منذ عامين، وتحديدًا في الثلاثين من يونيو/حزيران من العام 2015، ألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي كلمة في تشييع جثمان النائب العام السابق هشام بركات، بعد مصرعه في حادثة الاغتيال الأشهر في مصر في التاسع والعشرين من يونيو 2015، تحدث السيسي في كلمته في اليوم التالي للحادثة وقبل تشييع الجثمان عن الوقوف ضد الإرهاب وتعديل القوانين بما يسمح بسرعة تطبيق العدالة الناجزة، وكان نص كلمته بهذا الشأن:

ايد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين، واحنا مش هنستنا على ده، احنا هنعدل القوانين اللي هتخلينا ننفذ القانون والعدالة في أسرع وقت ممكن

وفي اليوم نفسه وجه السيسي حديثه للقضاة: «احنا سيبنا الأمر عندكم، بقالنا سنتين سايبين الأمر عندكم، والناس في مصر كلها بتقول وأنا بقول ننفذ القانون وهنفذ القانون، احنا عايزين المحاكم والقوانين الناجزة العادلة»، فما يكون معنى العدالة؟ وكيف يمكن تحقيقها بدون وجود قوانين تستوفي شروط المحاكمة العادلة بكل خطواتها بما يسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه وإعطائه حقوقه كاملة تطبيقًا للمبدأ القانوني «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»؟

وكيف يمكن التوفيق بين العدالة والإنجاز، خاصة أن السيسي خلال كلمته تحدث عن أحكام بالإعدام والمؤبد؟ وهل يتحدث السيسي هنا عما تفعله الدول أو أشباهها أم يتحدث عن الانتقام؟ أم كان خطابًا سياسيًّا بحتًا؟ فلندع الأيام تتحدث.


أحكام الإعدام بين 3 يوليو/تموز 2013 وديسمبر/كانون الأول 2016

الآن، وبعد عامين تشهد مصر موجة كبيرة وغير مسبوقة من أحكام الإعدام، فبحسب تقرير التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، والذي صدر بعنوان «الحصار .. حقوق الإنسان في مصر 2016»، فإنه في الفترة بين 3 يوليو/تموز 2013، ونهاية ديسمبر/كانون الأول 2016 شُكِّلت 44 قضية، بينها 10 قضايا عسكرية و34 قضية مدنية، صدرت فيها قرارات إحالة للمفتي أو أحكام بالإعدام.

وتضمنت هذه القضايا 1834 قرارًا بإحالة الأوراق إلى المفتي، وهي مرحلة تسبق النطق بحكم الإعدام، ويعتبر رأيه استشاريًّا، للمحكمة أن تأخذ به أو لا، ثم صدرت أحكام بإعدام 790 مواطنًا، معظم هذه الأحكام كانت في الفترة من أواخر العام 2015 وعام 2016، وفي خلال العام الحالي حُكِم على 52 شخصًا بالإعدام في ثلاث قضايا؛ منهم 30 في قضية النائب العام أُحيلت أوراقهم لمفتي الجمهورية.

كما حُكِم نهائيًّا هذا العام على 23 شخصًا بالإعدام بعد رفض محكمة النقض الطعن المقدم من المحكوم عليهم في قضايا مدنية، ورفض محكمة الطعون العسكرية النقض المقدم من المحكوم عليهم في قضايا عسكرية، وهي قضية واحدة، حيث أصبحت هذه الأحكام غير قابلة للطعن فيها، ومن الممكن تنفيذ الحكم في أي لحظة بعد مرور مدة السماح القانونية الأربعة عشر يومًا لرئيس الجمهورية في العفو أو الاستبدال بالعقوبة أخرى سالبة للحرية.


مراحل المحاكمة: هل كانت قانونية؟

ربما يعجزنا الواقع الآن أن نحصي هذه القضايا وننظرها، وذلك بما يتيحه لنا القانون المطبق باسمنا كمواطنين، فيما أسماه فقهاء القانون بمبدأ الرقابة الشعبية، لذلك قرر المشرع مبدأ علانية الجلسات، وكلاهما من مبادئ وشروط المحاكمة العادلة التي نص عليها القانون ضمانًا لسير منظومة العدالة في الطريق الصحيح، بما يتيح للمتهم أن يدافع عن نفسه ويتيح للمجني عليه أن يستوفي حقه كما قرر القانون، وهذا ما يصنع الفرق دائمًا بين الدول والجماعات البدائية والإرهابية.

