اختارت إدارة «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في دورته الثامنة والثلاثين، أن تفتتح فعاليات المهرجان بالفيلم المصري «يوم للستات». هذا الحدث يستحق التوقف لأن المهرجان منذ بدايته التاريخية وحتى اليوم وخلال كل هذه السنين لم يفتتحه فيلم مصري سوى في خمس مرات سابقة؛ ليصبح فيلم «يوم للستات» هو صاحب الرقم «ستة». الفيلم استغرق أيضًا، ولظروف متنوعة،6 سنوات من التصوير بدأت في عام 2010 وانتهت في عام 2016 [1]. في السطور القادمة نسرد ملاحظاتنا على الفيلم الذي أخرجته «كاملة أبو ذكري» عن قصة «هناء عطية» وأنتجته «إلهام شاهين» في ست نقاط.


حارة معتمة وحمام سباحة مضيء

يحكي الفيلم عن حارة شعبية مصرية بسيطة في أواخر عهد «حسني مبارك»، تظهر الحارة طوال الفيلم قاتمة وموحشة وموحلة، ويظهر هذا واضحًا من خلال مشهد متكرر لشخصيات الفيلم أثناء عبورها فوق بعض قطع الحجارة المتناثرة وسط بركة من المياه الموحلة التي تغطي أزقة الحارة طوال العام.

النساء بالطبع في هذا الزمان وهذا المكان لهم زي شبه موحد وهو «العباءة السوداء»، التي تتخذها نساء مصر كوسيلة للتخفي أكثر من كونها قطعة ملابس. يظهر بطل الفيلم في أول مشاهده وهو «حمام السباحة» الذي قررت الدولة إنشاءه في مركز الشباب الخاص بهذا الحي الفقير المتهالك، ويظهر أيضًا في الثلث الأول من الفيلم رد فعل أهل الحارة على هذا القرار، نرى هذا من خلال جمل يتناقلها أبطال الفيلم حول دخان «الحشيش»، أن قرار إنشاء حمام السباحة في هذا المكان والزمان جاء عبر شخص «عامل دماغ عالية أوي»، ليأتي الرد بأنهم في انتظار «أدمغة عالية» أخرى للتعليم والصحة وباقي أساسيات الحياة الغائبة في مصر.

يمثل حمام السباحة النقيض لكل ما تمثله الحارة، وهذا ما حاول صُناع الفيلم إبرازه طوال فترة الفيلم من خلال التناقض اللوني، فالحارة قاتمة ذات إضاءة خافتة يسيطر عليها السواد، وحمام السباحة مضيء ولامع ومليء بالألوان. وليكتمل التناقض نرى نساء الحارة ذوات الشعر المصبوغ بالأحمر والبرتقالي، والمتشحات بالسواد عادةً، وهن مجتمعات في يوم واحد مخصص لهن في حمام السباحة ليتبادلن الحكايات والضحكات والدموع. هذا التباين اللوني سانده اهتمام خاص من «كاملة أبو ذكري» بإظهار حمام السباحة وسعادة بطلاتها فيه من خلال كادرات طويلة وشاعرية وحالمة فوق الماء وتحت الماء، كل هذا أعطى للفيلم نقطة قوته الأبرز وهي الصورة.


حكايات نسائية صادقة

تظهر نساء «كاملة أبو ذكري» و«هناء عطية» بشكل غاية في الصدق لدرجة تجعلنا نظن أنهما استعانا بنساء حقيقيات يعشن في حارة شعبية حقيقية، لتظهر شخصيات الفيلم الرئيسية وهي تحاول جاهدةً أن تظهر طبيعية وسط هذه الأجواء، وتنجح «ناهد السباعي» التي قامت بدور «عزة» الفتاة الشعبية خفيفة الظل بشكل عبقري للغاية سنحلله لاحقًا.

