قد كان ذلك حدثًا جللًا. بالطبع هو المهندس الأكبر في المملكة، وإليه عهد الملك خوفو بالكثير من خطط البناء سابقًا إلا أن كل هذه المشروعات لا تقارن بهذا التكليف. لقد أمر الملك خوفو مهندسه الأهم وابن أخيه حيم إيونو بالبدء في تخطيط وتصميم مقبرته. لم يكن طلب خوفو يقتصر على بناء مقبرة أخرى مماثلة لمقبرة أبيه الملك سنفرو مثلًا. لقد طلب الملك من المهندس تصميم مدينة كاملة، مدينة للموتى.

تلك المقبرة التي عليها أن تكون على مستوى خرافي من العظمة والجلال والضخامة ستسن تقليدًا جديدًا في تقاليد دفن الملوك. لن يدفن الملك وحده في غياهب الصحراء حيث لا شعب ولا سلطان، وحيث لا يجرؤ إنسان أن يزعج راحته الأبدية. على العكس، ستصمم مدينته الجديدة بحيث يقبع هو في قلبها وتترامى حوله مقابر الأمراء والنبلاء والموظفين الكبار في الدولة. تلك التراتبية التي تعكس تراتبية الأحياء على الجانب الآخر من النيل.

هكذا في الجيزة ومنذ العام 2500 قبل الميلاد، انتصبت المقبرة في وجه الزمن شاهدة على حسن إتمام حيم إيونو لمهمته. وهناك بالقرب من رائعته، سيدفن الأمير حيم إيونو نفسه[1].

هل كان الملك خوفو طاغية بالفعل أم أن عظمة مقبرته هي ما أوحى لنا بهذا؟ قد نختلف حول إجابة هذا السؤال، لكننا لن نختلف حول ما للهرم الأكبر من سلطان على العقول. مع هذا فإن الأمر لا يقتصر على النظر لهذا البناء المهول من الخارج. إن العظمة الحقيقية تتمثل فيما هو أعمق من الغطاء الخارجي الذي عارك الزمن لأربعة ونصف آلاف عام.

لم تنجح هذه الألفيات في جعل الهرم الأكبر كتابًا مفتوحًا. لهذا فإن أملنا الوحيد هو العلم. وها قد أتى العلم ليشع نورًا جديدًا على قلب الهرم.


إعادة فتح القضية

نترك عصر المملكة القديمة ونمتطي الزمن ليسير بنا نحو الماضي القريب. في أكتوبر 2015 تم إطلاق مشروع هو الأضخم بالنسبة لاستكشافات الأهرامات المصرية. في تعاون بين جامعة ناجويا اليابانية وجامعة لافال الكندية بالإضافة إلى جامعة القاهرة ومعهد حفظ التراث HIP والعديد من مؤسسات البحث المتقدمة في فرنسا، بدأ مشروع ScanPyramids في العمل مستهدفًا أهرامات دهشور التي بناها سنفرو وأهرامات الجيزة التي بناها خوفو ابنه وخفرع حفيده.

ما الهدف؟ رؤية أعمق، ولا نعني هذا كتعبير بلاغي. لقد كان هدف المشروع بالفعل هو رؤية ما يكمن في قلب الهرم. أراد الباحثون –دون اللجوء إلى ثقب واحد في ملليمتر واحد في أي من جدران البناء – أن يقوموا بتصوير الهيكل الداخلى للهرم.

من المعروف قبل بداية المشروع أن الهرم يملك 3 حجرات مسبقة الاكتشاف هي غرفة الملك وغرفة الملكة والبهو الكبير Grand Gallery. رغم عدم وجود أي مداخل لغرف أخرى في الهرم إلا أن مقبرة كتلك المقبرة من المنطقي أن تحتوي على غرف أو أماكن للتخزين تم غلقها بأحكام بأحجار إغلاق عملاقة وقوية استطاعت حمايتها من اللصوص الذين أتوا على ما في الغرف الأخرى وتركوا تابوت الملك خوفو الجرانيتي فارغًا.

كذلك فإن بناء الهرم الأكبر ما زال خاضعًا للجدل بين علماء المصريات وعلماء الآثار مما يعني أن الخطة الدقيقة للبناء ما زالت تعوزنا. لهذا السبب فإننا لا نستطيع الجزم بتكوين الهرم من الداخل وبالتالي لا نستطيع الإلمام بالتفاصيل التي استدعاها بناء الصرح الضخم.

كان اكتشاف الغرف الثلاث هو أقصى ما يمكن القيام به باستخدام المداخل التي صنعها اللصوص وبناة المدينة اللاحقين بناء على أمر الخليفة المأمون. كان هذا مخاطرة خطرة للغاية لا يمكن الإتيان بمثلها الآن، وبالتالي فإن المزيد من الاستكشاف يتطلب المزيد من الإبداع في إيجاد طرق جديدة لا تمس الهيكل ذاته بأذى.

في هذا الموقف لا يسعنا إلا التساؤل، ما الذي تستطيع التقنية تقديمه لنا؟ كيف يمكن فك السحر المحيط بالهرم بواسطة المعرفة الحديثة؟


من طلب هذا الشيء؟

هنا يتحتم علينا أخذ فاصل سريع من فيزياء الجسيمات Particle Physics. للطبيعة أربع قوى أساسية هي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة والقوى النووية القوية. منذ أن اكتشف العلم وجود جسيمات أصغر من الذرة ونحن نستخدم رد فعل الجسيم ناحية كل من هذه القوى لصنع تصنيف عام يجمع الجسيمات ذات الخواص المتشابهة معًا.

