المصريون لم يتقبلوا الموت فعلًا، ولكنهم أيضًا لم يقصوه. فالموت وجد أمام أعينهم بالفعل في شكل متعدد، وعلى عكس ما يبدو لنا في شكل لا نقبله أيضًا. وفي الحضارة المصرية يمكن للمرء أن يلاحظ بشكل لا يوجد في أي حضارة أخرى، ما يسمى، عدم تقبل الموت، وكن في الوقت نفسه وضعه في مركز كل الحواس والسعي، والتفمير والتصرف، وجعله موضوعاً للتكوين الحضاري بطريقة متعددة. لقد كره المصريون الموت وأحبوا الحياة.
يان أسمان، الموت والعالم الآخر في مصر القديمة، ترجمة: محمود محمد قاسم

قد يبدو بديهيًا ربط الحضارة المصرية القديمة بالموت، فمعظم الآثار المصرية القديمة هي قبور وشواهد لها بداية من الأهرامات حتى مقابر الملوك الجماعية أو الفردية، لكن الموت لعب دورًا مختلفًا في الحضارة المصرية القديمة دور قد يكون مميزاً ومتفرداً لم تشهده حضارة من قبل، فالموت كان أحد المحركات الأساسية لبناء الحضارة في مصر القديمة وليس فقط شواهد القبور الباقية من عصورهم.

في كتابه الجديد «الموت والعالم الآخر في مصر القديمة»، يقدم عالم المصريات الألماني يان أسمان، أحد أشهر وأهم علماء المصريات في العالم، محاولة جديدة ومتفردة لفهم الموت كصانع للحضارة المصرية ويقارن الدور الذي يلعبه الموت في الحضارات بشكل عام وفي الحضارة المصرية بشكل خاص.

قدم أسمان في كتابه الضخم، المترجم عن الألمانية والصادر عن المركز القومي للترجمة، تصوره عن علاقة المصريين بالموت، كيف بدأت هذه العلاقة وكيف تختلف عن الحضارات الأخرى بشكل أساسي، فتصورات العالم عن الموت تشكل أساساً مهماً للغاية لفهم طبيعة كل حضارة، فتجنب الموت أو تجنب الحديث عنه إحدى المميزات الأساسية في الحضارة الغربية كمثال، فالحياة هي البدء والمنتهى بشكل أساسي، لا يعني ذلك أنه لا وجود للموت، بل ربما الموت هو الدافع وراء التقدم والشر الذي تحاول الحضارة الغربية المبنية على الثورة الصناعية صدها من خلال تطور آليات تجعل حياة الإنسان أسهل وأفضل ربما تجنب الموت في تلك الحالة يجعل الاستفادة القصوى من الحاضر هو كل الأمل الممكن فتكون الحضارة في المقابل حضارة باحثة عن رفاهية الإنسان في حياته الوحيدة التي سيعيشها، فيما لا يشغل الموت حيزًا كبيرًا في الحضارة الغربية.

بالمقابل نجد حضارات أخرى والتي تبنت الموت كامتداد للحياة نفسها وجزء منها، ووجدت هذه الحضارات في الشرق الأقصى بشكل أساسي، حيث ظهرت مفاهيم مثل استنساخ الأرواح تجعل الموت مجرد مرحلة مكملة للحياة نفسها لا تنتهي الحياة معه بشكل كامل بل تبدأ في صورة جديدة مما يجعل النظرة الكلية للحياة مختلفة جدًا عن التصور الغربي وهو ما يتبدأ فيما قد سُمي صدام الحضارات، فبناء الحضارات في الشرق الأقصى يختلف في زاوية التعاطي مع الموت عنه في الغرب.

قد ينتج عن تصور استنساخ الأرواح تعامل مختلف مع الحياة ومكوناتها، لا يمكن الجزم بالتأثير الكامل لهذه الأفكار، لكنها تعطي الحياة إجمالًا شكلًا مختلف عن الحياة المنتهية بالموت.

