ينظر كثير من المسلمين المعاصرين إلى العالم من خلال قراءة تراثية سائدة لأحكام الفقه الإسلامي نظرة ثنائية تقسم مختلف البلدان إلى دارين: دار إسلام، ودار حرب، وذلك في ضوء فهم مستقر لشكل العلاقات الدولية في الإسلام، لا يستوعب سوى ثلاثة خيارات كانت أمام غير المسلمين في صدر الإسلام، وهي إما الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب.

وهنا نطرح التساؤل: هل يستند ذلك الفهم إلى الممارسات المبكرة للخلفاء الراشدين في نمط علاقتهم بالعالم، أم أن التجربة التاريخية للمسلمين الأوائل من الصحابة تخبرنا بغير ذلك؟


عهد الخليفة عمر بن الخطاب مع بني تغلب

يروي «أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري» في كتابه «فتوح البلدان»، في فصل بعنوان (أمر نصارى بني تغلب بن وائل)، قصة تحتوي على موقف يختلف كثيرًا عن التصورات التراثية السائدة التي أشرنا إليها، ألا وهي قصة الاتفاق الذي تم بين قبيلة تغلب والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

نقطة البداية كما يروي لنا البلاذري كانت هي رغبة عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من بني تغلب بعد فتح مناطق الفرات الشامي، وهو ما تسبب في عزم أبناء تلك القبيلة التي كان يعتنق أفرادها المسيحية، على الارتحال من أراضيهم إلى أرض الروم.

في مواجهة هذا الموقف أرسل عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد الذي فتح تلك المنطقة، وطلب منه اللجوء عوضًا عن أخذ الجزية كما هو معمول به إلى فرض ضعف الصدقة (الزكاة) المفروضة على عامة المسلمين على تغلب.

كان من البنود المهمة أيضًا في الاتفاق الذي عقده عمر مع قبيلة تغلب شرط عدم تعميد أطفالهم على المسيحية وترك الحرية لهم عند البلوغ في اعتناق الإسلام أو البقاء على دين آبائهم.


دار الحياد: الفهم المركب للعالم

تشكل دار العهد أو «دار الحياد» كما يسميها الأكاديمي السويسري مارسيل بوازار، مساحة رمادية بين ثنائيتي دار الإسلام ودار الكفر أو الحرب، وهي المساحة التي تستغرق معظم عالمنا المعاصر من الناحية العملية.

من خلال نظرة سطحية مبسطة، يمكنك كمسلم أن تنظر إلى العالم نظرة تقسمه أمامك إلى معسكرين وحسب، إلا أن النظرة المركبة للأمور، من خلال فهم المقيد والمطلق في أحكام الشريعة الإسلامية، تجعلنا نستوعب أن أحكام الجهاد والحث على قتال غير المؤمنين، تقيدها على سبيل المثال آيات مثل «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة:8) .

بجانب غيرها من الآيات الأخرى التي تحث على عدم الاعتداء، والتي تجيء أحيانًا في الوقت نفسه الذي تدعو فيه إلى القتال مثل آية: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة: 190).

فهنا نجد الآية تدعو إلى قتال من يقاتل المسلمين تحديدًا، ورغم تدرج التشريع في آيات وأحكام القتال على النحو الذي يصل إلى ذروته كما نجد في سورة التوبة، التي تفتح الباب أمام مواجهة واسعة مع غير المؤمنين بالإسلام، تبقى الأحكام السابقة غير منسوخة، وبوضع تلك الأحكام مع بعضها البعض سنخرج في الأخير بمواقف أخلاقية وإنسانية وعقلانية تتسق مع ممارسات السلف الأول من الصحابة والتابعين، بعيدًا تمامًا عن الممارسات العدمية واللاإنسانية التي اتسمت بها أفعال العديد من الحركات الجهادية المعاصرة.

أتذكر هنا بشكل شخصي قصة جاءت في أحد البرامج التلفزيونية عن شخص بلجيكي اسمه جريجوري مانويل اعتنق الإسلام بسبب الآية 191 من سورة البقرة التي جاء فيها «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»، وهو سبب غريب بالطبع، إلا أنه إذا عرف السبب بطل العجب، فقد كانت الآية حافزًا للرجل للقراءة والبحث لمدة عام ونصف في الإسلام، والآية يليها قول الله تعالى في الآية 193 من نفس السورة «فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».

حتى لا يبدو للبعض أن الموقف الخاص بقبيلة تغلب كان استثنائيًّا في التاريخ الإسلامي، فهناك أيضًا نماذج أخرى غير نموذج قبيلة تغلب، تتمثل في موقف المسلمين التاريخي المسالم من الحبشة، ومن أهل النوبة في مصر الذين عقدوا مع المسلمين اتفاقًا، وأهل جزيرة قبرص التي كانت تابعة تبعية مزدوجة للمسلمين والبيزنطيين، وكذلك السامريون العبرانيون في فلسطين الذين أخذوا عهدًا وميثاقًا من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة خلال حياته.

كل هذه الموادعة جرت في مقابل حروب الفتح في البلدان التي كانت تقع تحت سيادة إمبراطوريات توسعية محتلة، كالإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) والإمبراطورية الفارسية اللتين خاضتا صراعًا مبكرًا مع الإسلام والمسلمين انتهى بهزيمتهما، وهي البلدان التي دارت على أرضها رحى معظم الحروب والمعارك الكبرى تقريبًا في التاريخ الإسلامي المبكر.

بعيدًا عن التفصيلات المختلفة التي أوردها الفقهاء في كتبهم حول أحكام دار العهد، التي يغلب عليها الطابع الاستقرائي، من خلال جمع هؤلاء الفقهاء لتفاصيل العهود والمواثيق بين المسلمين وغيرهم على مر السنوات والقرون، ومحاولة الخروج منها باستنباط لأحكام شرعية عامة، تبدو أحكام هذه الديار في الواقع أحكامًا اتفاقية بنهاية المطاف، تخضع لطبيعة نصوص المواثيق والمعاهدات التي يبرمها المسلمون مع غيرهم.

والمسلمون كما يلزمهم القرآن والسنة ملتزمون أخلاقًا ودينًا إلى أقصى مدى يمكن أن يتخيله أحد كما نجد في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي منها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ» (النحل: 91)، وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من كان بينَه وبين قومٍ عهدٌ، فلا يشد عقدةً ولا يحلها، حتَّى ينقضيَ أمدُها أو ينبذَ إليهم على سواءٍ».