ولكن يمكننا هنا أن نسرد بعض النقاط المشتركة بين هذه القضايا، وخاصة المحكوم فيها بالإعدام نهائيًّا، وذلك في كل مرحلة من مراحل المحاكمة القانونية بداية من الضبط والإحضار، مرورًا بالتحقيقات المسئولة عنها النيابة العامة، ثم الحكم ومراحل الطعن عليه أمام المحاكم المختلفة؛ ليسعنا أن نقرر إن كانت هذه الأحكام تعبر حقيقة عن هذا القانون الذي يحكمنا جميعًا، وإن كان بعضه صدر سريعًا بدون مراجعة بالمخالفة لبعض أحكام الدستور والمبادئ التشريعية العامة، كما يمكننا وقتها أن نفهم معنى العدالة الناجزة التي أشار إليها السيسي.

1. الضبط والإحضار

ففي مرحلة الضبط والإحضار نجد أن جميع المتهمين تعرضوا للقبض بدون إذن سابق من النيابة، مما يخالف نص قانون الإجراءات الجنائية، وقبل عرضهم على النيابة أُخفوا قسريًّا لفترات متفاوتة بين أسبوع و6 أشهر بالمخالفة للدستور وقانون الإجراءات الذي فرض عرض المتهم على النيابة قبل مرور 24 ساعة، ومخالفة لنص الدستور والمواثيق الدولية التي اعتبرت هذا العمل جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

فمثال ذلك؛ في القضية المعروفة إعلاميًّا بتفجير استاد كفر الشيخ، والمحكوم فيها نهائيًّا على أربعة بالإعدام، قُبِض عليهم وأُخفوا قسريًّا لمدد تتراوح بين 70 و80 يومًا، منهم من كان محتجزًا لدى الأمن الوطني من قبل تاريخ الحادثة.

كما نجد أيضًا المتهمين في قضية قتل حارس المنصورة والمحكوم فيها بالإعدام نهائيًّا على 6 متهمين تعرضوا للاختفاء القسري الذي وصل لثلاثة أشهر، من بينهم المهندس باسم محسن، الذي اعتقد ذووه أنه مات بعد اختفائه طوال هذه المدة.

لم تسلم هذه المرحلة من الانتهاكات القانونية عند هذا الحد فقط، بل وصل الأمر لتعرض المتهمين لعمليات تعذيب بشعة، وصلت لحد الانتهاك الجنسي بإدخال عصا في المؤخرة، كما حكى المتهم خالد عسكر المحكوم عليه في قضية قتل الحارس، وكما حكى أيضًا المتهمون جميعًا في قضية قتل النائب العام أمام المحكمة، وفي القضية نفسها ذكر أحد المتهمين تهديده بجلب زوجته واغتصابها، وهذا أيضًا يبطل كل إجراءات الضبط بحق المتهمين، ويجعل أي اعتراف مرفوضًا بسبب خروجه تحت الإكراه بالتعذيب أو التهديد، بل تعرض الضباط العاملين على الضبط للمسئولية القانونية.

2. التحقيق مع المتهم

أما في مرحلة التحقيق التي تتولاها النيابة المختصة فقد تعرض المتهمون لما ينقص من حقوقهم المكفولة قانونًا، حيث يصل المتهمون في التحقيق المبدئي في نيابة أمن الدولة العليا مغمَّاة أعينهم، ويُحقَّق معهم التحقيق المبدئي بدون وجود محامٍ.

كما أن بعض المتهمين بعد وصولهم إلى النيابة وعدم إدلائهم بالاعترافات يُرْجَعون للأمن الوطني مرة أخرى، مثل ما حدث مع المتهم أحمد الديجوي المحالة أوراقه للمفتي في قضية اغتيال النائب العام تمهيدًا للحكم بإعدامه، أيضًا تجاهلت النيابة كل آثار التعذيب الواضحة على المتهمين، ورفضت طلبهم وطلب الدفاع بالعرض على الطب الشرعي.

