في بلد عانى كثيرًا من السيارات المفخخة، استوردت الحكومة العراقية في عام 2007 أجهزة للكشف عن المتفجرات في صفقة تجاوزت 200 مليون دولار. في العام التالي أضافت الحكومة صفقة أخرى بـ32 مليون دولار، لكن سرعان ما تبين أن تلك الأجهزة هي مجرد قطع من الحديد لا قيمة لها، ولا تستطيع الكشف عن أي شيء، سوى غرق العراق في وحل الفساد.

بعد التمدد المذهل والسريع لتنظيم داعش عرف العالم فضيحة أكبر من فضائح الفساد داخل الجهاز الأمني في العراق، في هذه المرة كان الجيش هو مسرح الجريمة.

فبعد أن سيطرت داعش على الموصل، كشف رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي أن هناك ما يقرب من 50 ألف جندي وهمي في الجيش العراقي، يقبضون رواتب من خزينة الدولة العراقية بدون أن يكونوا موجودين. هذا الفساد سهل من مهمة مقاتلي داعش في السيطرة على الموصل، إذ لم يوجد من يحاربهم أصلاً.

على مدار السنوات الماضية، لا يكاد صوت العراق يهدأ، تتجدد موجات الاحتجاج واحدة تلو الأخرى، ويصرخ المواطنون المطحونون تحت حجم الفساد الثقيل.

رؤوس الفساد قد أينعت

قصة الفساد في العراق هي قديمة، والترتيبات المؤسسية للفساد الحالي مرتبطة أشد الارتباط بنظام الحكم الذي أقامه الأمريكان في 2003، وما زال قائمًا لليوم، تتشابك تلك الترتيبات مع تقسيم النفوذ السياسي للقوى المحلية والخارجية، خاصة الولايات المتحدة وإيران .

منذ العام 2003 وحتى الآن، تشير عدد من التقديرات أن تكلفة الفساد في العراق تخطت 300 مليار دولار ، بينما تشير مصادر غير رسمية أن تلك الأرقام تتجاوز الـ 800 مليار دولار على مدار الـ 16 سنة من الغزو الأمريكي وحتى الآن .

يقبع العراق في المرتبة 168، من أصل 180 دولة، على ترتيب مؤشر الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية . قصص الفساد داخل العراق كبيرة ومتداخلة إلى الحد الذي يهدد الدولة العراقية نفسها، بحسب كلمات عادل عبد المهدي رئيس الوزراء الحالي .

تفوق معدلات البطالة 22 % في العراق، لكن الرقم أكبر من هذا بكثير إذا ما أخذنا في الاعتبار البطالة المقنعة الممثلة في الحجم الضخم للبيروقراطية الحكومية.

تقول الحكومة العراقية إن عدد موظفيها يبلغ نحو 4 ملايين موظف، لكن التقديرات تحمل الرقم إلى 7 ملايين، مع احتساب العاملين بالعقود والأجراء اليوميين وأفراد الميليشيات ضمن الحشد الشعبي والحشود العشائرية.

أن تصدر النفط وتستورد الطاقة!

الحشد الشعبي، المكون من ميليشيات استخدمتها الحكومة في محاربة داعش، ويمثل قوة كبيرة على الأرض في العراق، يضم الحشد الشعبي الآلاف من المسلحين الشيعة الموالين لإيران، لا ريب إذن في أن نرى لإيران نصيبًا كبيرًا من الكعكة العراقية.  

على سبيل المثال، يشتري العراق الغاز الإيراني بسعر 11.23 دولار لكل ألف قدم مكعب، مقارنة بـ 5.42 دولار دفعتها ألمانيا لشراء غاز أبعد مسافة، من روسيا، أو حتى 7.82 دولار دفعتها اليابان مقابل الغاز الطبيعي المسال.

لا يستنزف هذا الفساد فقط أموال العراقيين، لكنه يعكر عليهم حياتهم اليومية، فثاني أكبر منتج للنفط في العالم يعاني سكانه في الحصول على الطاقة الكهربية.

أنفق العراق في العشر سنوات الأخيرة ما يقارب 40 مليار دولار لتطوير محطات توليد الطاقة الكهربية في البلاد، لكن كل تلك الأموال ذهبت سدًى.

