في يوم الأحد الحادي عشر من شهر يونيو/حزيران ودَّع العالم مفكرًا وكاتبًا من طراز فريد؛ «دايفيد فرومكين». فعلى الرغم من أنه ليس عضوًا في «المجتمع الأكاديمي» للبحث العلمي التاريخي، فإنه فرض نفسه بكتاباته وعمله الدءوب منذ عام 1975م وحتى وفاته. فمن هو دايفيد فرومكين، وما عساها تكون أبرز أفكاره؟ ولمَ الاهتمام به من قبل القارئ العربي؟


دايفيد فرومكين في سطور

وُلِد دايفيد فرومكين عام 1932م بالولايات المتحدة الأمريكية،وقد تخرَّج في جامعة شيكاغو الأمريكية بعد أن درس القانون، ثم أعقبها باستكمال دراساته العليا في «المعهد العالي للدراسات القانونية» بجامعة لندن في المملكة المتحدة. ثم عاد بعد استكمالها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكي يبدأ مشوارًا حافلًا؛ فقد أمضى معظم مشواره العملي كمحامٍ ومستثمر خاص، كما أنه ترأَّس مسئولية إدارة السياسة الخارجية لـ «هيوبرت همفري» المرشح الرئاسي في عام 1972م. وأصبح عضوًا بمجلس العلاقات الدولية بجامعة بوسطن في 1976م؛ وهي الجامعة التي عمل بها أستاذًا جامعيًا ومشرفًا على مركز العلاقات الدولية منذ عام 1994م وحتى عام 1997م، وقد شغل أيضًا منصب مدير مركز «فريديرك سي. باردي للدراسات المستقبلية» بين عامي 2000م و2007م. وإلى جانب هذا المشوار الحافل، عُـيِّـن فرومكين كملازم أول للإشراف القضائي على مباحثات الاتفاقية طويلة المدى SOFA بفرنسا، كما دخل شريكًا في شركة «وال ستريت» للمحاماة.[1]

ترك فرومكين عدة مقالات منشورة في مجلات وجرائد مختلفة، لعل أهمها في «فورين آفيرز» Foreign Affairs، والــ«نيويورك تايمز» New York Times. كما خطَّ عدة كتب منشورة منها: «سؤال الحكومة: بحث في تفكك النظم السياسية الحديثة» (1975م.)، «استقلال الأمم» (1981م.) «في زمن الأمريكان: روزفلت، آيزنهاور، مارشال، مكآرثر؛ الجيل الذي غيَّـر دور أمريكا في العالم» (1995م.)، وكتابه الأبرز والأكثر مبيعًا وشهرةً: «سلام ما بعده سلام» (1989م.). وهناك أيضًا آخر كتبه: «الملك وراعي البقر: تيودور روزفلت وإدوارد السابع؛ شركاء في السر» وهو الكتاب المنشور عام 2007م. [2]

وقد نُقل للعربية كتابه الأبرز والأفضل مبيعًا مرتين؛ وهو كتاب «a Peace to End all Peaces: creating the Modern middle east 1914-1922». المرة الأولى عام 1992م. تحت اسم «سلام ما بعده سلام»، وقد صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر بلندن [3]، وأما الثانية فهي تحت اسم:«نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط» عن دار عدنان ببغداد عام 2015م[4].


الشرق الأوسط وتحدي السرديات الشائعة

إن أهم ما يميز عمل «دايفيد فرومكين» المنشور في كتبه ومقالاته هو بحثه فيما يمكن أن يقال عنه هوامش التاريخ ودخائله. فهو ليس مؤرخًا يُجمِّـع الوقائع ويرتبها ثم يحاول أن يضعها منهجيًا للوصول إلى غاية محددة وحسب، بل هو يُعيد قراءة تلك الوقائع، أو بالأحرى السرديات المتداولة حول تلك الوقائع؛ كي يميز منها الدعاية من الواقع. ويبرز هذا بشكل واضح في كتابه المترجم «نهاية الدولة العثمانية»؛ ففي هذا الكتاب يحاول فرومكين أن يعيد تقديم وقائع لم يُنظر إليها بتفحص نظرًا لأنها ظلت حبيسة الأرشيفات لعقود طويلة؛ بهدف تقديم رؤية جديدة تُسلط الضوء على الكيفية التي تشكل بواسطتها الشرق الأوسط عقب سقوط الدولة العثمانية.

