مع اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022م، وتصاعد الصدام السياسي والإعلامي بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين من جهة، وروسيا وحلفائها في الجهة المقابلة، عادت إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن الماضي، بين الاتحاد السوفييتي السابق، والولايات المتحدة الأمريكية. تصاعد التوتر العالمي إلى ذروته يوم 27 فبراير، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع وحدات الأسلحة النووية في جيشه في وضع الاستعداد الأقصى، وبدأ المتشائمون في توقع قرب اندلاع حربٍ عالمية نووية، لا سيَّما مع تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في الثاني من مارس 2022م، أن أي صدامٍ عالمي واسع، سيكون نوويًا ومدمرًا.

حتى الآن، لا تبدو في الأفق نُذُر مواجهة نووية وشيكة، فقادة الولايات المتحدة والغرب صرَّحوا مرارًا وتكرارًا أنهم لن يواجهوا الروس بشكلٍ عسكري مباشر دفاعًا عن أوكرانيا، وأن دورهم العسكري يقتصر على إرسال الأسلحة الدفاعية كمضادات الطائرات والدبابات المحمولة على الكتف، والتي قد تستنزف الجيش الروسي بشكلٍ كبير، لكنها بالتأكيد لن تدفعه لصدامٍ نووي مع الغرب، وإن ظلَّ هذا الاحتمال قائمًا كلما طالت المعركة في أوكرانيا، وتعقَّدت فرص حسمها بشكلٍ تقليدي، فالرئيس الروسي بوتين ألقى بثقله كاملًا خلف تلك المعركة، ولن يقبَل بالهزيمة فيها مهما كان الثمن.

تستدعي الأجواء الحالية من التوتر النووي إلى ذاكرتنا أزمةً وقعت قبل ستين عامًا بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، ووضعت العالم بشكلٍ غير مسبوق على شفا حفرةٍ من نار حربٍ نووية. إنها أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة عام 1962م، والتي نجحت الدبلوماسية الجريئة بأعجوبة في نزع فتيل انفجارها، رغم أجواء الحرب الباردة المحمومة في ذلك الوقت. فهل هناك دروسٌ من تلك الأزمة يمكن للدبلوماسية الدولية الآن الاستفادة منها في تجنيب البشرية ما تمكنت من اجتنابه سابقًا؟

السباق النووي يصل إلى المحطة الكوبية

عام 1945م، اختتمت الولايات المتحدة الأمريكية الحربَ العالمية الثانية باستعراضها الدموي الأخطر في التاريخ، قنبلتيْ هيروشيما وناجازاكي النوويَّتيْن الشهيرتيْن، اللتيْن كفلتا استسلام اليابان، وترسيخ الولايات المتحدة كأعظم قوةٍ على وجه الأرض. لكن لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية هي المنتصر الوحيد في تلك الحرب، فالاتحاد السوفييتي الذي قدَّم أكثر من 20 مليون قتيلٍ من أبنائه من أجل النصر، فرض نفسه القطب الثاني للعالم، بعد أن صدم العالم عام 1949م بنجاحه في إنتاج أولى قنابله النووية، مدشِّنًا عقودًا من سباق التسلح النووي بين قطبيْ العالم، وتصاعد موجات الرعب النووي في العالم أجمع، فقد حبس الكثيرون أنفاسهم مخافة أن يدفع أي احتكاك سياسي أو عسكري، مقصودٍ أو غير مقصود، بين القوتيْن العظمييْن إلى تدمير العالم بأسره.

منذ أواخر خمسينيات ومطلع ستينيات القرن العشرين، تصاعدتْ الحرب الباردة بين القطبيْن، وتصاعدَ معها التوتر، لاسيَّما مع دعم كل منهما للأطراف المناوئة للآخر، فقد أرسلت الولايات المتحدة عام 1958م مشاةَ البحرية إلى لبنان لكبح تمدد القوى الثورية واليسارية هناك، بينما دعم السوفييت انقلابًا في العراق في نفس العام. وأيضًا خلال صيف 1958م، تصاعد التوتر في مضيق تايوان بين الولايات المتحدة والصين الشيوعية، وكان الأمريكيون قابَ قوسيْن أو أدنى من توجيه ضرباتٍ نووية إلى الصين لمنعها من احتلال تايوان. ثم كاد السوفييت والأمريكيون يصطدمون في العام التالي 1959م عندما جهر السوفييت بنيتهم السيطرة على الجزء الغربي من العاصمة الألمانية برلين المقسّمة منذ الحرب العالمية الثانية. ثم جاء دور كوبا.

