يكفي أن تسأل أحد الأطفال اليوم لتتيقن من كمية المهن التي يمكن للمرء أن يحلم بامتهانها، لكن ليست هذه الحال دائمًا، فالبعض مقيد بمهنة واحدة، حتى لو أراد أخرى. فلا يمكن لابن الملك البكر أن يصبح غير أمير ومن بعدها ملكًا. ولا يمكن لطفل في اليابان الإقطاعية أن يحلم بغير أن يصبح ساموراي، بكل ما تحمله هذه المهنة من امتيازات وإكراهات ومغامرات. 

احتل الساموراي مكانة الفارس في الثقافة الشرقية، لشجاعته في أرض المعركة وتفانيه الملائكي في اتباع أوامر سيده وقانونه الأخلاقي. ولا ننسى أن بدلة الكيمونو والشعر الطويل يعطيان للساموراي كاريزما وحضورًا قويًّا. لكن لهذا المحارب المغوار تاريخ دموي، فاسد، وعنصري، واستغلالي، يجعل الصورة المثالية التي كوَّنتها ثقافة البوب عنه مجرد جزيرة من الخير في محيط من الدم والشر. إليك تاريخ الساموراي المظلم. 

ستكون حياتك مزرية إن أردت أن تصبح ساموراي

حب الأطفال في اليابان للساموراي، لا يتعدى كونه حبًّا طفوليًّا. أما حب الساموراي لتلاميذه الأطفال والمراهقين فيتعدى البراءة نحو الفجور والخلاعة. حيث تفوق تعاليم الأستاذ حمل السلاح واستعماله، إلى تعليم كيف يرضونه جنسيًّا. 

 فبجانب تعلم الكندو (Kendo) وهو نوع من المبارزة بالسيوف، وغيرها من تقنيات السيف والقتال الجسدي، وكذلك إتقان كتابة الشعر، والتعاليم الصينية، والبوذية، والروحية. وبجانب القسم على العيش باستقامة مع قانون البوشيدو. فإن على التلاميذ الأطفال تعلم كل نزوات معلمهم الجنسية وكيفية تلبيتها إن أرادوا يومًا أن يصبحوا من عيار المحاربين النبلاء. 

وليس من الغريب أن يكون للساموراي الواحد العديد من التابعين الذي يستغلهم فيما يعرف بواكاشيدو (Wakashudo). ويعتبر أن يكون المرء واكاشي (Wakashu) مزيجًا بين كونه من المتدربين والزوجات للساموراي الأكبر سنًّا، سواء في أرض المعركة أو أثناء التنقلات والتدريب. ولم يكن هذا المنصب تطوعيًّا، بل واجبًا يخاطر الرافض له بأن يوصم بالعار وبأن يمسخ في الحياة الآخرة. 

كما لم تكن المثلية الجنسية كذلك شاذة في اليابان اجتماعيًّا كما هي اليوم، فلم يكن غريبًا أن تفوق علاقة محاربين الزمالة والصداقة ومشاركة الطعام إلى مشاركة الفراش. ولعل ما جعل الشباب الواكاشي يصبرون على معلمهم هو القليل من القبول والارتياح حين يتذكرون أنه كان بدوره تلميذًا، وبالتالي خاض نفس التجربة. 

قتل من أجل المتعة فقط 

والآن، بعد أن أصبح الساموراي التلميذ ساموراي محاربًا متبعًا لسيده. أصبح الترويح عن النفس جزءًا من أمسياته ومن عطلاته، فبعد كل شيء، الساموراي إنسان، والإنسان الذي لا يستمتع من وقت لآخر يخاطر بصحته العقلية. وهنا تتعدد طرق الترويح عن النفس، فهناك من يثمل بالساكي، ويعاشر النساء أو الرجال، وهناك من فقط يتأمل في الخلق والطبيعة. لكن هنالك نوعًا من الاستمتاع أكثر تطرفًا، يدعى تسوجي-غيري (Tsujigiri). 

