العشاء اليوم هو عشاؤك الأخير، اطلب ما تشتهي.

في غرفة ضيقة تكتسي بالظلام، يجلس على الأرض مقرفصًا في حسرة بانتظار الموت. ما هي إلا ساعات قلائل وتنتهي حياته، يتذكر ما فات من عمره، فتمر محطات حياته أمامه كأنها شريط سينمائي شديد البطء… الساعات كأنها سنوات طوال والدقائق كأنها شهور.

يخبره حارس السجن أن بإمكانه أن يتناول وجبته الأخيرة وفق رغبته، لكنه يرفض؛ لأنه يعلم أن الأمرين سيان. فلا الطعام قادر على أن يمنحه الحياة ولا الجوع قادر على أن ينهي حياته بصورة طبيعية دون أن يمر بتجربة الإعدام القاسية.

تجربة مرعبة بكل تفاصيلها، حتى أن انتظار تنفيذ الحكم نفسه هو قتل من نوع آخر، قتل بالبطيء. قد يظل المحكوم عليه بالإعدام منتظرًا في طابور الإعدام سنوات كي يأتي دوره، حتى أن البعض قد يقرر إنهاء حياته بنفسه ويجد في ذلك القرار رحمة له من الموت مرتين؛ تارة بانتظار الموت المؤكد وتارة أخرى وقت تنفيذ الحكم. وما إن يأتي موعد التنفيذ، يسير البعض في استسلام عجيب للموت، والبعض الآخر يظل متشبثًا للحظة الأخيرة بالحياة، يصرخ حتى يظن أن هناك من بيده رحمته أو أن ثمة معجزة إلهية قد تحدث فتنجيه من الموت وتقلب الموازين.


تاريخ تطور عقوبة الإعدام

غلب على سلوك الإنسان منذ القدم طابع العنف، فكانت القوة العامل الرئيسي على مدى العصور. إذ تميز المجتمع البدائي بالانتقام الفردي واستخدام القوة حتى ساد مبدأ القصاص في المجتمعات القديمة، وظلت عقوبة الإعدام تتطور بين القوانين الوضعية القديمة وما جاءت به الشرائع السماوية، وكانت أشهر تلك القوانين:

1. قانون حمورابي

يعد من أشهر القوانين القديمة المسجلة في التاريخ والتي سنّها الملك البابلي حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وقد ذُكرت عقوبة الإعدام في ذلك القانون في 31 موضعًا. نصت تلك المواد على معاقبة الشخص بالإعدام إذا اتهم بقتل غيره، أو اُتهم بممارسة السحر أو اعتدى على مال الغير؛ إذ كان الاعتداء على المال حينها أجدر بالحماية من الاعتداء على الروح. وكان يعاقب بالموت كذلك من وُجد متلبسًا بالسرقة وقاطع الطريق الذي يسلب الناس ويسرق ما لديهم تحت تهديد السلاح. كذلك المتهم بخطف الأطفال ومن يساعد العبيد أو الإماء على الهرب من بوابة المدينة. علاوة على من يُطفف في الكيل والميزان ومن يشرع في السرقة ويمهد لها حتى وإن لم يقم بالفعل ذاته، ومن ضرب الحامل وتسبب في إسقاط جنينها.

2. القانون الآشوري

عُثر على ألواح طينية كتبت عليها مواد قانونية ترجع إلى العصر الآشوري القديم والوسيط، ومن ضمن ما وجد فيها كان إقرارًا لعقوبة الإعدام لكل من دخل منازل الغير وقتل فيها رجلاً أو امرأة، وكان ممكنًا حينها أن يتم تبديل عقوبة الإعدام بإلزام الجاني بالتعويض أو أن يُؤخذ أحد أبنائه أو بناته في حالة موافقة أهل المجني عليه على ذلك، كما يعاقب بالإعدام الزاني والزانية في حال ثبوت ذلك. أما في حالة عدم اليقين كان يُحتكم إلى النهر بإلقاء الرجل فيه، فإن خرج فهو بريء وإن غرق فهو جزاؤه. وفُرضت العقوبة كذلك على الساحر والساحرة بعد ثبوت التهمة عليهما، وكذلك من يضرب امراة حامل ويُجهضها.

