في الأول من مارس/آذار الماضي،عرضت قناة BBC تقريرًا عن الفيلسوف العراقي الشهير «أبوعثمان عمرو بن بحر الكناني البصري» المعروف بـ«الجاحظ». تحدث التقرير عن كتب الجاحظ التي بلغ عددها 200 كتاب، تشعبت بين العلوم والجغرافيا والفلسفة والأدب، وإن كان يظل أشهرها هو كتابه «الحيوان».

كتاب «الحيوان» هو عمل موسوعي من 7 أجزاء وضعه الجاحظ واقتبس عنوانه من كتاب يحمل نفس الاسم لأرسطو. يوهم العنوان الذي وسم به الكتاب أنه مقصور على الحيوان، إلا أن الكتاب يتضمن علوما ومعارف أكبر من العنوان كما يقول محققه محمد باسل عيون السود في مقدمته، بعدما جمع فيه: «بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسّة، وإحساس الغريزة».

ينقل التقرير جُملة على لسان الجاحظ وردت في «الحيوان» يقول فيها:

الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى.

ثم ينقل عنه وجهة نظر مفادها أن «عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى»، ويضيف أن هذه الآراء تُوضِّح إدراك الجاحظ لأن الكائنات في صراع دائم للبقاء، وحتى تضمنه فإنه يتوجب عليها أن يكون لديها سمات تساعدها على التنافس، وهذا يؤدي إلى تغيرهم من جيل لآخر.

السبب المنطقي للجدل الذي لاحق طرح التقرير التعارض المباشر بين نظرية التطور وآيات القرآن والمفهوم الإسلامي لنظرية الخلق، وفي هذا الصدد لا يعنينا طرح مدى صحة النظرية علميًا أم لا فهو أمر متروك لعلم البيولوجيا، ولا يعنينا حتى إثبات مدى تناقضها الإسلام، فقط نقرُّ هذا التعارض بشكل حاسم لتبيان (عُمق/صدمة) تأثير إعلان تأييد أحد كبار علماء المسلمين في التاريخ للنظرية، ولنعد سريعًا إلى موضوعنا الأصلي: هل وضع الجاحظ بذور فكرة التطور قبل داروين بألف عام حقًّا؟


التطور عند الجاحظ

لم يكن إعلان BBC أبوة الجاحظ لنظرية التطور جديدًا، فقد تحدثت عنه عشرات المقالات، ربما أقدمها مقالة «الجاحظ وصعود التطور البيولوجي»[1] التي وضعها الباحث التركي ميهمت بيردقار المعني بدراسة الفلسفة الإسلامية عام 1983، قدّم فيها الجاحظ على أنه «صاحب نظرية بيولوجية كاملة» كان لها تأثير على كامل الجنس البشري؛ وهي المقالة التي اعتمدت عليها تقارير إعلامية غربية كثيرة لتقديم الجاحظ كأحد الجذور العتيقة لكلمات داروين.

اعتمد بيردقار بشكل رئيس على 3 فقرات بكتاب الجاحظ: الأولى، تتناول حديثه عن الصراع من أجل البقاء ضاربًا المثل بأن الحيوانات تأكل بعضها البعض تبعًا لمقاييس القوة، فالفئران تأكل صغار الطير وبيضها، والحية تأكل الجرذ، والورل إنما يحتال للحية، ويحتال للثّعلب، والثعلب يحتال لما دونه وهكذا. وبالعودة لنص كتاب الحيوان الأصلي، يتجلّى خطأ الاستشهاد الذي أُخذ من سياق شرح صاحب الحيوان لبيت شعري:

علّق عليه ككاتب وأديب مستحضرًا تجارب الحيوانات، ومن خلالهم البشر، في الصراع من أجل البقاء على سبيل العِبرة والعِظة وليس من أجل إرساء قاعدة علمية جديدة تُنظّر لصراع الكائنات من أجل البقاء، وهو أحد المفاهيم الأساسية التي قامت عليها نظرية داروين.

وفي سياق حديث الجاحظ عن «المسخ» ونقله كل الآراء التي سمعها عنه مبتدئًا كل عباراته بجملة «يقولون»، كان أحد تلك الآراء أن المسخ هو الأب لجميع لحيوانات، الضب والأرنب، وأنه كائن بشع الخلقة انحدرت منه الحيوانات تباعًا. هذه العبارة ترجمها بيرقدار إلى: «الشكل الأصلي لرباعيات الأطراف»، واعتبرها رأيًا مباشرًا من رأس الجاحظ، على الرغم من أنه عنَى بوضوح بـ«المسخ»، المصطلح المعروف في الثقافة الإسلامية عن الخلق بشع المظهر الذي ورد بعددٍ من الأحاديث النبوية، دون أن يُحدِّد له موضعًا معينًا في سلم تطور الإنسان.

