يسأل سائل: في غياب القصة العلمية، كانت القصة الدينية عن نشأة الكون وخلق الحيوانات وعمر الأرض هي القصص السائدة. ألم تبطل النظريات العلمية الحديثة (المثبتة بالأدلة) هذه الحكايات؟ ألم تثبت أن عمر الأرض أطول جدًا مما يعتقد المتدينون وأن الحيوانات لم تخلق على صورتها؟

نقول: كل هذه الأسئلة لا تتوجه على دين الإسلام. فليس في الإسلام ما يحدد عمرًا معينًا للأرض، وليس فيه ما يمنع أبدًا من تطور الحيوانات (وسنأتي لتطور الإنسان في المقالة القادمة). فهذا النوع من التعارضات قد نشأ في الواقع المسيحي لنصوص في العهد القديم والجديد ليست تلزمنا أصلاً. وسنأتي لذكر ذلك بالتفصيل.

الحكاية في العهد القديم

هناك فريق من رجال الدين المسيحي يتمسكون بظواهر نصوص في سفر التكوين في الإنجيل تفيد أن عمر الأرض لا يزيد على 6000-10,000 سنة، فمن ثم سيستحيل حصول ذلك التطور الذي عنه تنشأ تلك الكائنات المعقدة الذي يحتاج إلى بلايين السنين.

وقد شكلت لهذا الفريق البحوث الجيولوجية العلمية التي قدمت أدلة على أن الكون يمتد عمره لمليارات السنين مشكلة. فإننا حسبما فهمنا إلى الآن ووفق أحسن نماذجنا العلمية، فإن هذه حكاية كوننا العجيب: أنه تشكل من ما يزيد على ثلاثة عشر مليار عام، وتكونت الأرض منذ حوالي 4.5 مليار عام، ووجدت حياة على الأرض قبل بلايين السنين.

ذلك لأن هذه المعلومة البسيطة التي لا توجد أي إشكال عند القارئ الكريم قد أحدثت شروخًا في الفكر الديني المسيحي في العقود الماضية، وذلك لوجود الصدام بين النموذج العلمي المستند على مشاهدات واستدلالات كونية قوية جدًا، وبين الحكاية الدينية المسيحية.

فهذه الحكاية عن عمر الأرض، كان ولا زال يقول كثير من رجال المسيحية المعروفين بــ Young Earth Creationists، وكما يعتقد حوالي 38% من الشعب الأمريكي كما بيّن استفتاء هذه السنة أجرته مؤسسة جالوب الشهيرة.

إن سفر التكوين يبدأ بأن الله في البدء خلق السماوات والأرض، وأن الأرض كانت خربة ومظلمة فخلق الله النور، ثم خلق الله عليها المياه، ثم اليابسة، ثم الإنبات، وخلق الله نورين عظيمين هما الشمس والقمر، ثم يقول الإصحاح الأول من سفر التكوين، إنه في اليوم الخامس، قَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ». فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الَّتِي فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلًا: «أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ».

ثم في اليوم السادس، وقَالَ اللهُ: «لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ، وَدَبَّابَاتٍ، وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا». وَكَانَ كَذلِكَ (….) فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا، وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا في طول العصور الوسطى، حتى أن الأديب الإنجليزي الأشهر وليام شكسبير قد ذكره في إحدى مسرحياته «As You like it»:

The poor world is almost 6,000 years old[1]

ثم جاءت الحكاية العلمية التي منشؤها الأدلة المتاحة للناس للنظر فيها ونقدها، والتجربة المبنية على المقدمات الحسية والعقلية، والفرضية الخاضعة للنقد، والقابلة للتطور والتحول. ووقفت هذه الحكاية الدينية وأمثلتها سدًا منيعًا أمام العلم ليطور رؤيته المستنبطة من أدواته العلمية، حتى استطاع العلم قمع هذه الرؤى الدينية، وحتى اضطر رجال الدين إلى ليّ عنق النصوص لتسمح للدين بالاستمرار في ظل ما يظهر من حقائق العلم، وشكلوا ما عرف بـ Old Earth Creationism، فلا يتعاملون بحرفية مع ما جاء في الإنجيل ليوافق البحوث العلمية.

الحكاية في القرآن

أولاً لا يوجد في المعلوم من دين الإسلام أي معلومات تتعلق بعمر الأرض، ولا بأن المخلوقات الحية (غير الإنسان) خلقت خلقًا مباشرًا كما هو مصور في الإنجيل.