3. قانون مصر الفرعونية

كانت تنفذ عقوبة الإعدام في مصر القديمة في القرن 32 قبل الميلاد بطريقة شديدة الوحشية، من خلال تقطيع أوصال المحكوم عليه بالإعدام وإشعال النار فيه حيًا. أما المرأة الحامل التي ترتكب جريمة أثناء حملها فكان لا يتم إعدامها حتى تضع مولودها. وكان يُعاقب بالموت في ذلك القانون على جرائم قتل الحيوانات المقدسة والسحر وتدبير المؤامرات ضد فرعون، وكذلك جرائم الخطف المقترفة من قبل المصريين دون الأجانب، علاوة على جريمة شهادة الزور إذا ما تسببت في إعدام شخص بريء.

4. القانون اليوناني

أرسطو عن قانون دراكون

كان مصدر العدالة عند اليونانيين هو القانون الطبيعي، ومن أشهر القوانين اليونانية القديمة هما قانوني دراكون وصولون. وقد سمي قانون دراكون بذلك الاسم نسبة إلى دراكون أحد حكام أثينا عام 620 قبل الميلاد. عُرف ذلك القانون بالغلظة حتى أن العقاب بالإعدام كان يُنفذ إذا توفر الركن المعنوي لارتكاب الجريمة حتى وإن لم يشرع فيها سوى أنه نوى فقط. وقد تميز ذلك القانون بالقسوة والشدة وعدم تطبيق العدالة، حتى جاء حكم صولون في أثينا في بداية القرن السادس قبل الميلاد، وامتازت إصلاحاته بالاعتدال ومراعاة القانون الطبيعي وتخفيف العقوبات عن أبناء المجتمع الأثيني.

5. القانون الروماني

في مرحلة القانون الطبيعي، اشتهر الرومان بقانون الألواح الاثني عشر، وكان ذلك القانون عبارة عن مجموعة قانونية واحدة يسيرون وفقها، وقد احتوى على مائة مادة مختصرة عالجت مواضيع محددة.

وقد كانت اللوحات الثامنة والتاسعة والعاشرة خاصة بنظام الجرائم والعقوبات والتي أقرت بعقوبة الإعدام على بعض الجرائم؛ كجريمة السحر التي تتسبب في هلاك للشخص سواء روحه أو ماله. كما عرف ذلك القانون مبدأ القصاص في حالة الإيذاء أو القتل، فالقاتل يجب أن يُقتل، كما أن من حرق الغير يُحرق حيًا، وفي الجرائم الخاصة يُباح للزوج قتل زوجته الزانية. وقد اتسع نطاق تطبيق عقوبة الإعدام ليشمل في بعض الأحيان المسائل المدنية كالسماح بقتل المدين.

أما في مرحلة القانون العلمي (يبدأ من نهاية العصر الجمهوري إلى بداية ولاية أغسطس عام 27 ق.م)، ظلت عقوبة الإعدام موجودة إلا أن الدولة باتت هي المسئولة عن تنزيل العقاب وتنفيذه بدافع سياسي لا ديني، من أجل المحافظة على المصلحة العامة.


طرق تنفيذ الإعدام «غير الرحيمة»

بين طرق رحيمة وطرق في غاية القسوة والضراوة، ظل ينفذ حكم الإعدام لقرون عديدة على مرأى ومسمع من الجميع. طرق غريبة وغير آدمية مارسها أولو الأمر على مدار حقب وفترات طويلة من التاريخ في سبيل تنفيذ حكم الإعدام.