من ضمن الجسيمات التي لا تتأثر بالقوى النووية القوية والتي تدعى ليبتونات، نجد الإلكترون وشبيهه الأكبر كتلة والمدعو ميون Muon. ينتمي اكتشاف الميون إلى اكتشافات الصدفة البحتة حيث كان أندرسون يحاول العثور على جسيم مختلف تمامًا. أثناء مراقبته لتجاربه وبالاشتراك مع سيث نيدرماير وجد أندرسون الميون كامنا هنا في الأشعة الكونية بأعداد ضخمة وبدون فائدة أو نشاط يذكر. هكذا تم اكتشاف أحد أكثر الجسيمات عدم إثارة للاهتمام. كان هذا في العام 1937[2].

لم يكن إيزودور رابي الفيزيائي الذي كان رد فعله على اكتشاف الميون «من طلب هذا الشيء؟!» يعلم ما سيكون للميون من أهمية لاحقة عند تطور تقنية التصوير[3].

قفزة أخرى بالزمن ولكن أصغر. في خمسينيات القرن الماضي بدأت الأفكار تتراكم حول مدى إمكانية استخدام سلوك الميون مع المادة للتصوير. مع التطور اللاحق لتقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد بدأ التجريب الفعلي للتقنية وكان من أهم هذه المحاولات تجربة ألفاريز.

حاول لويس ألفاريز -الحاصل على نوبل الفيزياء لاحقا عام 1968- استخدام الأشعة الكونية Cosmic rays في تصوير الهيكل الداخلي لهرم خفرع. لم ينتج عن التصوير أي اكتشاف لغرف جديدة إلا أن دقة التصوير مكنته من إثبات قدرات التقنية الجديدة.

ألواح حساسة للميونات بداخل قلب الهرب الأمبر

قام مشروع سكان بيراميدز على نفس الفكرة، ولكن على نطاق أضخم يشمل أربعة أهرامات من ضمنها هرم خوفو الأكبر. قام علماء المشروع بتثبيت ألواح حساسة Nuclear Emulsion للميونات -المكون الأساسي للأشعة الكونية التي تغمر الكوكب على الدوام آتية من الفضاء – في داخل الحجرات المكتشفة وفي البهو بشكل خاص. عملت الألواح الحساسة ككواشف detectors للميونات التي تمر خلال الهرم.

لكن ما أهمية هذه الكواشف؟


مفاجأة في قلب الهرم

الهرف الأكبر، خوفو
الهرف الأكبر، خوفو

إذا سبق لك أن أجريت فحصًا بواسطة الأشعة السينية X سيمكنك ببساطة تخيل كيف يعمل مكشاف الميونات. ما يحدث لأشعة إكس هو أنها تمر عبر الأنسجة الخفيفة المكونة للجسم بسهولة دون أن يتأثر مسارها، لكنها ما أن تصطدم بمادة أكثر كثافة كالعظام، فإنها تمتص جزئيًا ويتغير مسارها. ولأننا نستطيع اكتشاف هذه التغيرات في خواص وسلوك الأشعة، فإننا نستطيع أيضًا تكوين صورة للمادة التي سببت هذه التغيرات. وبهذا نتمكن من صنع صورة لهيكلك العظمي.

بنفس الكيفية يصبح بالإمكان صنع صورة للهيكل الحجري للهرم الأكبر.

كانت تلك الطريقة التي اكتشف بها علماء سكان بيراميدز وجود فراغ غير مكتشف قبل ذلك في قلب الهرم أعلى البهو الكبير. قام الباحثون بإعادة القياس 3 مرات بمساعدة أجهزة تصوير حرارية للتأكد من الاكتشاف قبل إعلانه. ذلك الاكتشاف الذي يأتي داعمًا للشذوذ الذي أظهرته القياسات السنة الماضية في قلب الهرم.

الهرف الأكبر، خوفو
باحثون يعملون على أجهزة رصد للميونات خارج الهرم

لا يستطيع أحد الجزم بوظيفة ذلك الفراغ -لهذا نقول فراغا وليس حجرة – الذي يبلغ طوله 30 مترًا وارتفاعه 15 مترًا، ولكن من المستبعد بشدة أن يكون وجوده جزافيًا.. لقد أثبت التاريخ والبحث أن كل تفاصيل بناء الهرم كانت مقصودة ولها دور في إقامة هذا البناء المهول الذي بقي لما يقرب من أربعة آلاف عام أعلى بناء بناه البشر على الكوكب.

علام يحتوي الفراغ إذن وما هي وظيفته؟ هل تم صنعه لتخفيف ثقل مبنى يبلغ ثقله 5 ملايين طن؟ أم هل كان هدفه تخزين المزيد من المواد التي ستعين الملك في رحلته في العالم الآخر؟ سيتطلب الأمر زمنًا حتى تتضح الرؤية وتظهر خطط جدية بالمزيد من الاستكشاف.

المراجع
  1. A Companion to Ancient Egypt, Vol1 – A. B. LLoyd. P. 835
  2. Deep Down Things: The breathtaking beauty of particle physics – Bruce Schumm, Chap 5
  3. Collider: The Search for the World’s Smallest Particles – Paul Halpern , Page 106