التسوجي-غيري هو التسلل ليلًا إلى الطرق المظلمة، وانتظار المسافرين والتجار في العتمة، ثم تحيتهم بشقهم إلى نصفين، في نوع من القتل الطقوسي الذي شاع أن 1000 عملية قتل من هذا النوع يشفي أمراض الساموراي جمعاء. 

ولم يكن الحاكم الشوغونات يرى أي ضرر في التقارير عن تزايد نسب التسوجي-غيري، فما دامت يده تحكم الساموراي، فما الضرر من قتل تاجر أو فلاح لا نفع له به. لكن مع صعود شوغونات توكوغاوا للحكم، أُمِر بمنع هذه الاغتيالات في سنة 1602، لصون دم الأمة وإحلال الأمن والعدل. 

لكن كل ممنوع مرغوب، واستمر القتل، وشاع أن الشوغن الثالث من حكومة توكوغاوا، ليميتسو (Lemitsu)، يتسلل في الليل من قصر إيدو ليقتل الأشخاص غير المحظوظين المارين في الطرق ليلًا.

ولم يكن القتل مقتصرًا على الطرق المظلمة فقط، بل تجاوزها إلى ساحات المدن والقرى، وكذلك أمام دكاكين صناع الأسلحة. حيث على عكس اليوم، لم يستعملوا سجادات التطامي (Tatami) ليروا مدى حدة سيوفهم الجديدة، بل أطراف بشرية مع صاحبها ليخبرهم بنفسه إن كان السيف حادًّا أم لا. سمي هذا الفعل تامشيغيري (Tameshigiri)، وعادة ما يكون تجاه المحكومين بالموت، أو جثث المجرمين، التي يكدس في بعض الأحيان سبعة منها لتنتهي مقطعة بطرق شنيعة تمنع أهلهم من التعرف عليهم.

الموت من أجل الحب، ليس اختيارًا لزوجة الساموراي

ومن الحب ما قتل، فعلى عكس زوجتك التي تهددك بالقتل إن أجرمت في حق أحدهم أو إن نسيت جلب حليب الأطفال. في اليابان الإقطاعية كان انتحار الزوجات من أجل أزواجهن الساموراي أمرًا عاديًّا، فيما يعرف بجيغاي (Jigai). وهو انتحار طقوسي لا يقوم على حفظ الشرف ومقاومة الألم على غرار السيبوكو (Seppuku). بل على السرعة في التنفيذ وعلى حفظ الكرامة. حيث تقوم الزوجة بربط ركبتيها قبل أن تقوم بشق عنقها لكيلا تموت في مكان غير مكانها، ولكي تودع هذه الحياة بسرعة وبأقل قدر ممكن من الألم.

وتتعدد أسباب إقدام الزوجات على هذا الطقس الروحي، ابتداءً من خوفها من أن يلطخ شرفها وشرف عائلتها إن وقعت في يد العدو أثناء الحرب، إلى الندم على فعل كالخيانة أو السرقة. لكن السبب الرئيس هو إقدام الزوج نفسه على الإقدام على السيبوكو. وهنا تجد الزوجة نفسها مرغمة على الموت من أجل زوجها بطريقة تطهرها روحيًّا وتحفظ ما تبقى له ولها من شرف اجتماعي. 

ولا تظن أنك سوف تتزوج من تحب في يابان القرون الوسطى، فرغم علو مرتبة الساموراي الاجتماعية وقوتهم في عصر إيدو، فإن الزواج كان في أغلب الأحيان مرتبًا سلفًا من قبل أولياء الساموراي والمجتمع الذي لا يرى الزواج إلا وسيلة للتقوية العائلية اجتماعيًّا ولزيادة الثراء. كما أن الساموراي يحتاج لإذن قانوني من الحاكم الجهوي وضباط الشوغونات للزواج. 

أما إن وقع اثنان في الحب، ولم يكن للزواج وسيلة، فإنهما يقدمان على الانتحار برمي نفسيهما من فوق جرف عالٍ أو شرب السم. وللأسف، لا يزال هذا النوع من الانتحار منتشرًا في اليابان. 

