الجواب يبدو من العنوان. هذا المثل الشهير ينطبق تمامًا على الكتاب الذي نحن بصدده الآن. بخط بارز على الواجهة الأمامية للكتاب، عنوان رئيس من ثلاث كلمات هي «نقد نظرية النسخ»، وهو عنوان كفيل بجذب انتباه – وكذلك تحفز – أغلب من لهم اهتمام بالفكر الإسلامي وقضاياه، وحتى من عامة المتدينين الذين رسَّخ الفقه التقليدي في عقولهم وجود قضية شرعية ثابتة لا تحتمل كثيرَ جدل، هي قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم والسنة النبوية. إذًا فالعنوان الرئيس واضح ومباشر في عرض القضية مدار البحث.

لكن بخط أقل حجمًا من العنوان السابق، كُتب العنوان الفعلي للكتاب وهو «بحث في فقه مقاصد الشريعة». تلك هي الغاية التي يرمي إليها الكاتب بخوضه في هذا المبحث الشائك، فهو كما سنبين، يريد من خلال نقده لقضية النسخ الراسخة في التراث، إعلاء طريقة للتعامل مع النصوص الشرعية بالتركيز على أهدافها وغاياتها، بدلًا من الاكتفاء بالوقوف على ظاهرها.

يقع الكتاب في حوالي 140 صفحة من القطع المتوسط، والناشر هو «الشبكة العربية للأبحاث والنشر». وهو يتكون من مقدمة، و 5 فصول، منها فصلان كاملان والمقدمة – حوالي نصف الكتاب – يمهد بها الكاتب للمبحث الرئيس، وهو نقد نظرية النسخ. وفي آخر الكتاب فصل مهم مكون من 8 صفحات، فيه حوالي 30 خلاصة تطبيقية على أرض الواقع مستمدة من تنظيرات الكاتب في هذا المبحث.

الكاتب هو د. جاسرعودة، عضو المجلس الأوروبي للإفتاء، والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، وزميل مجمع الفقه الإسلامي بالهند. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة التشريع الإسلامي من جامعة ويلز البريطانية، وعمل محاضرًا في عدد من الجامعات حول العالم، ويعمل حاليًا رئيسًا لمعهد المقاصد، وهو مؤسسة علمية بحثية، تقيم أنشطة تعليمية وبحثية بالولايات المتحدة، وبريطانيا، وماليزيا، وإندونيسيا.


نقض الثنائيات

شهد الجدال حول النسخ استقطابًا بين غالبية عظمى خاصة من الفقهاء والأصوليين القدامى، تؤيد وجود النسخ مطلقًا، وتعتبره من ثوابت الدين، وأقلية – أكثرها من علماء العصر الحديث – تراجع النظر في تلك القضية، وتتفاوت في درجة تعاطيها مع الأمر بين الإنكار التام للقضية، أو تضييق مساحتها، أو إثباتها مع إعمال أوجه جديدة للنظر.

في المقدمة يبدأ الكاتب طرحه عن قضية النسخ، بنقد الفكرة الشائعة عن ثنائيات منطقية يختلف الناس بينها، دون اختيارات وسطى. إما الأبيض، وإما الأسود، مع إغفال درجات الرمادي التي تكاد لا تعد ولا تحصى. ويسميها الكاتب (مغالطة الثنائيات الحتمية الكاذبة). ضرب الكاتب أمثلة عديدة، منها ثنائية العلم والدين، وجدلية العقل أم النقل … إلخ. وهو يرى أن مواقف وسيطة عديدة أولى بالاتباع من التمسك بأحد الطرفين، فلا تناقض جذريًّا بين العلم والدين أو بين العقل والنقل، مهما اختلفت الأفهام في درجة الجمع بين طرفي كل ثنائية.

ثم انتقل الكاتب إلى نماذج من التراث الإسلامي لتلك الثنائيات، كمثال عمل أهل المدينة، والذي يعتقد المالكية بحجيته الفقهية التامة، بينما ينكر الشافعية ذلك، في حين كان منهج ابن تيمية وابن القيم – وهما من الحنابلة – أوجه من هذا وذاك، فاعتبرا عمل أهل المدينة بمثابة رواية جماعية عن النبي الكريم، قد تكون أوثق من أحاديث الآحاد.


مدخل المقاصد الشرعية

في الفصل الأول من الكتاب يبدأ الكاتب شرح بعض المصطلحات المهمة لعرض فكرته. كانت البداية بمقاصد الشريعة، والتعريف المختار هو المعاني التي قصد الشارع تحقيقها من وراء تشريعاته وأحكامه، ويستنبطها العلماء المجتهدون من النصوص. ثم بدأ الكاتب بسرد تفاصيل أكثر عن مقاصد الشريعة، كتصنيفها إلى عامة وخاصة وجزئية. وأورد بعض تعريفات علماء التراث كالجويني والقرافي والعز ابن عبد السلام وغيرهم للمقاصد، ومساحتها الاعتبارية في الشرع الإسلامي.