ونذكر بعض المعلومات وحقائق عن الكلام الكوني في النصوص الدينية الإسلامية، وعن نظرة الإسلام للعلم، وعن مشكلة العلم والدين، المعاني المستقرة بين المسلمين، وفي تراثهم العلمي على مدار ألف وأربعمائة عام، ومن كتابات كتبت قبل النهضة الأوروبية بقرون عديدة، فهي كانت التيار السائد Mainstream الذي دأب عليه علماء المسلمين في فهم دينهم، لا قول أقلية نبرزه للحاجة إليه:

  • ليس في الإسلام البتة ما يدل على أن عمر الأرض قصير، أو أن الكون قد وجد مع وجود الإنسان (بل هناك ما يدل على عكس ذلك بالضبط أن الكون أسبق وجودًا بكثير من النشأة الإنسانية)، ولا يوجد ما يمنع أيًا من النماذج الكوزمولوجية العلمية فيما يتعلق بعمر الكون.
  • ليس في الإسلام البتة أن الأرض مركز الكون، أو أنها كبيرة الحجم بالنسبة إليه، ولا يوجد ما يؤيد الاعتقاد بالــ Geocentric Model، بل إن الأرض بالنسبة للسماء الدنيا (الأولى) (كحلقةٍ في فلاة) كما رُوِيَ ، أي كخاتم صغير بالنسبة إلى صحراء واسعة وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء التي فوقها وهكذا إلى السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك.
  • لا يوجد في الإسلام ما يعارض تطور الكائنات الحيوانية سوى الإنسان (وسنأتي لذكر التطور الإنساني في المقالة القادمة)، أو أن تكون قد نشأت في البحر ككائنات بسيطة ذات خلية واحدة ثم تطورت عبر نموذج كالانتخاب الطبيعي أو غيره من النماذج التي يكشف عنها علماء البيولوجيا.
  • لا يوجد في الإسلام البتة ما يقضي بوجود أصل واحد لكل جنس حيواني بحيث يكون هناك فيل أول، أو زرافة أولى.
  • بل ليس هناك ما يمنع في النصوص الدينية من أن تكون الحيوانات تطورت تطورًا بطيئًا متدرجًا Gradualism، ولا يوجد ما يجعل للصراع بين Gradualism وغيرها من النظرات في علم البيولوجي التطورية كالـ Saltationism التي تقول التطور قد حصل ولكن بقفزات، لا عن طريق التطور البطيء المتدرك، حيث قد يظن البعض أن في القفزات هذه كأنه نوع تدخل للإله زائد على الطبيعة! فكأنها هكذا أقرب لأن تكون النظرية من فعل الله ولو كانت فقط بصورة بطيئة لا يوجد فيها قفزات أنها هكذا الطبيعة الصماء.

هذا وإن الكل أصلاً فعل الله على أي شكل وأي صورة.

  • ونفس الكلام نقوله على نظرية لامارك، تلك التي تجعل هناك توريثًا لصفات يكتسبها الكائن الحي في حياته، ثم يعطيها لذريته، التي أضافها إلى نظريته عن ال Orthogenesis، والتي حاصلها أن في الحيوانات دافع ذاتي في داخلها لأن تنحو نحو غاية معينة.

نقول سواء كانت طبيعة السببية فيما يظهر لنا هذا أو هذا أو ذاك، كل هذا هو خارج البحث الديني أصلاً، وخارج بحثنا الفلسفي عن الحاجة الذاتية لكل شيء من الموجودات إلى موجد وخالق، أن لا فاعل إلا الله ولا خالق إلا الله، وأن غاية كل هذا البحث هو معرفة فعل الله ليس أكثر، وأن النظر في معرفة فعل الله هو نحو في السببية العادية، والنظر في الكون وكل ما فيه من حيث كونه ممكن الوجود هو نظر فلسفي في البحث الأونوطلوجي للموجودات، فالجهات أصلاً منفكة!

ونحن نرى أن دور النظرية العلمية هو تفسير المشاهد، وكل ما يفسر المشاهد ويتنبأ بتنبؤ أفضل فهي النظرية الأفضل، ولا يضرنا شيء مما تأتي به إن فسرت المشاهد تفسيرًا أفضل فسواء كان كذا أو كذا، في النهاية كله: فعل الله، {الله خالق كل شيء}.

