السجن والحبس من مفردات اللغة العربية التي عرفها المسلمون، وقد وقعت كعقوبة سالبة للحرية في عهد النبي (ﷺ) والخلفاء الراشدين، كما ذكر لفظ السجن في القرآن الكريم تسع مرات، جميعها في سورة يوسف، كما ورد لفظ الحبس مرتين في سورتي المائدة وهود، وكلمة المسجونين مرة واحدة في سورة الشعراء.

وعليه فإن فكرة السجن والحبس، ظهرت لأول مرة مع قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والحبس في الشريعة الإسلامية، نوعان؛ حبس محدد المدة، وحبس غير محدد المدة، فالأول مدته من يوم واحد إلى ستة أشهر ويعاقب بها المجرمون العاديون، أما الثانية فهي للمجرمين الخطرين ومعتادو الإجرام، بحسب ما ذكر عبد القادر عودة في كتابه «التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي»، والمحبوس هو شخص حُرم من أشغاله ومهماته الدينية والدنيوية، كما ورد في كتاب «بدائع في ترتيب الشرائع» للكاساني.

لكن رغم تناثر حالات السجن والسجون في صدر الإسلام، فإن بعض المصادر تحكى لنا قصة بداية السجون في الدولة الإسلامية، وكيف كانت أحوال السجناء فيها.

السجن في عهد الرسول

اختلف الفقهاء في ما بينهم هل عاقب الرسول (ﷺ) أحدًا بالسجن أم لا؟ بحسبما يذكر ابن الطلاع في كتابه «أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»، لكن تؤكد كتب رواية الحديث أن الرسول (ﷺ)، أنه حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله، كما أنه؛ سجن رجلًا أعتق شركًا له في عبد فأوجب عليه استتمام عتقه حتى باع غنيمة له، توضح تلك الروايات أن عقوبة الحبس كانت من العقوبات التي حدثت في عهد النبي (ﷺ).

ولعدم وجود سجن كمبنى مستقل في ذلك الوقت، استخدمت إحدى سواري (أعمدة) المسجد النبوي للقيد والحبس، كما حدث في حبس ثمامة بن أثال، الذي ربط في المسجد، بأمر من الرسول (ﷺ) ثم تركه، كما اتخذ بعض الدور مقرًا للحبس مثل دار بنت الحارث التي حبس فيها بعض بني قريظة.

أما عن المعاملة التي كان يتلقاها من يحبس في تلك الفترة يلخصه لنا الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك»، عندما حكى عن أسرى غزوة بدر، الذين وزعهم الرسول (ﷺ) على بيوت أصحابه، وأمرهم أن يستوصوا بهم خيرًا، فكانوا يأكلون الخبز والتمر في الغذاء والعشاء، وهكذا كان يعامل من يحبس في عهد الرسول (ﷺ) بشيء من المودة والرحمة دون أي تضيق عليهم، ويدل ذلك حبس البعض في المسجد بين الناس.

أبو بكر الصديق: على خطى النبي

لم يذكر الفقهاء وكتاب السير أن أبو بكر الصديق، قد أسس سجنًا لحبس المخالفين، بل سار على نهج النبي (ﷺ)، بحسب ما ذكر ابن الطلاع، فقد كان يحبس في المسجد أو منازل الصحابة، بحسب ما ذكر عبد الحي الكتاني في كتابه «التراتيب الإدارية».

عمر بن الخطاب: أول من اتخذ دارًا للسجن

سار بن الخطاب على نهج النبي (ﷺ) وأبو بكر في الحبس في المسجد أو منازل الصحابة فترة، ثم قرر أن يخصص أول دار للسجن في تاريخ الدولة الإسلامية، لكثرة المخالفين مع اتساع رقعة الدولة، فكانت دار صفوان بن أمية التي اشتراها عمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنًا، كما ذكر الكتاني والمقريزي في خططه، ويذكر البلاذري في كتابه «فتوح البلدان»، أن في عهد ابن الخطاب بُني سجن في البصرة والكوفة، وكانت مادة بناء تلك السجون من القصب.

وتوجد دار صفوان بن أمية قرب دار أُبي بن خلف داخل ربع بني جمح في مكة المكرمة، وقد اشتراها لعُمر عامله على مكة نافع بن الحارث الخزاعي، بحسب ما ذكر الأزرقي في كتابه «أخبار مكة».

وعن معاقبة المخطئين بالحبس قال عمر بن الخطاب: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم.