كما أن المتهمين مُنعوا من مقابلة محاميهم طوال فترة التحقيق حتى داخل مقر النيابة، حيث اعتمدت النيابة في قرارات الإحالة على الاعترافات المأخوذة من بعض المتهمين تحت التعذيب، واستدلت أيضًا بمحاضر تحريات الأمن الوطني والمطعون فيها بالخصومة مع المتهمين؛ بما ثبت من محاضر وبلاغات اختفائهم قسريًّا، كما أنها غير ملزمة ولا تعبر إلا عن رأي كاتبها حسبما أوضحت محكمة النقض.

3. المحاكمة

وفي مرحلة المحاكمة يستمر التعنت تجاه المتهمين، حيث مُنعوا من مقابلة محاميهم أيضًا، ورفضت النيابة إعطاء أوراق القضية للمحامين للاطلاع عليها، كما تعرض المتهمون للتضييق داخل السجن، ومُنِعوا من حقهم في الزيارة من أسرهم.

لم تلتفت المحكمة إلى شكاوى المتهمين عن الاختفاء والتعذيب، بل غضب أحد قضاة محكمة الجنايات على أحد المتهمين في قضية اغتيال النائب العام حال حديثه عن الانتهاكات التي تمت بحقه، ولم تكن هناك أدلة واضحة أمام المحكمة على ارتكاب المتهمين الجريمة سوى الاعترافات المصورة تحت التعذيب لبعضهم، مثل ما حدث في قضية تفجير استاد كفر الشيخ، فلم يوجد اعتراف إلا لمتهم واحد، وحُكِم على الأربعة بالإعدام.

وفي القضية نفسها نجد أن المحكمة تجاهلت أدلة البراءة للمتهمين، كما حدث مع المتهم «فكيه عبد اللطيف» الذي يعمل مدرس علوم، وثبت وجوده في المدرسة وقت الحادثة، وتحريات الأمن الوطني تقول إنه كان موجودًا في مكان الحادثة، وفي قضية المنصورة التي تشير كل الأدلة فيها إلى عدم معقولية الاتهامات وضعف أدلة الاتهام لحد العدم.

وفي قضية اغتيال النائب العام تناست المحكمة مناظرة المتهمين لتكتشف بعد أكثر من سنة من المحاكمة أن المتهم رقم 17، جمال خيري، كفيف لا يرى منذ الولادة ومتهم بتدريب عناصر إرهابية.

كما أن هناك 10 قضايا حكم فيها بالإعدام من قبل القضاء العسكري مع أن المتهمين جميعهم مدنيون، وهو قضاء غير عادي، ولا يتمتع المتهم فيه بأي ضمانات للمحاكمة المدنية العادلة، كما أن القاضي العسكري لا يشترط فيه دراسة القانون، ومما يضعف قدرته أيضًا أن التبعية للقضاء العسكري تكون لوزارة الدفاع، وهي جزء من السلطة التنفيذية وليست جهة محايدة ومستقلة.

وغيرها من الأدلة والمخالفات التي تشكك بشكل أساسي في كل الأحكام الصادرة تجاههم.


العدالة الناجزة عند السيسي

يحكى أنه ذات مرة أحل إمبراطور روماني السلام في مقاطعة ثائرة بقتل كل المواطنين الساكنين فيها، حتى أن الرومانيين أنفسهم صُدموا، أحدهم قال:

خلق منطقة مهجورة وسمى ذلك سلامًا

الآن بحقائق الدولة وأرقامها لا يوجد في تطبيق «العدالة الناجزة» التي أشار إليها السيسي منذ عامين إلا خلق منطقة مهجورة بإسقاط للقيم والمبادئ الدستورية، والتعدي على السلطات، وتزييف الحقائق، وتسمية ذلك محاربة للإرهاب.

ففي الوقت الذي يجلس فيه هؤلاء المشكوك في إدانتهم وذووهم ينتظرون تنفيذ حكم بالقتل عليهم، مازال المجرم حرًّا طليقًا، لا أتخوف الآن على هؤلاء فقط، بل أتخوف علينا جميعًا، على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا ومستقبل هذا البلد، أخاف أن يدون التاريخ ويسطر لأحفادنا فيما بعد عبارة «قتلوا وهم صامتون».