ووفقًا للدكتور «منذر الحايك»، فإن ما يمتاز به هذا العمل هو وضع الإصبع على الكيفية التي عمل بها رئيس الوزراء البريطاني «وينستُن تشرشل» تحديدًا لإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط لخدمة المصالح البريطانية عقب الحرب العالمية الأولى؛ فهذا الكتاب ليس حكاية صماء عن أن «بريطانيا استغلت وضع الإمبراطورية العثمانية من أجل مصالحها»، بل هو تحليل لمعظم الشخصيات والمصالح التي لعبت الدور الرئيس في ترسيم الشرق الأوسط وفي تكوين «وعد بلفور»؛ من هذه الشخصيات «لورنس العرب»، والملك «فيصل» والأمير «عبد الله»، كذلك دور الجمعيات العربية، إلى جانب توضيح العلاقات المتشابكة بين هؤلاء وغيرهم من جهة وبين القوى العظمى وعلى رأسها بريطانيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى تقديم رؤية مقارنة بين الدعاية الرسمية لهذه الشخصيات، وبين حقيقة تلك الشخصيات في أمر الواقع[5]. الأمر الذي يفتح الباب لرؤية دور العرب أنفسهم في تلك الحقبة المهمة؛ وهو ما يثير بدوره تساؤلات عن مدى فاعلية العرب في تاريخهم، ومن ثم في مستقبلهم.

وقد أوضح «الحايك» في قراءته لكتاب فرومكين أسباب الاهتمام بهذا الكتاب تحديدًا، وإعادة ترجمته بعد الربيع العربي حين نقل عن «توماس فرديمان» أن الشرق الأوسط حاليًا أصبح في لحظة «تشرشلية» جديدة، لكن هذه المرة المتحكمين هما الأمريكان والروس، والمقصود بذلك أن هناك معالم جديدة لإعادة ترسيم الشرق الأوسط واستغلال حالة التفكك التي أعقبت الثورات العربية كما فعل «تشرشل» من قبل أثناء وعقب انهيار الدولة العثمانية، كما بين «فرومكين» [6]. وفي مقال لـه عام 2005م. تحت عنوان «جدار الإيمان والتاريخ»، أوضح «فرومكين» أن هناك ملامح بدأت تتجلى من تحركات الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق «جورج بوش»، هذه الملامح تشير إلى وجود نية لإعادة ترسيم الشرق الأوسط، خاصة سوريا والعراق، من أجل خدمة مصالح أمريكا.

وقد لفت «فرومكين» في هذا المقال إلى أن وجود الإسلام في المنطقة العربية تحديدًا سيقف حائلًا دون أي مساعٍ غربية خالصة ومباشرة تسعى لتغيير الشرق الأوسط، وبالتالي فمن بيده إمكانية التغيير هم أبناء المنطقة وحدهم. وقد أشار د. «منذر» إلى أن «فرومكين» في هذا المقال تلمح إمكانية قيام ثورات عربية بأيدي شعوب المنطقة، لكنه أيضًا تلمح وجود مطامع ستسعى للعب من خلف الستار لخلق شرق أوسط «جديد»[7]. ومن هنا، فبمعرفة تاريخ تشكيل الشرق الأوسط القديم كما وضحه كتاب «فرومكين»، يمكن أن نقف على بعض الملامح العملية والمطامع المحركة للقوى العظمى بعد الثورات العربية.

إن ما تركه «دايفيد فرومكين» يعد عملًا مهمًا ويثير تساؤلات عدة؛ فهو وبشكل واضح يكشف تفاصيل ما يُسمى بالـ«مؤامرة» التي دأب العرب على تكرار أنها تُحاك بهم دون ذكرهم لتفاصيلها من جهة، ومن جهة أخرى هو يكشف أن تلك المؤامرة، المزعومة، ليست في حقيقتها إلا لعبة مصالح مدروسة بعناية يمكن تتبع جذورها وصولًا إلى لحظة انهيار الدولة العثمانية وبروز «تشرشل» مهندسًا لمنطقة الشرق الأوسط. إن عملًا كهذا جدير بالملاحظة والجدال حوله، خاصةً بعد ثورات الربيع العربي.


[1] Bu: Frederick S. Pardee, «R.I.P Prof. David Fromkin dies at 84», BU website, June 14, 2017[2] Ibid.[3] ديفيد فرومكين، «سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط 1914-1922»، ترجمة: أسعد إلياس، (لندن: دار رياض الريس للكتب والنشر، 1992)[4] ديفيد فرومكين، «نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط»، (بغداد: دار عدنان، الطبعة الأولى 2015)[5] د. منذر الحايك، «قراءة في الكتاب»، في: «نهاية الدولة العثمانية»، صـ 11-13[6] المصدر السابق، صـ 15[7] David Fromkin, «a wall of faith and history», New York Times, March 24, 2005