تظهر «إلهام شاهين» التي قامت بدور «شامية» السيدة التي تخطت عمر الشباب وفقدت بريقه ورونقه، والتي تعمل «موديل» للرسم والرسم العاري في بعض الأحيان. وعلى الرغم من أداء «إلهام» الباهت في الثلث الأول من الفيلم، إلا أنها تصل في أحد مشاهدها لما يمكن أن نسميه بلحظة «التصديق»، لتفاجئ الجميع وتثبت نفسها كممثلة جيدة في هذا المشهد الذي تكشف فيه الشخصية التي أدتها عن مأساتها النفسية وكيف أنها فقدت جمالها واقتربت من نهاية العمر. ورغم سمعتها السيئة في الحارة نتيجة لعملها كـ«موديل» للرسم العاري، إلا أنها لا زالت عذراء، وهو المشهد الذي قد يشفع لها في ما تبقى من مشاهدها طوال الفيلم.

على جانب آخر ظهرت شخصيتان نسائيتان بمساحة محدودة ولكن بأداء جيد وصادق وملفت للنظر؛ وهما «هالة صدقي» في دور مدربة السباحة، والفنانة الكبيرة «رجاء حسين» في دور والدة «أحمد» الذي أدى دوره «محمود حميدة».

وتتبقى «نيللي كريم» التي ظهرت في دور «ليلى»، الأرملة الحزينة التي فقدت زوجها وابنها في حادث غرق عبارة «السلام» التي راح ضحيتها مئات المصريين العائدين من الأراضي المقدسة في عام 2006. وعلى غير العادة ظهرت نيللي كأضعف شخصيات الفيلم النسائية، ليس لضعف أدائها ولكن لأسباب تتعلق باكتفاء الجمهور من دور «السيدة الحزينة» الذي قدمته «نيللي» أكثر من مرة خلال العامين الماضيين. وربما يشفع لكاملة أبو ذكري اختيارها لنيللي في هذا الدور تأخر توقيت عرض الفيلم لدرجة جعلت هذا الدور الذي كان ربما يبدو جديدًا عليها في 2010 قديمًا ومكررًا للغاية في 2016.


حكايات نمطية

من فيلم يوم للستات

على جانب آخر تظهر شخصيات الفيلم من الرجال أضعف كثيرًا وأقل صدقًا وتصديقًا، لتصبح نقطة الضعف الرئيسية في هذا العمل، فتظهر الحوارات الثنائية – التي اعتمد عليها الفيلم بالأساس- سطحية ونمطية لم تصل لحد التصديق ولم تمس الجمهور فلم يصدقها.

نرى شخصية «إياد نصار» غريبة وغائبة عن أجواء الحارة رغم اجتهاده في إظهار عكس ذلك، ورغم تفصيلة الشخصية التي تظهره كعائد للحارة بعد رحلة سفر للخارج. ونرى شخصية «محمود حميدة» الحبيب الغائب والعائد من الخارج بدوافع ضعيفة المنطق، وتطور في الأحداث غير مبرر لدرجة يصل معها للبكاء في مشهد «كليشيهي» للغاية استدعى ضحك الجمهور بدلًا من شجنهم. وربما تكون شخصية «أحمد داوود» هي الأقل سوءًا وسط شخصيات الفيلم ولكنها تمسكت برؤية النساء للحبيب النمطي الذي تلمع عيناه كلما رأى محبوبته ويشاركها تحقيق أحلامها ولحظات جنونها.

لتتبقى شخصية «فاروق الفيشاوي» الذي نجا من فخ النمطية؛ ربما لأن شخصيته تواجدت في الفيلم كمجاملة لزميلته وصديقته المنتجة [2] كما ذكرت مخرجة الفيلم في حوارها بمجلة 7 أيام أن النجوم الكبار تواجدوا من أجل «إلهام شاهين». لم يظهر «فاروق الفيشاوي» في الفيلم إلا في مشاهد قليلة اقتنص فيها بعض لحظات الضحك بأداء صادق وغير مفتعل. وأخيرًا شخصية «الفتى المتدين المتطرف» السيئة والباهتة للغاية والتي أداها «أحمد الفيشاوى» لتصبح أسوأ شخصيات الفيلم بلا منازع والتي سنتطرق لها منفردة لاحقًا.