وفي حضارات الشرق الأقصى وبعض حضارات أمريكا الجنوبية وأستراليا تصور مختلف عن الموت يجعل من الموتى أنفسهم جزءاً من الحياة فتظهر احتفالات بالموتى يستقبل فيه الأحياء ذويهم في مناسبات خاصة توطد بشكل أساسي العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وتجعل العقد الاجتماعي بين أفراد المجتمع مبنياً على التقدير، فعلى عكس الحضارة الغربية جزئيًا قد لا يبقى الإنسان بعد وفاته إلا بما أنجزه من اختراعات أو مشروعات أو تطوير ما في مجال ما أو حتى مجهود فكري، فيما في تلك الحضارات يتوقف تذكر الميت على علاقاته الإنسانية بشكل أساسي مما يجعل من العلاقات الاجتماعية أولوية مختلفة.

في الحضارة المصرية نجد تفردًا في التعامل مع الموت، فالموت بالنسبة للقدماء المصريين كما يذكر أسمان تم تجنبه وتقديره في ذات الوقت، فالموت بداية صور كتمزيق للإنسان، فالقدماء المصريون يرون أن كل الموت عنيف، يسلب الروح من الإنسان ويمكن إدراك ذلك من الأسطورة الأساسية التي بني عليها الدين المصري القديم والمتعلقة بأوزوريس وست والتي سنسردها كمدخل لفهم علاقة المصريين بالموت.

الموت كممزّق للجسد (أوزوريس مثالًا)

يبدأ الكون عند آتوم هو الموجود قبل كل شيء وبعده، إله الوجود، هو صيغة مطلقة يأمر الأشياء أن تظهر فتظهر، والذي ظهر في انتقاله إلى الوجود في شكل إله الشمس رع، ثم أخرج شو وتفنوت ممثلًا الهواء والنور وجب ونوت، الأرض والسماء ومن جب إله الأرض ولد أوزوريس وست (ذكريْن) وإيزيس ونفتيس (أنثييْن) تزوج أوزوريس من أخته إيزيس وست من أخته نفتيس، لكن ست يقتل أوزوريس ويقطع جسده ويوزعه على مقاطعات مصر فتجمع إيزيس أشلاء زوجها وتلد منه حورس الذي يقتل ست انتقامًا لأبيه.

يتحول أوزوريس لحارس مملكة الموت، فهو أول المتوفين من البشر يرتفع للسماء فيسيطر على عالم الموتى كتعويض عن مملكته المفقودة في الأرض والتي تعطى بعده لابنه حورس، فيما يتحول ست لممثل الموت، فكل موت لأي مصري هو محاكاة لمقتل أوزوريس، وست هو الموت. ومن تلك الحكاية تكونت رؤية المصريين الأولى للموت كممزق للحياة بشقيها المادي والمعنوي، فأولًا الشق المادي في تقطيع أجزاء الميت (أوزوريس) والتي يقابلها في المراسم المصرية تقطيع المتوفى لاستخراج الأعضاء القابلة للفساد قبل تجميعها في الأواني الكانوبية وحفظها منفصلة عن الجسد، والتقطيع الآخر المعنوي هو خسارة الحياة ومملكة الأرض التي خسرها أوزوريس ملك مصر في الأسطورة والتي يقابلها خسارة الحياة.

ومن هذا الفكرة تكون لدى المصريين اهتمام بشقين في الحياة وشقين بعد الموت، في الحياة أولًا، يجب أن يتم تحنيط الجسد للاحتفاظ به سليمًا ليتمكن من خوض غمار رحلته في مملكة الموتى كما فعلت إيزيس مع أوزوريس، وفي الحياة أيضًا يجب أن تنتقل سلطة الأب لابنه، فهو امتداده في الحياة، ويمكن أن نجد عشرات النصوص التي كتبت بحس أدبي ممتاز ينعي فيها الأبناء آباءهم ويعدونهم أن تبقى آثارهم في الدنيا كما فعل حورس مع أوزوريس.

