يذهب الكاتب والناقد اليساري المصري غالي شكري في كتابه «الثورة المضادة في مصر» إلى أن مجيء الرئيس السادات إلى الحكم بعد جمال عبد الناصر لم يكن صدفة تاريخية، كونه النائب الرسمي الشكلي للرئيس لحظة وفاته، بل كان انعكاسًا للتكوين السياسي المتناقض لدولة ضباط يوليو/تموز 1952.

يستند شكري في أطروحته التي يقدمها في كتابه إلى قضية عدم التجانس الأيديولوجي بين الضباط الأحرار وأعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث كان منهم من ينتمي إلى أقصى اليسار كخالد محيي الدين ويوسف صديق، ومنهم من ينتمي إلى اليمين المحافظ كأنور السادات وحسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي، ولذلك ظل النظام الناصري في تحليل شكري يحمل دومًا بذور الانقلاب عليه من داخله، وظلت سياساته رهينة باستمرار بحياة وشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبقائه في الحكم.

يقول شكري إن جذور التحولات التي جرت في عهد السادات والتي يطلق عليها وصف «الثورة المضادة» تعود إلى نظام يوليو نفسه، الذي تخلص في وقت مبكر من ممثلي اليسار داخله، كيوسف صديق وخالد محيي الدين، ومن ممثلي الإخوان المسلمين كرشاد مهنا وعبد المنعم عبد الرؤوف، ليتخذ نظام يوليو منحى وسطيًا، وإن كان أميل إلى اليسار بنهاية المطاف بسبب تطور التمثيل الطبقي داخل نظام عبد الناصر السياسي الذي أزاح مع مرور الوقت أكثر ممثلي اليمين قوة خلاله، كزكريا محيي الدين وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي الذين أحيلوا إلى التقاعد واحدًا بعد الآخر.

حيث جرى إقصاء أولئك تدريجيًا بسبب قرارات التأميم 61-1962، وبسبب الحرب في اليمن لدعم النظام الجمهوري هناك، وبسبب تبني عبد الناصر لسياسة التخطيط الاقتصادي المركزي، وبسبب تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، إلا أن هذا الإقصاء لم يلغِ الوسطية السياسية للنظام الناصري كليًا، حيث تسبب أسلوب الحكم الذي فرضه عبد الناصر في عدم إقدامه على اتخاذ قرارات حاسمة تحسم هوية وانتماء نظامه السياسي لصالح الاشتراكية التي تبناها كأيديولوجية رسمية معلنة لنظام الحكم في الدولة.

تتلخص تلك القرارات الحاسمة بحسب غالي شكري في ثلاثة أمور رئيسية لم يقم بها جمال عبد الناصر؛ وهي: عدم تخلصه من بقايا اليمين السياسي من القادة التاريخيين للثورة مثل السادات وحسين الشافعي؛ وعدم اتخاذه قرارات راديكالية بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 على مستوى السياسات بعيدًا عن التخلص من الأشخاص الذين تسببوا في الهزيمة كعبد الحكيم عامر وشمس بدران؛ وأخيرًا عدم تكوين عبد الناصر لحزب سياسي حقيقي بعيدًا عن الاتحاد الاشتراكي المندمج مع كيان الدولة.

وتعود النقطة الأخيرة بالذات لعدم الإيمان الحقيقي لدى عبد الناصر بالبناء الحزبي، وهو الذي يتضح بجلاء في مقولته الشهيرة: «حين أسمع كلمة تنظيم أضع يدي على مسدسي»، وهي عبارة لا تخلو من مغزى، حيث تعكس كما يقول شكري رعب الرجل من الديمقراطية وحرية العمل السياسي، وإيمانًا ميتافيزيقيًا لديه بالتوحد مع الشعب، حيث اعتقد عبد الناصر أن قراره هو الديمقراطية نفسها.


مصر ما بعد معاهدة السلام

شكلت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بحسب شكري، نقطة حاسمة في تطور الخط البياني لموقف البرجوازية المصرية من المسألة الوطنية، وهي بدورها المسألة التي تنطلق منها مختلف المواقف الاجتماعية في الداخل، والقومية على الصعيد العربي، والخارجية على الصعيد الدولي، إذ شكلت مجموعة المعاهدات التي أبرمتها مصر مع الغرب خلال التاريخ المعاصر، وأخيرًا مع إسرائيل، السياق التاريخي لوطنية البرجوازية المصرية، بكل ما يشتمل عليه هذا السياق من موجات المد الثوري ومراحل الجزر السياسي العنيف بلورت المعادلة السياسية الداخلية لتطور تاريخ مصر الحديث، بانعكاساته السلبية والإيجابية معًا على الوطن العربي والسياسة الدولية.