أفضل ما في الفيلم: «ناهد السباعي»

منذ أول مشاهد الفيلم وحتى نهايته والجميع يردد أن هذه الفتاة هي أفضل ما في الفيلم. عزة، الفتاة «خفيفة العقل» على حد التعبير الشعبي، التي تشبه بنات الحواري في كافة ربوع مصر، بوجه باسم يغطيه التراب، وطاقة زائدة تفرغها في جري وقفز بين صبيان الحارة وبناتها. تظهر «ناهد السباعي» في هذا الدور وكأنها تعيش حياتها الطبيعية وكأنها مولودة في هذه الحارة، تجري وتلعب وترقص فلا نلاحظ عليها مبالغة أو اصطناعًا.

تقتحم حمام السباحة بدايةً ثم تأخذ زمام المبادرة وتشتري «مايوه» وتلقي نفسها في الماء دون تفكير، ثم تصبح شريكة في قصة الحب الأكثر صدقًا وسط قصص كثيرة مفتعلة عرضها الفيلم. ربما لم تكن شخصية عزة هي الشخصية الأقوى «على الورق»، ولكن أداء «ناهد السباعي» ضمن لها أن تكون الشخصية الأفضل في هذا الفيلم بلا منازع.


أسوأ ما في الفيلم: «شخصية المتدين المتطرف»

تظهر الشخصية التي أداها «أحمد الفيشاوي» طوال مدة الفيلم بشكل واحد، وزي واحد، وملامح واحدة. شاب ملتحٍ متجهم وغاضب دون سبب، يرتدي قميصًا محكم الغلق حول رقبته وفوق رأسه «طاقيه شبيكة» قادمة من الهند أو جنوب شرق آسيا، ويبدو وكأن هذه الشخصية تم إضافتها إلى الفيلم عقب انتهائه، فلا مبرر لوجودها ولا يتأثر الفيلم بزوالها.

تستمر هذه الشخصية في إفساد المشاهد ثم تختفي بعد أزمة مفتعلة فلا تعود، وكأن صناع الفيلم قرروا التخلص منها بلا تفكير في حبكة وخاتمة منطقية. وهنا يظهر سؤال مُلح وهو «إلى متى؟»، إلى متى سيستمر التناول الدرامي لشخصية المتطرفين دينيًا في مجتمعنا المصري بهذا الشكل من السطحية والجمود؟، وإلى متى ستظهر هذه الشخصية بهذا الشكل الكاريكاتيري السخيف؟. ولا يسعنا سوى أن نذكر مرارًا وتكرارًا أنه لم يعد هناك أي متطرفين يرتدون «طاقية بيضا شبيكة» في مصر في هذا الزمان.


فكرة جميلة تستحق فيلمًا أكثر جمالًا

ناهد السباعي من فيلم يوم للستات

مجتمع متهالك وفاسد وحزين، تحمل نساؤه -للأسف- النصيب الأكبر من عقده ومشاكله، هذا هو المجتمع المصري في أواخر عهد مبارك وهذا هو الحال في لحظتنا الحالية، وهذا هو ما عبر عنه الفيلم دون حديث سياسي معقد ودون مغالطات أو تنظيرات سيختلف عليها الجميع. اختار الفيلم نقطة مضيئة وساخرة وسط سواد حياة نساء مصر، منحت لهم، على سبيل الصدفة، فحولوها لمجتمعهن الصغير الذي يتشاركن فيه الضحك والدموع والحلم بغدٍ أفضل. «حمام سباحة» ترمي فيه كل واحدة منهن همومها وأحزانها، ومساحة حرة يحاول الرجال -وإن كانوا مقهورين أيضًا- حرمانهن منها، فينظمن أنفسهن من أجل حمايتها ويحاربن الرجال بسيل من «ماء الغسيل» فوق رؤسهم. هذه الفكرة الجميلة ربما كان من الممكن أن تتحول لفيلم أكثر جمالاً مما شاهدناه، ولكنه في كل الأحوال تجربة تستحق المشاهدة والتفكير.

المراجع
  1. حوار كاملة أبو ذكري فى النسخة الورقية الاخيرة لمجلة 7 أيام