تعددت الروايات التاريخية في تفسير مصطلح ومفهوم «الاعتزال» المنسوب للفرقة الكلامية الشهيرة «المعتزلة» التي ظهرت في بدايات القرن الثاني الهجري، حيث كثر الخلاف حول منشأ هذا الاسم الذي تسمت به تلك الفرقة، وتفرقت الآراء إلى عدة أقوال.

من أشهر الأقوال في هذا الإطار ما يرويه الشهرستاني أن واصل بن عطاء تلميذ حسن البصري اعتزل مجلس الأخير حين اختلف معه في مسألة مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين، حيث قال الحسن البصري تعليقًا على انفصال ابن عطاء عن حلقته: « اعتزل عنا واصل»، وهنا بحسب هذا القول جاء اسم المعتزلة.

في المقابل، يعترض المستشرق السويدي هنريك صمويل نيبرج على هذا التفسير التاريخي لاسم، وقد أورد المؤرخ الشهير المسعودي أن أصل كلمة «اعتزال» هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، أي باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين، إذ جاء المصطلح من طبيعة المعتقد نفسه كالمرجئة الذين بالغوا في الرجاء أو أرجؤوا العمل، والرافضة الذين قالوا برفض خلافة أبي بكر وعمر.

من جهة أخرى، يذهب المستشرق المجري المعروف جولدتسيهر إلى أن المعتزلة سُمّوا بهذا الاسم لأن رواد المذهب الأوائل مثل: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب، كانوا يعتزلون العالم ويعيشون حياة يسودها الزهد والتقشف.

يميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن هذا الاسم جاء من إطلاق بعض اليهود الذي اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهودية التي ظهرت بعد السبي البابلي والمعروفة بـ«الفروشيم»، وهي كلمة عبرية يردافها بالعربية اسم «المعتزلة»، وكانت تنفي القدر كالمعتزلة وتؤمن بأن الله ليس هو خالق أفعال البشر.

رغم ذلك الاختلاف، يثور التساؤل حول كيف تفاعل المعتزلة مع هذا الاسم الذي أعطي لهم؟ ويبدو أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن المعتزلة قد وجدوا أن هذا الاسم ملتصق بهم، رغم ما يحمل من دلالة سلبية تشير إلى اعتزالهم إجماع الأمة، فعمدوا إلى الدفاع عنه والبرهان على فضله كما فعل ابن المرتضى الزيدي اليمني الذي قال، إن المعتزلة هم الذين اختاروا هذا الاسم لا غيرهم، لأنهم خالفوا الأقوال المحدثة المبتدعة واعتزلوها.

جدير بالذكر أن المعتزلة يفضلون أن يطلق عليهم اسم «أهل العدل والتوحيد»، ويعنون بالعدل والتوحيد كما جاء في كتاب صبح الأعشى: «[العدل هو] نفي القدر والقول بأن الإنسان هو خالق أفعاله تنزيهًا لله عن الشر، و[التوحيد هو] نفي الصفات الزائدة عن ذات الله، سبحانه وتعالى، بحسب ما يقول به المعتزلة المتكلمون».


كيف تكونت معتقدات المعتزلة؟

يعتقد الباحث الفلسطيني زهدي جار الله أن معتقدات فرقة المعتزلة تكونت تحت تأثير أربعة عوامل مختلفة هي:

1. حل مشاكل الخلاف بين المسلمين في حكم مرتكبي الكبائر من الذنوب، حيث تنوعت الآراء في ذلك الوقت بين الإرجاء الذي يرى أصحابه أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وصولًا إلى تكفير مرتكب الكبيرة عند الخوارج، وكان رأي المعتزلة في هذا الإطار أن حكم مرتكب الكبيرة أنه ليس بمؤمن ولا بكافر، ولكن يقع في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.

2. تأثير الديانات السابقة على الإسلام والمسائل اللاهوتية التي أثيرت في علم الكلام الإسلامي نتيجة لذلك، ومن أبرز تلك المسائل على سبيل المثال مسألة خلق القرآن، التي تجد لها جذورًا في اليهودية التي وجد فيها من كان يقول بخلق التوراة، هذا فضلاً عن المسيحية وقضاياها اللاهوتية التي كان لها أثر كبير علي المعتزلة.

3. الدفاع عن الإسلام عبر المناظرات التي كانت تجري بين المسلمين وأهل الكتاب من جهة، والمتأثرين بالعقائد الإيرانية الثنوية القديمة من جهة أخرى.

4. التأثر بالفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي، ومحاولات التوفيق بين الدين والفلسفة التي جرت بعد بدء حركة ترجمة الأعمال الفلسفية اليونانية القديمة إلى العربية.


الأصول الخمسة

يستند الاعتزال على خمسة أصول عامة، تلك الأصول العقائدية مرتبة حسب أهميتها هي:

1. التوحيد: ويقوم التوحيد عند المعتزلة على نفي صفات الله، تعالى، الزائدة على الذات، حيث كان واصل بن عطاء يقول: من أثبت لله تعالى معنى أو صفة قديمة فقد أثبت إلهين، وقد تأثر المعتزلة في هذا الإطار بالفيلسوف اليوناني السكندري أفلوطين رائد مذهب الأفلاطونية المحدثة، حيث كان ينفي أفلوطين الصفات عن الإله، لأنه كان يعتقد أننا بذلك نشبه الإله بالأفراد، وقد ترتب علي هذا التصور لقضية التوحيد عند المعتزلة تشكل العديد من القضايا الكلامية الجدلية الأخرى. ويعد السؤال حول القرآن الكريم أهو مخلوق أم غير مخلوق إحدى أهم تلك القضايا الكلامية المستمدة من مشكلة الصفات والمتفرعة منها.