ففي بلاد فارس القديمة، كان المحكوم عليه بالإعدام يوضع بين قاربين بمجاديف أحدهما أعلاه والآخر أسفله ويتدلى منهما ذراعاه وساقاه وقد غُطت بالعسل واللبن ويترك حتى تأكله الفئران. وفي جنوب شرق آسيا، ظلت وسيلة سحق الفيلة هي الطريقة الأساسية لإنفاذ حكم الإعدام على مدار أربعة آلاف عام، فقد كان الشخص المحكوم عليه بالإعدام ينام على صخرة حتى يقف الفيل عليه بقدميه الأماميتين فتنكسر عظامه ورأسه فيموت على الفور، وقد استبدلت تلك العقوبة بعد ذلك بوضع صخور ضخمة على صدر الشخص لتكتم أنفاسه فيموت. وفي القرن الرابع عشر، كانت تُدرب الفيلة في الهند على تقطيع السجناء إربًا بنصال حادة كانت تُثبَّت في أسنانها.

وفي القرون الوسطى حتى مطلع القرن التاسع عشر، انتشرت عقوبة «عجلة كاثرين» التي استخدمتها اليونان القديمة وتناقلتها فرنسا وروسيا وألمانيا والسويد. كانت تلك العجلات عبارة عن عجلات خشبية يُمدد فيها المتهم على أسلاك العجلة وتفرد أطرافه عليها ثم يطحن كل جزء من المتهم بواسطة مطرقة أو قضيب حديدي كبير ويترك بعد أن تحول إلى قطع صغيرة.

وفي أواخر عام 1939، استخدم النازيون الغاز السام لأغراض القتل الجماعي لقتل المرضى المصابين بأمراض عقلية وذوي الإعاقات البدنية باعتبارهم لا يستحقون الحياة وفقًا للنازية. وقد استلهمت الولايات المتحدة تلك الطريقة من ألمانيا النازية، وذلك بوضع المتهم في غرفة محكمة الإغلاق مزودة بنظام لضخ الغاز السام مثل النيتروجين أو الهيليوم حتى يموت مختنقًا. إلا أن تلك الطريقة أثبتت فشلها لإضرار المحكوم عليه بالإعدام وقتًا طويلاً، نظرًا لمقاومته الشديدة ومحاولته كتم أنفاسه.

وقد استخدمت بعض الولايات الأمريكية بعد ذلك وإلى الآن، الكرسي الكهربائي كوسيلة لتنفذ حكم الإعدام، وذلك بأن يُثبت الشخص على كرسي ويوصل جسمه بمجسات للكهرباء فيُصعق بقوة 2000 فولت لمدة 15 ثانية حتى يتوقف قلبه عن العمل، وتصل حرارة جسمه فيها إلى 60 درجة مئوية، مما يؤدي ذلك إلى تهتك شديد في أعضائه الداخلية، ويوضع شريط لاصق على عيون المدان حتى لا تطير من مكانها أثناء عملية تنفيذ حكم الإعدام.


هل بات إلغاء عقوبة الإعدام من العالم ممكنًا؟

ليس فيه شيء خاص ولا خالد… إلا القوة المتناهية وتغليظ العقوبة.

لا تزال عقوبة الإعدام موجودة رغم كل المحاولات الدولية لإلغائها. ولا يزال الجدل حول ضرورة إلغائها من عدمه مُثارًا، خاصة عندما ينفذ حكم الإعدام على أحد المشاهير، أو على متهمين في قضايا رأي عام.

هناك من يعتبرها عقوبة غير إنسانية ووحشية لا مبرر لها وأن الخطأ في تنفيذها ليس من الممكن إصلاحه؛ لأن براءة المتهم قد تظهر بعد فوات الأوان. كما يظنها البعض وسيلة انتقام من الدولة تجاه أبنائها وأن حكم الإعدام هو جريمة مماثلة وموازية لجرائم القتل الأخرى التي يُحاكم عليها المُدان، لكن الفرق أنها تُنفذ بيد السلطات في الدولة والتي ليس بيد أحد مراجعتها ومحاسبتها.