الرونين: أبطال في القصص وفقراء بالواقع

تعتبر قصة الرونين السبعة والأربعين من أكثر القصص الملحمية حول الساموراي الذين خسروا سيدهم، حيث غامر 47 منهم للانتقام لسيدهم بعد أن اغتيل. وبعد أن نالوا انتقامهم بطريقة غير شرعية حكم عليهم بالإقدام على السيبوكو. لكن هذه القصة لا تعكس سوى السطح من حياة الرونين التي بصم عليها الفقر والعبث. فمَن هم هؤلاء؟ وكيف كانت حياتهم الفقيرة مصدرًا لقصص أسطورية؟

يطلق لفظ الرونين (Rōnin) على الساموراي الذين فقدوا سيدهم، أو الذين تخلى سيدهم عنهم، وهم ساموراي أقل شرفًا اجتماعيًّا يجولون في اليابان دونما ولاء لأي سيد. ظهر الرونين في بداية فترة إيدو بين 1603 و1867، وذلك بعد توحيد جل أطراف اليابان تحت لواء حكومة واحدة، ما أدى للأسياد السابقين لهؤلاء الساموراي لخسارة سلطتهم وبالتالي التخلي عن أتباعهم الساموراي. 

كان الرونين في تلك الفترة كالسمكة التي وجدت نفسها على الشاطئ، وعليها أن تتعلم التنفس لكي تعيش. وهذا ما حدث بالفعل، حيث إن جلهم بكل ما لديه من خبرة وعتاد حربي وجد نفسه أمام خيارين، إما أن يمتهن الفلاحة، أو التجارة، أو إن كان ذا حظ قليل يجد نفسه في أحد المهام الإدارية المملة، متجردًا من كل جاهٍ اجتماعي من أجل حياة تتسم بالوسطية والعيش في سلم بعيدًا عن كل أشكال العنف. 

والخيار الثاني أن يخرق المرتزقة قانون الساموراي الأخلاقي من أجل قليل من الرفاهية والقيمة اللتين فقدهما. وكان هذا مآل الكثير من الرونين، حيث كان الاغتيال، وتكوين العصابات من أجل السرقة والخطف، وكذلك مهن الدعارة والترفيه، بابًا للاسترزاق في زمن تغيرت فيه مكانة الساموراي من أفضل ما في المجتمع إلى أسوأ ما في المجتمع. 

واعتبرت مغامرات بعض من الرونين مصدرًا لقصص أقل ما يقال عنها أسطورية، من فوز مياموتو موساشي بـ 60 نزالًا، وحكمته المكتوبة في عدد من كتبه، إلى قصة الساموراي السبعة والأربعين. لكن كل هذا تغاضى عن الفقر  المدقع الذي عاش فيه الرونين. 

البوشيدو: غِلٌّ في قدم الساموراي الشريف 

جوهر مبادئ البوشيدو هو: لا تكذب، لا تكن مخادعًا، لا تكن خنوعًا، لا تكن سطحيًّا، لا تكن جشعًا، لا تكن وقحًا، لا تكن متفاخرًا، لا تكن متكبرًا، لا تقل بهتانًا، لا تكن خائنًا، وكن على وفاق مع الرفقاء، لا تبالغ في اهتمامك بالأحداث، اهتم بالآخرين، كن متعاطفًا، وليغمرك شعور قوي بالواجب. فكونك محارب ساموراي على خلق يتطلب أكثر من مجرد استعدادك للتضحية بحياتك.

يعتبر البوشيدو (Bushido)، أو طريق المحارب، الفلسفة والقانون الأخلاقي الذي حكم طبقة البوشي أو المحاربين في اليابان في فترة إيدو (Edo)، وهو عقيدة تجمع بين التعاليم البوذية والكونفشيوسية.  