فمن ثم ليس ثمة قيود على العالم الذي يبحث عن عمر الكون، أو عن تطور الكائنات، أو في علم الحفريات، أو يبني على كل ذلك تكنولوجيا حيوية أو دوائية تفيد حياة البشر على كوكبنا الصغير.

تصالح علماء المسلمين مع مبدأ تطور الحيوانات

بل إن أصل مبدأ تطور الحيوانات، لم يجد علماء الدين فيه محظورًا دينيًا! فقد ورد في إشارات لعلماء المسلمين من غير نكير، فإنه كان مشهورًا عندهم أن بعض الحيوانات هي في الحقيقة متولّدة من مجموعة من الحيوانات المختلفة.

وليس المراد هنا هو مناقشة صحة كلامهم، فإنهم كانوا يتكلمون على المشهور من النظريات وقتها التي قالها المنشغلون بعالم الحيوان ومحاولة فهمه، وإنما المراد أنها لما سمعوا هذا لم يمنعوه من حيث فهمهم للدين، بل قرروه كما هو.

مثلاً في طائر الأنيس، يقول الإمام الفقيه الشافعي كمال الدين الدميري [ت 808 هـ – 405م]:

قال أرسطو: «إنه يتولد من الشرقراق والغراب، وذلك بين في لونه».[2] وفي حيوان الببر: وهو ضرب من السباع، قال: «ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة»[3] وفي الزرافة قال: «وهي متولدة بين ثلاثة حيوانات، بين الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان وهو الذكر من الضباع، (…)» وقال قوم: إنها متولدة من حيوانات مختلفة، وسبب ذلك اجتماع الدواب والوحوش في القيظ، عند المياه، فتتسافد فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع منها ما يمتنع، وربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها فيأتي منها خلق مختلف الصور والألوان والأشكال.[4]

ولا شك أن هذا ليس بالضبط هو التطور الدارويني، وليس المراد الاستشهاد على أنه هو! وإنما المراد أن فكرة أن يكون الحيوان أصله أكثر من حيوان على ما كان معروفًا لتفسير ذلك، هذا لم يجدوا فيه حرجًا دينيًا في حكايته.

وكما سبق أن قلنا: إن البحث عن السببية العادية في كيف وجدت الموجودات الحية على الصورة التي نراها، هذا هو محل بحث النظرية، وهذا مما لا نجد فيه أي إشكال ديني، فإنه مثل البحث عن كيف تتحرك وتسقط الأجسام، أهو بسبب قوى في الأجسام تجذب بعضها إلى بعض؟ (نظرية نيوتن) أم بسبب انحناءات في الزمكان (نظرية أينشتين)، هذا من حيث البحث عن السببية العادية، التي يخلق الله عليها الكون، وهو خالق لكل شيء، فكذلك. هل توجد الزرافة لاجتماع تلاقحات من حيوانات مختلفة، أم بسبب تراكم طفرات جينية على مدار ملايين السنين؟ هل خلق الله تعالى الكون هكذا أم هكذا؟

وقال الإمام ابن حزم الأندلسي [ت 456هـ – 1063م]:

وما ننكر في كل نوع ما عدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين فهذا ممكن في قدرة الله تعالى ولم يأتِ خبر صادق بخلافه لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه السلام وسفينته حين الطوفان {احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه السلام مأمورًا بأن يحمل من كل زوجين اثنين ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم، وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة. [5]

خلاصة ما قلناه في هذا المقال

إن الصراع بين رجال الدين والعلماء في الغرب حول عمر الكون وتطور الحيوانات في مقابل خلقها على صورتها كما هي هو صراع لا يعنينا كمسلمين في شيء. فإنه لا إشكال أبدًا بالنظر إلى نصوص الإسلام في أن يكون عمر الأرض مقدّرًا ببلايين السنين، أو أن يحصل التطور في الحيوانات عن حيوانات أقل تعقيدًا ثم تترقى ويتولد بعضها من بعض، وأن توجد عبر ملايين السنين، كل ذلك لا يعارضه القرآن في شيء وليس فيه ما يتعارض مع اعتقادنا الإسلامي.

المراجع
  1. Shakespeare’s (1599) line given to Rosalind addressing Orlando in As you like it (IV, 1:90).
  2. حياة الحيوان 1/71
  3. حياة الحيوان 1/164
  4. حياة الحيوان 2/8-9
  5. الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسي ص 1/62 ط. مكتبة الخانجي