تعاني أغلب مناطق العراق من انقطاع متكرر للتيار الكهربي، خاصة بعد قرار إيران في يناير/ كانون الثاني الماضي وقف تصدير الكهرباء للعراق، بسبب تأخر الأخيرة في دفع مستحقات الحكومة الإيرانية. لاحقًا، نجح وزير الكهرباء العراقي في إعادة الكهرباء الإيرانية إلى العراق بعد تعهد بغداد بدفع المستحقات المتأخرة لطهران، لكن طهران أصرت، في العقود الجديدة، على حقها في قطع تلك الإمدادات في حالة زيادة الأحمال في الداخل الإيراني.

 لا ينتج العراق سوى 58 % فقط من احتياجاته من الكهرباء، ويستورد الباقي رغم أن البلد ينتج يوميًا ما يقارب 4 ملايين برميل من النفط.

تصل تكلفة المحطات الكهربية إلى 300 مليون دولار تقريبًا للمحطة، ويقدر أن 10 محطات منها كافية لإنتاج 3 آلاف ميغاواط وهي تكفي احتياجات العراق.

تشير التقديرات أيضًا أن الشعب العراقي يدفع ما يقارب من 4 مليارات دولار سنويًا لأصحاب المولدات الخاصة، والتي تحكترها شركات مرتبطة أيضًا بمصالح اقتصادية مع القوى السياسية الكبرى في العراق.

الاقتصاد السياسي للفساد في العراق

تسهم طبيعة الدولة العراقية ما بعد 2003، والقائمة على المحاصصة الطائفية بين الشيعة والسنة والأكراد في العراق، بشكل كبير في تغذية عمليات الفساد المؤسساتي في هذا البلد.

وفي بلد كالعراق، فالفساد المالي والنفوذ السياسي وجهان لعملة واحدة.

مثلاً، رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، الأمين العام السابق لحزب الدعوة الإسلامي أكبر الأحزاب الشيعية في العراق، هو أحد أكبر المتهمين في قضايا الفساد، رغم أنه لم يقبض عليه ولم يعرض للمحاكمة حتى الآن.

بحسب موقع دايلي بيست الأمريكي، فإن المالكي ومسئولين عراقيين في حكومته متورطون في قضايا فساد مع جنرالات أمريكيين تصل لـ 2 مليار دولار.

المالكي كان قد أعلن أن حكومته اشترت طائرات روسية للجيش العراقي بملايين الدولارات، تبين لاحقًا أن تلك الطائرات هي طائرات عراقية لم تستطع العودة للعراق أثناء الغزو الأمريكي في 2003، واضطرت للهبوط في روسيا آنذاك، فأعادت حكومة المالكي تلك الطائرات على أنها تم شراؤها.

في أثناء حكم المالكي، هرب قرابة 60 وزيرًا ومسؤولاً خارج البلاد بعد اكتشاف فسادهم، تتجاوز ملفات الفساد الخاصة بالمالكي أكثر من 100 ملف بحسب هيئة النزاهة العراقية، ويعتقد أن العراق تكبد ما يقرب من 280 مليار دولار كتكلفة للفساد في عصر المالكي.

لا يعد الفساد حكرًا فقط على الأحزاب الشيعية الكبرى فحسب، فالأحزاب السنية أيضًا غارقة في الفساد حتى أذنيها؛ أما في كردستان العراق فالفساد يتم توزيعه بالتساوي بين الأحزاب الكردية.

أنتج هذا الوضع ضعفًا شديدًا في جسد الدولة العراقية، وتعثرًا في مسيرة التحول نحو الديمقراطية.

ابتلع الفساد عائدات النفط العراقي والتي تقدر شهريًا بـ 7 مليارات دولار، أي ما يقرب من 84 مليار دولار سنويًا، فربع سكان العراق ما زال يعاني تحت خط الفقر. 

يمكن القول إن الاحتجاجات المتجددة في العراق هي فرصة لأن ينتزع الشعب العراقي زمام المبادرة من النخب السياسية الفاسدة، لكن الطريق صعب وطويل في دولة معقدة ولها حساباتها الخاصة كالعراق.