في أول أيام عام 1959م، نجح الثائر الكوبي الشهير فيديل كاسترو في السيطرة على العاصمة الكوبية هافانا، وإسقاط نظام الجنرال باتيستا الموالي للأمريكيين، في ضربةٍ هائلة للنفوذ الأمريكي في جزيرة كوبا التي تقع على بعد 150 كم فحسب من سواحل فلوريدا الأمريكية. أمَّم نظام كاسترو الشركات الأمريكية في كوبا، وتحالف مع الاتحاد السوفييني عام 1960م، الذي تعهَّد بحماية نظام كاسترو، ففرضت الولايات المتحدة حصارًا تجاريًا على كوبا، وقطعت علاقاتها الدبلوماسبة معها مطلع 1961م، ودبرت المخابرات الأمريكية عدة محاولات فاشلة لاغتيال كاسترو.

فيديل كاسترو

وصل التوتر في كوبا إلى ذروةٍ خطيرة في أبريل عام 1961م، عندما حدث ما يعرف بعملية خليج الخنازير، حيث سهَّل الأمريكيون إنزالًا بحريًا لـ 1400 مقاتل كوبي من أعداء كاسترو، في كوبا، ليقوموا بانقلاب خاطف على نظام كاسترو، لكن فشلت العملية فشلًا ذريعًا، ومثًّلت فضيحة سياسية وعسكرية للأمريكيين، وثبَّتت حكم كاسترو في كوبا.

إزاء ذلك التهديد الأمريكي الفج للنظام الكوبي، قرر الزعيم السوفييتي ني كيتا خروتشوف الانتقال في الدفاع عن كوبا إلى مستوىً بالغ الخطورة، عندما أمر سرًّا بإرسال صواريخ نووية إلى كوبا، ليضرب عصفوريْن بحجر واحد، حماية كوبا، واكتساب ورقة إستراتيجية خطيرة في السباق النووي ضد الأمريكيين، حيث تكون صواريخه في كوبا موجهة لكل المدن الأمريكية الرئيسة عن قُرب، لا سيَّما وأن الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانت تمتلك رؤوسًا نووية أكثر بحوالي 17 ضعفًا

في الرابع عشر من أكتوبر من عام 1962م، رصدت طائرة استطلاع أمريكية مواقع الصواريخ السوفييتية في كوبا، ويوم 16 أكتوبر، وضعت الـ CIA تقريرًا خطيرًا على مكتب الرئيس الأمريكي جون كينيدي، مُعزَّزًا بالصور، يؤكد أن كوبا بالفعل قد وصلها ما بين 16 و 32 صاروخًا قادرًا على حمل الرؤوس النووية، يتراوح مداها بين ألف و 2200 ميل، مما يجعلها قادرة على توجيه ضربة مدمرة للولايات المتحدة الأمريكية. 

جمع كينيدي مستشاريه السياسيين والعسكريين لبحث رد الفعل المناسب، وكان الرأي الغالب عليهم هو توجيه ضربةٍ جوية إلى مواقع الصواريخ في كوبا، أو اجتياح كوبا. لكن فضَل كينيدي مسارًا أقل تصعيدًا، ليفسح المجال للدبلوماسية، ففرض إغلاقًا بحريًا على كوبا، لكنه آثر تسميته بالعزل البحري quarantine بدلًا من الحصار البحري blockade لأن الأخير في الأعراف الدولية هو إعلان حرب. ووضعت القوات الجوية الأمريكية في أعلى حالات التأهب للحرب والمعروفة باسم Defcon 2، وحشد الأمريكيون قوة للغزو البحري لكوبا قوامها 140 ألف جندي تمركزت في فلوريدا.