ما يدل على الهدف من الحبس هو الإصلاح والتقويم وليس العقوبة فقط، كما فعل مع أبي سفيان، الذي جاء من الشام للمدينة ومعه كتاب ومال وأدهم (القيود) التي وجدها معاوية في حصون الروم، إلا أن أبا سفيان أخذ المال وأعطى الكتاب والأدهم لعمر بن الخطاب، فلما قرأ الكتاب سأله عن المال فأنكره فحبسه بالأدهم التي جاء بها، فبعث من يحضر المال، بحسب ما ذكر الطبري في كتابه.

كما أن الولاة في عهد عمر كانوا يعاقبون من يخالف بالحبس، كما فعل سعد بن أبي وقاص عندما حبس أبا محجن الثقفي لشربه الخمر أيام القادسية.

ويذكر المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»، أن العلماء اختلفوا في ما بينهم هل يحق للإمام أن يتخذ له دارًا للحبس أم لا؟ موضحًا أن بعضهم رفض ذلك محتجًا بأن النبي وأبا بكر الصديق لم يكن لهما مقر محدد للحبس، بل كانا يكتفيان بوضع الشخص في أي مكان، على عكس عمر بن الخطاب الذي جعل دارًا للحبس، وبفعل يرى البعض الآخر من العلماء أن من حق الإمام أن يكون له دارًا لحبس المخالفين.

عثمان بن عفان: يحبس للتعزير

يذكر الطبري في كتابه، أن عثمان بن عفان عُرف عنه تعزيره (بمعنى تأديب المخطئ ومنعه عن الناس) وحبسه للمخالفين، كما فعل مع الذين رفضوا ترك منازلهم التي اشتراها منهم من أجل توسعة المسجد الحرام، فأخذها منهم ووضع ثمنها في بيت المال، فهتفوا ضده عند البيت الحرام، فقال لهم: إنما جرأكم علي حلمي عنكم وليني لكم، لقد فعل بكم عمر مثل هذا فأقررتم ورضيتم، ثم أمر بحبسهم جميعًا، ولم يفرج عنهم إلا بعد تدخل عبدالله بن خالد بن أسيد، بحسب ما ذكر البلاذري في كتابه.

وأيضًا يحكي الطبري في كتابه، أن والي الكوفة سعيد بن العاص أرسل بن عفان، يخبره أن هناك جماعة تعيب عليه دينه وتقلب عليه الناس، فأمره بن عفان أن يرسلهم إلى معاوية والي الشام، فأرسلهم وكان فيهم؛ مالك الأشتر، وثابت بن قيس، وكميل بن زياد النخعي، وصعصعة بن صوحان، حتى يجنب الناس شرهم، وذلك بالنفي، وأحيانًا كان يُقر للوالي أن يحبس من يرى فيه شرًا كما حدث مع والي البصرة عبد الله بن عامر، الذي شكى لعثمان بن عفان رجلًا مفسدًا في الأرض، فأمره أن يحبسه، ومن على شاكلته، ولا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشدًا.

هذا وقد شهدت فترة حكم عثمان بن عفان كثيرًا من الفتن مما أدى للحبس سواء في سجن المدينة أو في المدن الأخرى ولكن بأمر من الخليفة، مع حسن معاملة المحبوسين أو النفي من مدينة لأخرى اتقاء للفتنة.

علي بن أبي طالب: أول من بنى سجنًا

وبحسب ابن الطلاع، فإن علي بن أبي طالب، هو أول من شيد بناء وجعله سجنًا في الكوفة بالعراق، وسماه نافعًا، ولأن مادة بنائه كانت من القصب فلم يكن حصينًا، واستطاع اللصوص الهرب منه، لذلك بنى سجنًا آخر من الطين والحجارة، وسماه مخيسًا، وعن هذا قال ابن أبي طالب:

ألا تراني كيسًا مكيسًا .. بنيت بعد نافع مخيسًا .. حصنًا حصينًا .. وأميرًا كيسًا

كما عُرف عنه لما قال له أحد جلسائه فيمن خالفه: لمَ لا تأخذه وتستوثق منه وتحبسه؟ فقال علي بن أبي طالب: إنا لو فعلنا هذا بكل من نتهمه من الناس، ملأنا سجننا منهم، بحسب ما ذكر الطبري في كتابه، مما يدل على أنه لا يأخذ الناس بالظن، ولا كان يسرف في السجن.

كما أنه كان يحسن معاملة السجناء، ويقدم لهم الطعام، والملابس في الصيف والشتاء، وعلى نهجه سار الخلفاء من بعده، كما رأى من كانت له قبيلة أو مال ينفق عليه في حبسه من مال عكس الفقير الذي يتحمل فترة سجنه بيت المال، بحسب ما ذكر أبو يوسف القاضي في كتابه «الخراج».