لم يكن يرمز لطريق المحارب بلفظ البوشيدو، بل باستخدام مصطلحات من قبيل (Kyūba no Michi) (فن رمي السهام من فوق ظهور الجياد) و (Yumiya Toru mi no Narai) (الأعراف والتقاليد لممارسي فنون رمي السهام). ويظن أن الساموراي كوساكا دانجو ماسانوبو التابع لشوغونات تاكيدا شينغن هو أول من بدأ بتجميع هذه التعاليم والمبادئ بعد خسارة معركة ناغاشينو سنة 1575. وهناك من يظن أن معلم الفنون القتالية في مدرسة تاكيدا رييو والساموراي أوباتا كانهيوإيه كاغينأوري هو أول من اتبعها حوالي سنة 1615. لكن النظرية الأولى تحظى بتأييد وجمهور كبير. 

ويعتبر البوشيدو قانونًا أخلاقيًّا يحكم أرض المعركة وعقلية المحارب الساموراي بها، ويذكر سجل كيو غونكان أن استعمالها في نواحي الحياة الأخرى من تجارة وأعمال مالية أو إدارية إهدار لقدرات وموهبة المحارب. لكنها خرجت من أرض المعركة إلى كل أشكال حياة اليابانيين لتقوي ولتغرس المعاني الأخلاقية الذاتية. 

وذكر كتاب العلوم العسكرية (Shoke no hyōjō) المكون من عشرين مجلدًا المجمع من طرف أوجاساوارا ساكوأون سنة 1621 وسنة 1658 مصطلح البوشيدو، لكن كوصف لقوة الإرادة (iji)، والذي أدان التمسك بالثراء وشجع على رواقية يابانية تدعو للتمسك بالمعتقدات الذاتية التي تهيمن على مبادئ الفرد الداخلية. فهي على حسب أقوال الكاتب جوهر البوشيدو الحقيقي. 

وتجلت النزعة الفلسفية لمبادئ البوشيدو في كتاب كاشوكي (Kashōki) الذي نشر في 1642، والذي يعتقد أنه من كتابة سايتو شيكاموري، الذي اقتبس منه المقولة أعلاه. وقد تسأل الآن لماذا البوشيدو هو ما جعل الساموراي الشريف قذرًا؟ 

بكل بساطة، الولاء الأعمى للقائد والذي يترتب عن أي عصيان له أو فشل، الوصم بنار العار اجتماعيًّا وبالتالي الإقدام على الانتحار، جعل الساموراي بين شرين الأول هو أن يتجاهل باقي القانون الأخلاقي في حال رفض القائد أن يعطي صفة الرونين للساموراي، وأن يطيع أوامر قائده بغض النظر عن ماهيتها. أو ألا يقوم بما هو ضد قانونه الأخلاقي، ألا يخون أو يسرق أو يغتال إن طلب منه، وأن ينتحر أمام جموع من الناس شاقًّا بطنه على شكل زائد من اليسار إلى اليمين، ومن الأعلى إلى الأسفل فيما يدعى بانتحار السيبوكو (Seppuku). 

حقبة ميجي: نهاية فصل آخر من التاريخ الياباني

وكما كل شيء آخر في الحياة، لا بد لكل بداية من نهاية، ومع وفاة آخر الشوغونات في 1853، أخذت اليابان منحًى آخر نحو الحداثة مع صعود الإمبراطور ميجي للسلطة سنة 1868. 

ومع التجديد الذي لحق كل شيء في اليابان، خسر ما يقارب مليونين من الساموراي أي ما يناهز 6 في المائة من سكان اليابان مصدر رزقهم الوحيد، الذي هو المبارزة والعمل لصالح أحد الشوغونات، ما عدا القلة المحظوظة التي ظفرت ببعض المناصب الحكومية أو غيرها التي صبت في تغيير اليابان من نظام إقطاعي إلى الرأسمالية الغربية الحديثة. وبهذا انتهت حقبة الساموراي في اليابان، ليصبحوا اليوم أساطير تتغنى بها الأفلام والمسلسلات مخفين الوجه الآخر لما يعنيه أن تكون ساموراي.