يوم 22 أكتوبر، وجه كينيدي خطابًا مؤثرًا للشعب الأمريكي أطلعه فيها تفاصيل الأزمة، وأعلن العزل البحري على كوبا لمنع وصول المزيد من الصواريخ إليها. وفي نفس اليوم، أرسل خطابًا شديد اللهجة إلى خروتشوف عبر السفير السوفييتي في واشنطن يحمله مسؤولية حربٍ مدمرة قد تندلع لن ينتصر فيها أحد، ويطالبه بسحب الصواريخ من كوبا، ليرد عليه خروتشوف في اليوم التالي برسالة حادة يرفض فيها ذلك. ثم في اليوميْن التالييْن تبادل الرئيسان الرسائل التصعيدية، لكن أمر خروتشوف يوم 24 أكتوبر سفنه الناقلة للأسلحة والصواريخ إلى كوبا باحترام خط العزل البحري المفروض أمريكيًا، وأن تعود أدراجها، فتنفَّس العالم الصعداء قليلًا.

لكن في يوم 25 أكتوبر، كادت الحرب أن تقع عندما أصرت ناقلة نفط سوفييتية على النفاذ إلى كوبا، فاعترضتها مدمرتان أمريكيتان وكادتا تقصفانها، لولا تراجع كينيدي وأمره بالسماح للناقلة بالعبور. 

في اليوم التالي، وصل التوتر إلى منعطفٍ خطير، عندما أرسل كاسترو خطابًا إلى خروتشوف يحثه على أن يأخذ زمام المبادرة، ويوجه الضربة النووية الأولى. لم يكتفِ خروتشوف بالرفض، إنما أرسل في نفس اليوم رسالةً إلى كينيدي يُبدي فيها استعداده لحلحلة الأزمة لتجنيب العالم الدمار، وأنه قد يقبل بتسوية تقضي بسحب الصواريخ من كوبا، مقابل رفع الحصار البحري الأمريكي عنها، وتعهد أمريكي صريح بعدم غزو كوبا. لكن في اليوم التالي صعَّد خروتشوف إعلاميًا، وأعلن أنه لن يسحب الصواريخ السوفييتية من كوبا، إلا إذا سحبت الولايات المتحدة صواريخ الناتو النووية المتمركزة في تركيا، فأحنق كينيدي كثيرًا، لكن كان الرئيس الأمريكي مُصرًّا على ألا يضيع الفرصة للحل.

لكن في السابع والعشرين من أكتوبر، امتُحِن ضبط النفس الأمريكي الهشّ امتحانًا صعبًا، حيث أسقطت الدفاعات الجوية في كوبا طائرة تجسس أمريكية، وقُتِل الطيار، والذي كان أول دمٍ يسيل في أزمة أكتوبر النووية. كانت المفاجأة أن كينيدي امتصَّ الصدمة، وأخبر مستشاريه المتحفزين للحرب، بأنه لا يعتقد أن هذا الاستهداف كان مخططًا بأمرٍ مركزي من موسكو والرئيس خروتشوف، وبالتالي فلا يمثل سببًا كافيًا لإعلان حربٍ مفتوحة. 

انفراج الأزمة 

فاسيلي أرخيبوف، هو ضابط سوفييتي أنقذ العالم من حيث يدري ولا يدري. في السابع والعشرين من أكتوبر، وبينما تتقدم مفاوضات حل الأزمة بين القطبيْن، كان أرخيبوف داخل غواصة سوفييتية من طراز B59 كامنة على مقربةٍ من كوبا في أعماق البحر الكاريبي. كان الاتصال مع موسكو قد انقطع لأسبابٍ فنية، وكان قادة الغواصة يعرفون أخبار العالم الخارجي وأنباء التوتر العالمي عبر التقاط موجات الإذاعات الأمريكية، وكانت الغواصة تعاني أيضًا من مشكلاتٍ في منظومة التبريد، مما رفع درجة الحرارة داخلها إلى معدلات لا تُحتمل بالنسبة للطاقم.