لم تكن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية من منظور غالي شكري مجرد حدث سياسي كبير وقتها، ولكن نقطة التحول الإستراتيجية في تاريخ المجتمع والدولة المصرية على المستوى الاقتصادي والسياسي، في سياق معقد بالغ التمويه منذ أبرمت حتى الآن، حيث تزامنت معاهدة السلام تمامًا مع سياسات الانفتاح الاقتصادي التي تبناها نظام السادات، وهي السياسات التي غيرت ملامح دولة يوليو السياسية وبدلت انحيازاتها الطبقية والاجتماعية، وصنعت واقعًا جديدًا في مصر، وخلقت رأسمالية في غير أوانها كما يعتقد شكري.

اتسمت الرأسمالية الجديدة باعتمادها على المشاريع الاستهلاكية الموجهة لطبقات محددة ضمن إطار من السياسات الاقتصادية التي من شأنها زيادة التضخم وتفاقم الغلاء في السلع الرئيسية لمجموع الشعب، ومن شأنها أيضًا فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي للسيطرة تدريجيًا على الأصول الاقتصادية الإنتاجية والعقارية في مصر، وتكوين احتكارات وامتيازات في السلع والخدمات تشبه ما جرى في عهد الخديوي إسماعيل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ويمكننا اليوم أن نلمس تجليات تحليل غالي شكري إذا ما نظرنا مثلاً إلى جنسيات الشركات الأبرز والأسبق في احتكار تقديم خدمة الهاتف المحمول في مصر في العقدين الماضيين، التي آلت ملكيتهما بنهاية المطاف إلى شركتين عالميتين، إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية، البلدان نفساهما اللذان سبق لهما احتلال مصر على مدار القرون الثلاثة الماضية منذ الحملة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر، مرورًا بتدخلهما ورقابتهما المالية على البلاد من خلال تمتعهما بمقعدين وزاريين في حكومة الخديوي لإدارة الشئون المالية ضمانًا لأموال الدائنين الأوروبيين، وصولاً إلى الاحتلال البريطاني من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.


يناير المستمر

قبيل انتفاضة الخبز الشهيرة في يناير/كانون في عام 1977، تلاحقت الأحداث طيلة عام 1976 كردود فعل على التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية على أشدها في تلك الفترة. وكانت المؤشرات على الانفجار المحتمل في وجه نظام السادات في أي وقت لا تحتاج إلى دليل.

في البداية، وقعت انتفاضة شعبية في مركز المنزلة بمحافظة الدقهلية في 29 يناير/كانون الثاني 1976، وتلتها موجة من «الحوادث المؤسفة» كما دعتها أجهزة الإعلام الرسمي المصري آنذاك، مثل اقتحام أقسام الشرطة في شبرا الخيمة والسيدة زينب والدرب الأحمر، بالإضافة إلى المنزلة نفسها.

كما شهد العام نفسه أيضًا إضراب عمال شركة النصر للسيارات، ومصنع النقل الخفيف بحلوان، ومصنع مصر-حلوان للنسيج وشركة الشرقية للدخان والترسانة البحرية بالإسكندرية وبورسعيد ومصنع نسيج السيوف بالإسكندرية، وكانت أكثر الاضطرابات إثارة هي إضراب عمال النقل العام في القاهرة بين 18 و19 سبتمبر/أيلول 1976.

هذا فضلاً عن التظاهرات التي جرت أمام مجلس الشعب في 25 من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وكذلك تظاهرات حملة الدبلومات الفنية، ومعهد التربية الرياضية بالهرم، وكلية الاقتصاد وكلية الفنون الجميلة والمدينة الجامعية في الجيزة.

وكما كانت تلك المؤشرات طبيعية في وقتها، وكانت كأجراس تدق تنبيهًا لما يمكن أن يحدث، على نحو ما كان ينبغي لأن يطل «يناير 1977» كمفاجأة بأية حال كما يقول شكري، يمكننا في سياق آخر أن ننظر إلى الأعمال الاحتجاجية للحركة المصرية من أجل التغيير « كفاية» منذ نهاية عام 2003 وصولاً لأحداث المحلة الكبرى في السادس من أبريل/نيسان من عام 2008، كمؤشر على ما جرى في الـ 25 من يناير/كانون الثاني 2011.

يدفعنا الإخفاق في بناء نظام سياسي دستوري مستقر يحقق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية، رغم مرور كل تلك العقود، ورغم الفرصة السانحة التي كانت بين أيدي المصريين منذ ثمانية أعوام، لأن نتساءل بنهاية المطاف: هل نحن في يناير معلق ومستمر منذ عام 1977 حتى يومنا هذا؟