وفي الموت يمر المتوفى بمرحلة أولى هي ارتفاع روحه لمملكة الموتى والتي تتطلب التحنيط وتحرير الروح لتبدأ الرحلة، والثاني، هو محاكمة المتوفى الذي يدافع عن نفسه كما دافع أوزوريس عن نفسه ضد ست في المحكمة الأسطورية التي انتهت بتقليد حورس ملكًا على مصر وأوزوريس نفسه ملكًا على عالم الموتى.

يمكن أن نرى في نصوص الخروج للنهار أو المعروفة بكتاب الموتى دليلاً آخر على الدور الذي لعبه الموت في حياة المصريين القدماء الأساسية، فمحكمة الموتى التي تتكون من آلهة متعددة لا تحاكم المتوفى بقدر ما تنتظر منه أن يبريء نفسه أمام الآلهة والتي تزن كل كلمة وفعل منه أمام ريشة ماعت إله الحقيقة والعدل، وكما ظهر في بردية آني الشهيرة، وجد 42 فعلاً منفيين يذكر المتوفى أنه لم يرتكبها، ولا يتوقف الأمر عند هذه النقطة، فشعائر الديانة المصرية تؤكد اقتراف الكل الذنوب وضرورة محاسبتهم على ذلك لكنها تعد من كفر عن ذنوبه بحياة أخرى بعد تجاوز المحاكمة.

وفي الحياة الأخرى، نجد تفردًا مصريًا في تلك الفترة البدائية من تكون الديانات، فالحياة الأخرى، تختلف عن الحياة الأساسية للإنسان فهي حياة يرتفع معها لعالم الآلهة بشكل أساسي ولا يفقد معها ارتباطه بالأرض طالما بقيت أعماله فيها.

البقاء على الأرض بعد الموت

ويختلف مفهوم الإرث الأرضي بعد الموت في الحضارة المصرية القديمة عن غيرها، فكما الأسطورة تكون البداية مع وجود ابن يحيي ذكرى الأب، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمقابر المصريين بنيت مقسمه لنصفين، الأول، مدفون في الأرض يوضع فيه جسد المتوفى، وفي الأعلى بناء للأهل والأصدقاء ليزوروه ويتذكروه بشكل أساسي فيبقى اسمه في الأرض دومًا، ومن هذا المنطلق بنيت العلاقات الإنسانية المصرية، فلتبقى في الأرض يجب أن تجد من يذكرك بعد وفاتك وإلا تمزق جسدك الاجتماعي مرة جديدة بعد تمزق جسدك الأرضي في رحلته للصعود للسماء.

وتظهر في عدة برديات مصرية ومتون الأهرام بعد اللعنات التي صبت ضد من يعادي الملك كان أهمها بالنسبة لموضوعنا هو عدم ذكر اسمه أو اسم عائلته، وهو قتل للحيز الاجتماعي للإنسان، فعل يراه المصريون عقاباً بالغ الشدة تنتهي معه حياة الإنسان عندها بموته فعلًا.

الموت كصانع للحضارة

حثّت التعاليم المصرية الدينية على العمل وإنشاء الشواهد ليبقى أثر الإنسان على الأرض وهو ما يفسر حجم الآثار التي بقت من حضارة المصريين، لكن كل أعمالهم أيضًا كانت آثاراً لهم في الدنيا، فطبقًا لمفاهيم العدالة التي سيطرت على أغلبية الديانة المصرية فمراعاة الحيوانات وحسن معاملاتها وحسن معامله الإنسان والجار والزوجة تسهل من رحلة الإنسان في مملكة الموتى وتجعله مقبولاً بين الآلهة فيما العكس يقضي على فرصة في المرور وتنتهي ذكراه على الأرض ويرفض في السماء.

وفي النهاية، يمكن أن نلخص ما تلمسه أسمان في كتابه الوضع المتفرد للموت في الحضارة المصرية كفاعل مزدوج في حياة المصري وموته، ففي حياته يعيش محاولًا تجنب الموت فلا يذكر في الحياة اليومية بكثافة بل بقيض وامتعاض، لكنه في الوقت نفسه محرك أساسي لحياة الإنسان يدفعه للعمل حتى يترك ذكرى يخلد بها في الأرض ويدفعه للإحسان في التصرف حتى يُقبل في النهاية مع آلهة السماء.