فجأة، بدأت الانفجارات تدوي حول الغواصة التي أخذت ترتج، ويتصاعد قلق طاقمها، فقد اكتشفهم الأمريكيون. بالأعلى، كان هناك 12 مدمرة أمريكية وحاملة طائرات تحاصر الغواصة، وتطلق قنابل الأعماق لإجبارها على الصعود إلى السطح. ظن ضباط الغواصة أن الحرب قد اندلعت بالفعل، وكانت الغواصة مزودة بطوربيديْن نوويَّيْن، فقرَّر قائد الغواصة أن يستهدف الأسطول الأمريكي بأحد الطوربيديْن فيما يشبه عملية انتحارية نووية تدمر الجميع. لكن كانت الأوامر تقضي في حالة انقطاع الاتصال بالقيادة، بألا يُطلق الطوربيد إلا بإجماع ضباط الغواصة الثلاث الكبار على الموافقة، وهنا كان أرخيبوف هو الرافض الوحيد، وطلب من قائده المناورة الصعود إلى سطح البحر، لتبيّن الأمر، وهو ما حدث، والتقطت الغواصة إشارة من القيادة تطلب العودة. ونجا العالم بأعجوبة من حربٍ نووية مدمرة.

والآن نترك بحر الكاريبي، ونتوجه إلى السفارة السوفييتية في واشنطن في اليوم التالي 28 أكتوبر، حيث كان هناك ضيفٌ استثنائي، هو النائب العام الأمريكي روبرت كينيدي، أخو الرئيس، والذي جاء برسالة خاصة من أخيه إلى السوفييت، تقضي بالموافقة على الصفقة. ستتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، ورفع الحصار البحري عنها، مقابل سحب الصواريخ السوفييتية منها. على أن يسحب الأمريكيون صواريخهم من تركيا لاحقًا، وأن يكون هذا الجزء من الاتفاق سريًا حتى لا يضعف الموقف الأمريكي أمام العالم، وبالفعل خلال شهرٍ سُحبت صواريخ كوبا، ورفع الحصار عنها، وسُحبت الصواريخ من تركيا بعد 5 أشهر تحت غطاء أنها أصبحت قديمة، وسحبت في إطار خطة تحديث يقوم بها الناتو.

وفي العام التالي 1963م، تبادل القطبان رسائل التهدئة السياسية، وأنشئ خط اتصال تليفوني ساخن مباشر لأول مرة بين رئيسيْهما، بعد أن تبيَّن مدى خطورة إضاعة ساعات مصيرية طويلة في تبادل الرسائل الخطية أثناء الأزمات. كما اتفقَ الطرفان في نفس العام على حظر التجارب النووية فوق الأرض، وحظر استخدام الفضاء في إطلاق الصواريخ النووية. لكن رأى السوفييت في الأزمة درسًا قاسيًَا لهم بضرورة ردم الفجوة الصاروخية بينهم وبين الأمريكيين، فركزوا جهودهم في السنوات التالية على تطوير برنامجهم الصاروخي، ونجحوا في إنتاج مئات الصواريخ العابرة للقارات والقادرة على الانطلاق من الأراضي السوفييتية واستهداف الولايات المتحدة مباشرة، دون الحاجة لأزمات صواريخ جديدة في مناطق أخرى من العالم.

انحلَّت أزمة الصواريخ الكوبية، لكن لا يزال الخطر النووي قائمًا، فلديْنا الآن 9 دول تمتلك الأسلحة النووية، ويمكن لأي خطأ غير مقصود أن يسبب كارثة كبرى لن تقتصر آثارها على الدولة النووية نفسها. على سبيل المثال، في شهر يناير من عام 1966م، أي بعد أقل من أربعة أعوام فحسب من أزمة الصواريخ الكوبية، كانت إسبانيا على موعدٍ مع فاجعةٍ نووية وشيكة، في المجال الجوي الإسباني، حدث خطأٌ فني أثناء تزود قاذفة أمريكية عملاقة من طراز B-52 بالوقود في الجو، إذ اصطدمت القاذفة بطائرة الوقود، وانفجرتا في الجو، ولقي 7 أشخاص من طاقميهما مصرعهم. لكن ما علاقة تلك القاذفة المُدمَّرة بالخطر النووي؟ ببساطة، أنها كانت تحمل 4 قنابل نووية!

تطايرت القنابل الأربعة في اتجاهاتٍ مختلفة، فسقطتْ اثنتان قرب قريةٍ إسبانية وسبَّبتا تلوثًا إشعاعيًا على مساحة تبلغ ميلًا مربَّعًا، وعُثر على الثالثة سليمةً قرب أحد الأنهار، أما الرابعة فسقطت في أعماق البحر المتوسط دون أن تنفجر أيضًا لحسن الحظ.