في دول عدة من بينها الصين نفسها، حيث ساهم انتشار الوباء بشكل كبير في تصاعد المعارضة الداخلية ضد الحزب الشيوعي الصيني، وتوجيه الانتقادات له بشأن عمليات التكتيم وحجب المعلومات فضلًا عن التقصير في تطويق المرض قبل انتشاره.

مختلف الأمثلة السابقة وغيرها الكثير توضح كيف تم تسييس كورونا وتوظيفه كأداة في الصراعات السياسية بين الدول، لكن واقع الحال يشير إلى أن هذا التوظيف لم يقتصر على المستوى الدولي فقط، بل امتد إلى داخل الدولة الواحدة حيث استخدمته المعارضة في أحيان كثيرة في وجه النظام، وفي أحيان أخرى استخدمه النظام نفسه لتحقيق مكاسب سياسية.

في الولايات المتحدة، وجه الديمقراطيون الانتقادات لسياسة ترامب في التعامل مع الوباء، مشيرين إلى أنها تفتقر إلى التحرك العاجل. ما دفع الرئيس الأمريكي للرد عليهم متهمًا إياهم بمحاولة تسييس القضية، وتشويه العمل الذي يضطلع به المختصون في مجال الصحة العامة.

في إيران، استخدمت المعارضة الإيرانية في الخارج الفيروس كسلاح في صراعها ضد النظام الحاكم، حيث اتهم المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية النظام بالتأخر في إعلان حالة الطوارئ في محافظة البرز (بالشمال)، مما رفع عدد الوفيات إلى 120 حالة. الأمر الذي رأى فيه الكثير تهديدًا جديدًا للنظام الإيراني إذ انتاب الشارع حالة من عدم الثقة في الحكومة، فالأمر هنا لا يتعلق بأزمة اقتصادية فقط بل بتهديد حياة المواطنين.

بمختلف دول العالم التي عانت سابقًا من مشكلات اللاجئين مثل دول أوروبا الشرقية والجنوبية، لجأت الأحزاب المعارضة المعادية للأجانب إلى التحريض ضد الحكومات، والدعوة لإسقاطها، حيث اتهمتها بتعريض سلامة تلك البلدان للخطر لتهاونها في مسألة وصول المهاجرين إليها، مستغلة حالة الخوف من المرض المنتشرة، وظهر ذلك واضحًا في إيطاليا، حيث الحملة التي شنها حزب الرابطة ضد الحكومة، وهو أحد الأحزاب المعروف بمعاداته للاجئين والمهاجرين.

على الجانب الآخر، لجأت بعض الأنظمة لتوظيف الأزمة لصالحها كما هو الحال في إسرائيل، ودعوة رئيس الوزراء المنتهية ولايته، بنيامين نتنياهو، مختلف الأحزاب إلى تحمل المسئولية في ظل تفشي الفيروس، والدخول في ائتلاف حكومي معه، لتجنب التوجه إلى انتخابات رابعة مبكرة. وهي محاولة منه لاستغلال الوباء في الضغط على هذه الأحزاب لتشكيل الحكومة في ظل عجزه عن الحصول على الأغلبية اللازمة لتشكيلها.

ختامًا، نشير إلى أن استغلال فيروس كورونا الجديد سياسيًّا لم يكن حكرًا على الدول السابق الإشارة إليها، فالعديد من الدول حول العالم لجأت لاستغلاله لتصفية حساباتها وصراعاتها السياسية مع غيرها من الدول ومع المعارضة داخلها، أو حتى لتحقيق مكاسب سياسية، كما هو الحال مع إيران التي ذهب المرشد الأعلى بها آية الله خامنئي إلى التباهي بإجراء الانتخابات التشريعية التي اعتبرها إفشالًا لمخططات الأعداء، بدلًا من أن يهتم بإنقاذ بلاده من الوضع الصعب الغارقة به. والحقيقة أن هذا هو حال السياسة منذ القدم: كل شيء قابل للتسييس، حتى المرض.