أورد الكاتب نماذج من زمن الرسول تعزز حجية البحث في مقاصد النص بالرأي الغالب، منها واقعة بني قريظة الشهيرة، عندما قال النبي – عليه الصلاة والسلام – لصحابته إنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلينَّ العصر إلا في بني قريظة. حينها لم يصلِّ البعض إلا بعد الوصول، بينما اعتبر الآخر أن مقصد الرسول كان الكناية عن الإسراع، فصلوا في الطريق وأسرعوا، ولم يعنِّف النبي أيًّا من الفريقَيْن.

ولابن القيم رأي في تلك المسألة امتدحه الكاتب لوجاهته، وهو أن من نظروا في المقصد، فصلَّوا في الموعد، وأسرعوا، حازوا الفضيلتَيْن، الصلاة في وقتها، وتنفيذ أمر الرسول بالإسراع. طبقًا لكلام ابن القيم، فالنظر في المقاصد أولى من التمسك بظواهر النص، وإن كان الجانبَان على خير.

في الفصل الثاني من الكتاب يقترب الكاتب أكثر من الفكرة المباشرة للبحث، هي قضية النسخ، حيث يبرز الفارق بين التعارض الحقيقي بين نصَّيْن، والذي يسمى بالتعارض المنطقي، والتعارض المتوهم في ذهن بعض الفقهاء، وهو التعارض الظاهري. ومن مقتضيات إيمان المسلم أن يعتقد بشكل جازم استحالة وجود تعارض منطقي بين النصوص الصحيحة، مصداقًا لقوله تعالى:

(سورة النساء: 82)


النسخ: تعريف ونقد

بدأ الكاتب بذكر التعريف اللغوي للنسخ، وهو الرفع والإزالة، وهذه هي الفكرة السائدة عند أكثرية الخاصة والعامة في قضية النسخ، وهي وجود بعض النصوص التي تم إلغاء حكمها – وهو الأكثر – أو منطوقها – وهو الأقل – بشكل مؤبد، لورود نصوص لاحقة ناسخة لها. بادئ ذي بدء، يعلن الكاتب إنكاره لوجود نصوص نُسِخَ لفظها وتُرِكَ حكمها، ويرى غلق هذا الباب تمامًا وإلا فتح المجال للطعن في القرآن، وإنكار أنه مشمول بالحفظ الإلهي. سيركز الكاتب في بحثه على النمط الأشهر من النسخ، وهو نسخ الأحكام.

أولًا يلفت د. جاسر الأنظار إلى ملاحظة عن مفهوم النسخ عند الصحابة، إذ يراه كان مقتصرًا لديهم على معنى الاستثناء والتخصيص. وساق أمثلة على هذا الرأي منها: قول ابن عباس في نسخ آية: «والشعراء يتبعهم الغاوون» بآية «إلا الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرًا»، فهنا النسخ هو استثناء من القاعدة الأصلية، لا إلغاء لها.

في الفصل الرابع يشرع الكاتب في ضرب الأسس الكبرى التي انبنى عليها النسخ، وأولها النصوص القرآنية التي ساقها الفقهاء دليلًا شرعيًّا على حجيَّته. هناك آيتان لا ثالثة لهما ورد فيها كلمة النسخ في القرآن، آية البقرة 106: «ما ننسخْ من آيةٍ أو ننسها نأتٍ بخيرٍ منها أو مثلها»، وآية النحل 101: «وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ». يرى الكاتب أن منطوق الآيتَيْن ليس قطعيًّا في الدلالة على نسخ نصوص القرآن والسنة كما في المفهوم السائد، وأن الأرجح المتوافق مع سياق السور التي وردت فيها الآيات، وتوقيت نزولها، أن الآيات المنسوخة هي آيات وشرائع وأحكام الأمم السابقة على الإسلام، كبني إسرائيل، التي نسختها وأنْسَت ذكرها شريعة خاتم الأنبياء.

أما الأساس الثاني لقضية النسخ، فهو التعارض بين مقاصد بعض النصوص، والذي يتم حله بجعل المتأخر فيها ناسخًا للمتقدم. أورد الكاتب أمثلة عديدة لمثل هذا التعارض، وأخذ يفند حجة النسخ فيها، ويظهر إمكانية للجمع بين مختلف تلك النصوص المتعارضة ظاهرًا، وإعمالها معًا، ويضيق المقام هنا عن إعادة سرد تلك الأمثلة، وتفاصيلها في الكتاب.

