منذ عصور ما قبل التاريخ وهي تفتن البشر، وأبرزت مخلوقات أسطورية، بل أثرت على مسار الدين والفن والتاريخ، منهم من اعتقد أنها أرواح موتى تساعد الصيادين على معرفة أماكن فرائسهم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقات غامضة ليست من البشر، بل رآها بعضهم كتنين ناري يغري من بعدت عن زوجها، واستخدموها أيضًا للاستدلال على الحالة الجوية، وغيرها من المعتقدات والعادات تسببت فيها مشاهدة هذه الظاهرة الرائعة المسماة بالشفق القطبي (Aurora)، والتي أتمنى أن تجد أسطورتك الخاصة وتنسجها في خيالك بعد أن تراها بعينك يومًا ما.

ولأن معرفة تاريخ الشيء وتسلسل تطور تفسيره عبر الزمن هو أساس فهمنا له؛ دعني أخبرك أن من أوائل الاستشهادات التي وجدت لهذه الأضواء كان في الصين منذ عام 2600 قبل الميلاد، حيث وثَّقوا ضوءًا قويًّا أضاء المنطقة بأكملها يتراقص حول نجم (Su) الذي ينتمي إلى كوكبة (Bei-Dou)، وبعد آلاف السنين، وبالتحديد في عام 1570 وُثِّق الشفق القطبي كشموع فوق السحاب.

شفق قطبي، سماء، فيزياء، فلك، تاريخ علوم
الشفق القطبي مرسوما كشموع فوق السحاب

وفي عام 1619، كان أول من صاغ مصطلح الشفق القطبي (أورورا) أو إلهة الصباح عند الرومان هو العالم الفلكي غاليليو غاليلي. لكنه قام بتفسير سبب ظهوره بطريقة غير صحيحة، مفادها أن الشفق الذي رآه كان بسبب ضوء الشمس الذي ينعكس من الغلاف الجوي.

بالوصول لعام 1903 قال الفيزيائي النرويجي كريستيان بيركلاندإن السبب هو تدفق تيارات كهربائية خلال الغازات المكونة للطبقات العليا من الجو، وهو السبب الذي تعتمد عليه مصابيح النيون في وقتنا الحاضر.

ولفهم السبب الحقيقي وراء ذلك المنظر المبهج دعني أصطحبك أولًا لرحلة إلى الشمس، قلب مجموعتنا النابض والمفعم بالحياة، رحلة يتطلب الوصول لنهايتها السير لمسافة 150 مليون كيلومتر، وهو ما يساوي وحدة فلكية واحدة. قد يبدو لك الطريق بعيدًا جدًّا، لكن إن استطعنا السير بسرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية) أي ما يعادل 18 مليون كيلومتر في الدقيقة فإنه حسابيًّا لن يستغرق ذلك منا أكثر من 8 دقائق و20 ثانية فقط، إن كان الطريق غير مزدحم بالطبع.

سنذهب في رحلة لنجم متوسط الحجم يصنف على أنه قزم أصفر في منتصف العمر (4.5 مليار سنة)، رحلة لمن يمدنا بالطاقة التي تنتجها عن طريق «الاندماجات النووية» التي تحدث داخلها. ويُعرف هذا النوع من التفاعلات بأنه ينتج الطاقة عن طريق تحويل الذرات خفيفة الوزن إلى الأثقل (وهذا ما يحدث عادة داخل النجوم لكي تضمن البقاء وتتغلب على قوة الجذب التي تدفع ذراتها للداخل). في هذا التفاعل تتحول ذرات الهيدروجين إلى هيليوم وينتج عن ذلك الاندماج طاقة مهولة، هذه الطاقة المنبعثة من الشمس تتكون من جسيمات مشحونة تسمى البلازما تتحرك بسرعة هائلة وكثافة ضخمة.

لنعود معًا للأرض بعد أن تعرفنا على أحد أضلاع المثلث، وهي الجسيمات المشحونة ذات الطاقة العالية، ونبحث عن الضلعين الآخرين.

بشكل عام تتكون أرضنا من نواة ووشاح وقشرة، ما يهمنا هو النواة، حيث تنقسم إلى قسمين (داخلية صلبة) وأخرى (خارجية سائلة). تنتقل الحرارة من النواة الداخلية (الأكثر حرارة) للنواة الخارجية وكلاهما يتكون معظمه من معدن الحديد (الذي يجيد توصيل الكهرباء حتى وإن كان في حالته السائلة)، ينتج عن انتقال الحرارة هذه حركة للحديد مما يجعله ينتج ما يسمى بالمجال المغناطيسي للأرض وهو مسئول عن حماية الأرض من أضرار ومخاطر كثيرة.هذا المجال هو الضلع الثاني في رحلة بحثنا.

المجال المغناطيسي
المجال المغناطيسي

أما عن الضلع الثالث فهو عن كيفية وصول هذه الجسيمات المشحونة للغلاف الجوي والمرور من المجال المغناطيسي للأرض (الضعيف نسبيًّا) عند القطبين مما يتسبب في دخول بعض من تلك الجسيمات إلى الغلاف الجوي للأرض والتفاعل مع ذرات الغاز المكونة له من النيتروجين والأكسجين، ما ينتج عنه انتقال لإلكترونات الغاز بين مستويات الطاقة المختلفة للعنصر أو الجزيء.

هذا الانتقال يتسبب في انبعاث أطياف مختفلة الأطوال الموجية كالأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي والأحمر، تختلف هذه الألوان باختلاف نوع الذرات المتفاعلة مع الجسيمات المشحونة، فتفاعلها مع الأكسجين ينتج الأصفر والأخضر، أما النيتروجين فينتج الأزرق والأحمر. كما تختلف باختلاف الارتفاع أيضًا، فحتى ارتفاع 60 ميلًا يظهر الأزرق وفوقه يظهر البنفسجي، أما الأخضر فيظهر حتى ارتفاع 150 ميلًا والأحمر تحت هذا الارتفاع. وبهذا نكون قد أكملنا أضلاع المثلث معًا.

لنفس هذه الأسباب أيضًا تظهر الأورورا على كواكب أخرى كالمشتري وزحل، فهما يمتلكان غلافًا جويًّا ومجالًا مغناطيسيًّا وتصلهما الرياح الشمسية كما نحن تمامًا.

أما عن الأماكن والأوقات المناسبة لتشاهد هذه الظاهرة وتؤلف لنا أسطورتك الخاصة -فأنا أثق أن الأمر سيلهمك- فكما تحدثنا سابقًا يحدث الشفق القطبي بشكل أساسي عند القطبين، لذلك يجدر بك البحث عنها في أقصى الشمال، فوق دائرة القطب الشمالي أو حولها، كالنرويج والسويد وفنلندا وشمال كندا وألاسكا.

أما التوقيت فهي عادة ما تكون موجودة طوال العام، لكن هناك أشهر أفضل من غيرها كسبتمبر وأكتوبر ومارس وأبريل على سبيل المثال. وتعتمد مدة وجودها وقوة ظهورها على التوقيت الذي تكون فيه نشاطية الشمس عالية نسبيًّا، حيث تستمر هذه الأضواء الرائعة لأيام.

أخبرنا، هل تود رؤيتها يومًا ما؟