وعلى الجانب الآخر، يدافع الكثيرون عن عقوبة الإعدام من منطلق أنها عقوبة ضرورية لاستقرار المجتمع وردع المجرمين ومنعهم من ارتكاب جرائم شنيعة كالقتل والاغتصاب. وأن تلك العقوبة إذا ما ألغيت فإنه في ذلك دمار للمجتمع وزيادة لنسبة الجرائم لغياب الرادع، وأن الدولة تدعم الاستقرار وتحافظ على أمن المجتمع بتلك العقوبة. لكن المهاجمين يردون على تلك النقطة، بأن الإعدام لا يمتلك قوة الردع ولا يقلل من عدد الجرائم، بدليل أن الجرائم التي يُعاقب عليها القانون بالإعدام لا تزال موجودة، بل ومنتشرة في تلك الدول التي تطبق العقوبة.

وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة وجهة النظر الرافضة لحكم الإعدام وسعت إلى مواجهته، ومن ثَمَّ وافقت على قرارات غير ملزمة تدعو إلى وضع حد نهائي لقرارات إنهاء الحياة من خلال المحاكم في الأعوام 2007 و2008 و2010 و2012 و2014. وعلى الرغم من إلغاء حكم الإعدام في العديد من دول العالم إلا أن 60% من سكان الكوكب لا يزالون يعيشون في دول تطبق العقوبة وتتمسك بها، وعلى رأس تلك الدول الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية وإندونيسيا وباكستان وبنغلاديش واليابان وسيرلانكا. ووفق تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في عام 2017، فإن العدد الإجمالي للدول التي ألغت العقوبة في قانونها أو لا تطبقها في الواقع الفعلي وصل إلى 142 دولة أي ما يزيد عن ثلثي دول العالم.

بيد أن عقوبة الإعدام في العالم تشهد انخفاضًا رصده تقرير أخير صدر عن منظمة العفو الدولية في 10 إبريل/نيسان 2019، إذ سجلت المنظمة حوالي 690 عملية إعدام في 20 دولة خلال عام 2018، بنسبة انخفاض بلغت 31% مقارنة بعام 2017 الذي نُفذ فيه ما لا يقل عن 993 عملية إعدام.

معظم الإعدامات التي نُفذت في عام 2018 كانت في الصين وإيران والمملكة العربية السعودية وفيتنام والعراق على الترتيب. ولا تزال الصين تتربع على عرش الدول المنفذة لعمليات الإعدام في العالم والتي لا تُصرح فعليًا بالعدد الحقيقي لعمليات الإعدام، إذ تعتبره سرًا من أسرار الدولة، وبالتالي فإن ذلك الرقم -690- لا يشتمل على آلاف الإعدامات التي تنفذها الصين.

ووفق التقرير، فإنه بنهاية عام 2018، كان حوالي 106 دولة قد ألغت عقوبة الإعدام في قانونها بالنسبة لجميع الجرائم؛ ومنها: فرنسا، ألمانيا، اليونان، جنوب أفريقيا، إسبانيا، السويد، سويسرا، تركيا والمملكة المتحدة. كما ألغت 142 دولة عقوبة الإعدام في القانون أو لا تطبقها في الواقع الفعلي. كما شهدت أعداد عمليات الإعدام المسجلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفاضًا بنسبة 41%، من واقع 847 عملية إعدام في عام 2017 إلى 501 عملية في عام 2018. كما انخفض تنفيذ حكم الإعدام إلى النصف في خمس دول وهم: مصر، وإيران، والعراق، والمملكة العربية السعودية، واليمن.

لكن بالرغم من ذلك الاتخفاض في الأعداد، إلا أنه من الصعب القول بإمكانية إلغاء حكم الإعدام من العالم بأسره، لأن هناك أنظمة سياسية تعتمد بشكل أساسي في تثبيت دعائم حكمها على تلك العقوبة لردع المعارضين.

المراجع
  1. التقرير العالمي لمنظمة العفو الدولي، أحكام الإعدام وما نفذ من أحكام في2017، منظم العفو الدولية، ص ص60-61