أما الأساس الثالث، فهو قضية الأحدث فالأحدث. هل لا بد حتمًا نسخ القديم بالحديث؟ ذكر الكاتب 3 أنماط من تعامل الصحابة والتابعين مع تلك القضية. الأول قومٌ تمسكوا بما وصلهم متقدمًا أو متأخرًا، والثاني أخذوا بالمتأخر، واعتبروه ناسخًا للمتقدم، أما الثالث، والذي صرَّح الكاتب بميله إليه، فأقر بحجية المتأخر، لكنه حافظ على إعمال المتقدم أيضًا حسب السياق، دون إلغائه. وأورد الكاتب عدة أمثلة من فقه الصحابة، إثباتًا لوجهة نظر الفريق الثالث الذي لا يلغي النص المتقدم.

أما الأساس الرابع الذي انتقده الكاتب، فهو ادعاء النسخ دون برهان نصي يؤكد وقوع النسخ. وضرب مثالًا مهمًا لذلك هو ما يسمي بآية السيف. درج الكثير من الفقهاء قديمًا وحديثًا على اعتبار وجود آية تسمى بآية السيف، وإن اختلفوا في تعيينها، وأنها جعلت ما بيننا وبين غير المسلمين إما السيف وإما الجزية، وأنها نسخت عشرات الآيات المحكمات التي تحدثت عن السلم والمهادنة والدعوة بالتي هي أحسن … إلخ، وألغت أحكامها تمامًا. وهذا ينتقده الكاتب بشدة، ويراه من أسباب تطرف بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، ويرى أنه يمكن الجمع بين آيات الموادعة وآيات الحرب، كلٌّ حسب سياقه.


تحجيم النسخ قديمًا وحديثًا

أفلا يتدبرونَ القرآن ولو كان من عندِ غيرِ اللهِ لوجدوا فيهِ اختلافًا كثيرًا.
لا بد من المدخل المقاصدي للدعوة إلى الإسلام، ولا سيما في بلاد الأقليات الإسلامية، وذلك عن طريق عرض الإسلام من خلال أهدافه ومقاصده، لا من خلال أحكامه المجرَّدة، وهو الأقرب إلى المنهج العقلي الذي شاع في عصرنا.
د. جاسر عودة (ص127)

يذكر د. عودة أن تحجيم قضية النسخ ليس همًّا معاصرًا، إنما كان للقدامى حظهم من ذلك تنزيهًا للنصوص الشرعية من الإغراق في تعطيلها. فالسيوطي حصر وقائع النسخ في القرآن في حوالي 20 واقعة. لكن كان للمعاصرين النصيب الأكبر في هذا الأمر، فالشيخ محمد أبو زهرة، رأى مواضع النسخ أقل من تلك العشرين.

نوَّه الكاتب ببحث معاصر للدكتور مصطفى زيد، حلَّل فيه كل مواضع النسخ التي وردت في التراث، فأقر منها 6 وقائع فحسب، بينما أبطل ادعاء النسخ في أكثر من 210 مواضع أخرى، إما لأنها قصص لا يجوز نسخها، فهي إما حدثت، أو لم تحدث. أو وعيد من الله لا يُنسَخ كذلك، إذ لا يجوز في حق الله، وهناك مواضع عديدة أظهر فيها تعارضًا ظاهريًّا لا يستدعي ادعاء النسخ.

رغم إقرار الكاتب بقوة بحث د. مصطفى زيد، فإنه تناول المواضع الستة التي أقر فيها النسخ، وفنَّد حجته فيها، إما لأنها كانت تدرجًا في تطبيق حكم شرعي، كآيات تحريم الخمر الشهيرة، أو بإظهار إمكانية الجمع رغم التعارض الظاهر، دون النسخ التام لأحد النصوص.

أفرد الكاتب الفصل الخامس والأخير من الكتاب لأمثلة تطبيقية معاصرة على دعواه في نقد النسخ، منها مثلًا قضية زيارة القبور التي نهى النبي – عليه الصلاة والسلام – عنها ابتداءً، ثم أجازها بشرط الالتزام بالآداب الإسلامية. الرأي الفقهي السائد أن روايات الجواز نسخت روايات النهي المتقدمة، لكن يرى الكاتب ضرورة الجمع بين الاثنين، لمن دخل في الإسلام حديثًا، وفي بيئته مخالفاتٍ كثيرة تتعلق بزيارة القبور، فيُنهى عن زيارتها، حتى يشتد الإسلام في عقله وقلبه، ويصبح قادرًا على زيارتها كما يرضى الله ورسوله.

اختتم الكاتب بحثه بثماني صفحاتٍ فيها خلاصات مباشرة بناها على منهجه في قضية النسخ، ومن قبلها قضية المقاصد الشرعية، والنظر الكلي للإسلام. غطت تلك الخلاصات قطاعًا عريضًا من الهموم الإسلامية مثل فقه الزكاة، والمواريث، وحقوق المرأة، والجهاد، والعلاقات مع غير المسلمين، والحدود … إلخ. وهي تمثل الغاية الأبعد لهذا البحث القيم.