أما الفقرة الثالثة والأهم التي ساقها، فالجاحظ يؤمن بأن للبيئة أثر على تغيير خلقة المخلوقات فالأكل والمناخ والمسكن كلها تدفع الإنسان لـ«الصراع للبقاء». ويستشهد بفقرة «خبّرنا من لا يحصى من النّاس أنّهم قد أدركوا رجالًا من نبط بيسان، ولهم أذناب إلّا تكن أذناب التماسيح والأسد والبقر والخيل؛ وإلّا كأذناب السّلاحف والجرذان، فقد كان لهم عجوب طوال كالأذناب.

وربّما رأينا الملّاح النّبطيّ في بعض الجعفريّات على وجهه شبه القرد. وربّما رأينا الرّجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ، إلّا القليل»، وهنا أيضًا يتضح من النص الأصلي للكتاب أن هذا الكلام بأسره منسوب للدهرية، وأن صاحب «الحيوان» اكتفى بنقله دون تأييد، وعلى هذا يجب البحث في تماس أفكار الدهريين مع داروين، لا الجاحظ، خصوصًا وأنهم فئة أعلن المفكر العباسي الحرب عليهم مرارًا في كتابه هذا وبعض أعماله الأخرى.

وعلى الرغم من عدم دقة عرْض هذه الورقة العلمية، فإن عددًا من التقارير الأكاديمية اعتمدت عليها ونقلت عنها حرفيًا لدعم نفس وجهة النظر، كما أن بعضها وقع في خطأ أكثر غرابة بنسب فقرة «داروينية الفِكر» لكلام الجاحظ دون أن ترد على لسانه في أيٍّ من كتبه، وهو ما فعلته صحيفة الجارديان، وعنها نقلت BBC جزءًا من هذه الكلمات في تقريرها سابق الذِكر.


بين التراث الفلسفي والعلم الحديث

وبعضها طعم لبعض كما :: أعطى سهام الميسر القمر

كان لافتًا أن يقتبس الدكتور «أحمد شوقي‎» في كتابه «قصة التطور» من هذه المقالة لتبيان الاعتراف الغربي بسبق الجاحظ لداروين، وهو احتفاء سبقه إليه كتاب عرب آخرون. يقول إسماعيل مظهر في مقدمة ترجمته العربية لكتاب «أصل الأنواع» لتشارلز داروين، إن العديد من فلاسفة الإسلام كتبوا بهذا الشأن، مثل ما ورد بالرسالة العاشرة لإخوان الصفا، وكتابي «الفوز الأصغر» و«تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، ومقدمة ابن خلدون، وانتهى بكتاب «الحيوان» للجاحظ الذي اعتبره احتوى على «مشاهدات من مقومات مذهب النشوء».

في كتابه «المناحي الفلسفية عند الجاحظ»، وصف الدكتور علي بو ملحم الرجل بأنه «فيلسوف طبيعي» انشغل بقضايا عصره وحاول الوصول فيها لحل بالمشاهدة الحسية لا بالتجربة، وتحدث عن عدم ضرورة وجود ذكر وأنثى لتتم عملية الخلق، ضاربًا المثل بالقمل الذي «يتخلق من عرق الإنسان ووسخ جلده». وبعيدًا عن مدى صحة هذا الرأي أو عدمه، لكن الكاتب اعتبر أن الجاحظ فتح بهذه الكلمات باب البحث في أصل الأنواع، بعدما أكد في كتابه مرارًا أن للبيئة أثرًا في تغيير شكل الإنسان، إلا أنه يوضح أن «تطور الجاحظ» الذي عبّر عنه يختلف عن «تطور داروين»، فبينما يؤمن الأخير بالتطور الصاعد الذاهب نحو الأرقى، يقول الثاني بالتطور النازل الذاهب نحو الأردأ.

يقول الدكتور السعيد الورقي، الأستاذ بكلية آداب الإسكندرية، لـ«إضاءات»، إن الحديث عن التطور قديم جدًا بدأ منذ عهد أرسطو مرورًا بكل من تلاه، لكن الأمر تطور على يديْ داروين. وأكد أنه لا يمكن اعتبار أن حديث القدماء عن التطور أساسًا لنظرية النشوء والارتقاء، لأن دراسة داروين على الكائنات كانت «معملية تجريبية»، أما من سبقوه فكانوا فلاسفة، آراؤهم «شكلية» بمن فيهم الجاحظ الذي عبّر عن آراء مماثلة في كتاب «الرسائل». لكن الدكتور سعيد منصور، أستاذ الأدب العربي المتفرغ، يختلف مع هذا الرأي، حيث أكد لـ«إضاءات» أن الجاحظ تبنى فعلاً آراءً تطورية قبل داروين، وأنه أعدَّ عنها بحثًا كاملاً نشره بإنجلترا.

أما الباحثة والأدبية «سارة قويسي» فقالت لـ«إضاءات» إن نسب نظرية التطور للجاحظ «خاطئ جدًا» لأن الرجل لم يكن عالمًا بيولوجيًا، وإنما فيلسوف موسوعي يحاول التوصل لسر المخلوقات والعالم ويرصد البيئة بالنظر والتأمل، وهي أحد أنواع العبادات التي حثّ عليها القرآن.

المراجع
  1. AL-JAHIZ AND THE RISE OF BIOLOGICAL EVOLUTION, Dr. Mehmet BAYRAKDAR