2. العدل: تحتل قضية نفي القدر موقع القلب في هذا الركن من أركان الاعتقاد الاعتزالي، حيث يعتقد المعتزلة أن العباد خالقون لأفعالهم، وبذلك يستحقون العقاب والمثوبة عليها، نفيًا بحسبهم للظلم عن الله، سبحانه، ونفيًا لمبدأ الجبرية الذي ينفي حرية الفعل والإرادة الإنسانية.

3. الوعد والوعيد: يؤمن المعتزلة أن الله يوم القيامة لن يغفر الكبائر إلا بعد التوبة، فإذا خرج المؤمن من الدنيا على طاعة استحق المثوبة، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها خلد في النار وكان عذابه فيها أهون من عذاب الكافرين. كما أنكر المعتزلة الشفاعة يوم القيامة.

4. المنزلة بين المنزلتين: يعتقد المعتزلة أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر بل فاسق، فجعلوا الفسق منزلة ثالثة مستقلة عن منزلتي الإيمان والكفر، واعتبروه وسطًا بينهما.

5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يؤمن المعتزلة بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على سائر المؤمنين، كل على قدر استطاعته بدءًا من استخدام السيف ثم ما دونه.


العلاقة مع السلطة

أدرك المعتزلة أن مذهبهم لن يبقى ما لم يستند إلى سلطة حاكمة تكن بجانبهم، بعد ما رأوا ما تعرض له القدريون الأوائل كالجهمية من تنكيل ونقمة على يد الخلفاء الأمويين، ولذلك التفوا حول السلطة منذ وقت مبكر، حيث اقتربوا من الخليفة الأموي اليزيد بن عبدالملك، الذي يقول عنه المسعودي في كتابه مروج الذهب إنه كان يذهب إلى قول المعتزلة في الأصول الخمسة. كما التفوا أيضًا حول مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

وقد كانت علاقتهم حسنة كذلك بأبي جعفر المنصور، حيث كان الأخير صديقُا للمعتزلي المعروف عمرو بن عبيد، وقد تفاوت حالهم بين الارتفاع والهبوط خلال العهد العباسي حتى قتل المأمون أخاه الأمين، وانتهت إليه الخلافة، هنا ابتسم الزمان للمعتزلة وبدأ عصر ظهورهم وسيادتهم على باقي الفرق والمذاهب الكلامية.

كان المأمون واقعًا تحت سيطرة المعتزلة بسبب تتلمذه علي بعض كبرائهم كيحيى بن المبارك وثمامة بن أشرس، وقد بلغ تمكن فكر المعتزلة من المأمون حد حمله الناس قسرًا على الاعتقاد بمقولة خلق القرآن وامتحان الناس فيها، وهو الأمر الذي استمر في عهد أخيه المعتصم وعهد الخليفة الواثق من بعده، الذي بلغ به التعصب إلى رأي المعتزلة حداً بالغًا، حيث كان يمتحن أسرى المسلمين في أيدي الروم في مسألة خلق القرآن، فمن أجاب منهم برأي المعتزلة فودي، ومن لم يجب ترك في أيدي الروم، كما كان يمتحن المسلمين من أهل الثغور على أن يضرب عنق كل من لم يقر برأي المعتزلة في خلق القرآن.

بعد أن مات الواثق في عام 232هــ، وتولى المتوكل الخلافة من بعده زالت قوة المعتزلة وذهب بأسهم بالتدريج بإيقاع يتواكب مع مراحل تخلي الخليفة عنهم. عندئذ بدأت مرحلة ضعف المعتزلة وسقوطهم، حيث انقلب اعتمادهم الكامل على السلطة وبالاً عليهم في الأخير، واندثر مذهبهم بالنهاية بمجرد تخلي السلطة عنه.


جدلية العقل والنقل

تبنى المعتزلة العقل واعتمدوا عليه كأول الأدلة وأول المصادر في الشرع، على نحو أصبح معه النقل خاضعًا في معياريته للعقل، ما عرف اصطلاحًا بالتحسين والتقبيح العقلي، لهذا السبب دعا العديد من المحدثين والمعاصرين كدعاة التنوير والعصرنة وبعض الإسلاميين الإصلاحيين إلى إحياء فكر المعتزلة كإحدى سبل تجديد الفكر والخطاب الإسلامي، ومن أبرز هؤلاء السير أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة بالهند، وتلميذه المؤرخ الهندي سيد أمير علي.

في المقابل لا يخوض التيار العام من دعاة الفكر التنويري الحديث في العالم العربي والإسلامي جدل العلاقة بين العقل والنقل بالطريقة الكلامية التي نشأت في الماضي في دائرة صراع كان مركزها هو النص الديني، حيث صنع التيار العام من هؤلاء قطيعة معرفية مع النقل والتراث الديني، بل مارس بعضهم النقد الأعلى على نصوصه المرجعية ، على نحو يطعن الجدلية التاريخية بين العقل والنقل في مقتل، وبشكل يخلق مساحات وصراعًا وجدلًا جديدين، تفقد معه الدعوة إلى إحياء فكر المعتزلة في الوقت الحاضر أي قيمة إصلاحية وأي معنى يما يعرف بتجديد الخطاب الديني.