محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2016/10/27
الكاتب
David Sessions
في 6 أيلول/سبتمبر 2016، صدرت طبعة منقَّحة من كتاب «العقل المتهوِّر: المثقفون في السياسة» لأستاذ الإنسانيات بجامعة كولومبيا، مارك ليلا (كان الكتاب قد صدر أول مرة عام 2001)، كما صدر كتابه «العقل المنكوب: عن الرجعية السياسية». في هذه المقالة (عنوانها الأصلي هو: العقل الانكماشي The Deflationary Mind)، يُقدِّم ديفيد سيشنز، وهو طالب دكتوراه في التاريخ الثقافي الأوروبي الحديث بجامعة بوسطن، مراجعةً نقدية للكتابين.
المترجِم (يُشار إليه لاحقًا بـ [م])

قرَّر بعضٌ من أبرز الشُرَّاح الأنغلو-أمريكيين للتاريخ الثقافي الأوروبي، خلال التسعينيات، أنه قد حان وقت تصفية الحسابات. ومن ثمَّ، أحضروا أهم مفكري القرنين الماضيين – فريدريش نيتشه ومارتن هايدغر وجورج باتاي وجان بول سارتر ولويس ألتوسير وميشيل فوكو وجاك دريدا، على سبيل المثال لا الحصر – للمُثُول أمام محاكِم «نهاية التاريخ»، وفي أكثر الأحيان، أعلنوهم مذنبين باللامسئولية الثقافية، ودعم الطغيان أو الميثولوجيا (أو كليهما)، واليوتوبيانية الخَبِلة.

وقد سُرَّ جمهور القراءة الليبرالي بمثل هذه الأحكام التي أدانت فلسفة القرن العشرين الأوروبية جرَّاء فشلها في الرضوخ للانتصار العالمي للرأسمالية الليبرالية في البلدان الناطقة بالإنكليزية. في ذلك، وجَّهت فكرة «المسئولية الثقافية» كلًا من المؤرخ البريطاني الراحل توني جوت في نقده اللاذع لشيوعية ما بعد الحرب لدى المثقفين الفرنسيين، ومارك ليلا في مقالاته البورتريهيَّة عن المنظِّرين الأوروبيين الذين جاوزت نظرتهم السياسة، الليبرالية البراغماتية والانكماشية، التي قدَّمها ليلا على أنها منطقة الاشتباك الثقافي الشرعي حصرًا.

لقد أنتج منظِّرو القرن الماضي من الأوروبيين كنزًا ثمينًا من الفكر النقدي حول الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية والإمبراطورية وتحديات الاشتباك الثقافي.

تبدو الأمور مختلفة الآن. فحدود القوة الأمريكية، فضلًا عن صلابة مقاومة النظام النيوليبرالي العالمي التي تجلَّت مؤخرًا، أمورٌ صارت أكثر وضوحًا على نحوٍ يجعل الأسئلة التي واجهها الأوروبيون في النصف الأول من القرن العشرين – وبعض الإجابات التي اقترحوها – تبدو أكثر معاصَرَة. لكن قلَّة، من الباحثين الذين شنُّوا هذه الاتهامات، قد قاربت الأفكار الصعبة لهؤلاء المفكرين الأوروبيين بما يلزم من دقَّة نظرية وتعاطف فكري وانفتاح سياسي ووضع للأعمال في سياقاتها التاريخية.

انطلاقًا من هذا، تبدو «واقعية» النخبة الأمريكية، في نهاية القرن العشرين، أقرب إلى الغطرسة قصيرة النظر منها إلى المسئولية الرزينة. كما يبدو تقييمها لنظرية القرن العشرين لا جَرْدَ حسابٍ للماضي، بل أقرب إلى التقديس الإيفوريوي لما سمحت هذه النخبة لنفسها أن تصدِّق أنه كان تغلبًا تاريخيًا دائمًا.

لقد أنتج منظِّرو القرن الماضي من الأوروبيين كنزًا ثمينًا من الفكر النقدي حول الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية والإمبراطورية وتحديات الاشتباك الثقافي، مدركين تمامًا عجز السياسة البرجوازية الليبرالية عن معالجة المشاكل المستعصية للمجتمع الحديث. بيد أنَّ شرَّاحهم الأمريكيين الأكثر شهرة قد نصَّبوا أنفسهم مدَّعين عموميين – بدلًا من أن يكونوا ناقلين أمينين -، وحاولوا تحصين الثقافة الفكرية الأنغلو-أمريكية من دَنَس – ما زعموا أنه – المحتوى الإيديولوجي الأوروبي الخطير. كما قدَّم هؤلاء المدَّعين العموميين عملهم بوصفه حمايةً مسئولةً للـ «مجتمع القائم على الواقع (reality-based community)» [تعبيرٌ أمريكي يميني يُشير إلى الذين يشكلون تصوراتهم السياسية بناءً على الملاحظة الواقعية وليس الإيديولوجيا – م]، بينما كانوا، في حقيقة الحال، منخرطين في مشروعهم الإيديولوجي العميق، بل اليوتوبي. إن عملهم، الذي يُلغي شرعية أي سبيل لانتقاد إجماع «نهاية التاريخ»، قد صارت آثاره الثقافية – الآن فقط – واضحة تمامًا.


الفَصْل العظيم

على مدى العقدين الماضيين، شيَّد مارك ليلا تبريرًا فلسفيًا معقَّدًا للفكر السياسي الانكماشي الذي انتصر في التسعينيات.

بدأ الأمر عبر تمييز صارخ بين نمطين من الفكر: تقليد واقعي هوبزي رزين يطالِب أتباعه بتقييد رغباتهم العميقة في شرح العالم وتحقيق العدالة فيه، وقصْر أنفسهم نحو مادية علمانية رواقية [بمعنى تحمُّل مشقَّة العالم دون شكوى أو استياء أو رغبة في التغيير – م]. وتقليد آخر يتعلق بأولئك الذين لا يستطيعون تلبية ذلك، غير القادرين على تقبُّل الحدود التي يفرضها «الواقع». من يلتقفون الفاكهة المحرَّمة التي تأخذ شكل شروحات ثيولوجية أو إيديولوجية تزعم السيطرة على العالم وتمهيد الطريق أمام تغييره. وكما حذَّر ليلا باستمرار، يتحمل النمط الثاني مسئولية معظم ترومات [جمع ترومة: خِبرة مؤلمة أو صادمة بعمق – م] وتراجيديات العقدين الماضيين.

في خاتمة «العقل المتهِّور»، التي جاءت بعنوان «إغراء سيراكيوز»، شرح ليلا هذه التقسمة من خلال الرمز الأفلاطوني الذي يظل عمومًا مفتاحًا مفيدًا لفكره. بالاعتماد على رسائل أفلاطون، التي تروي المغامرات الفاشلة للفلاسفة في نُصحهم للطاغية ديونيسيوس، أوضح ليلا أن دافع التفكير يبدأ عند ’إيروس‘؛ الفلسفة، كمحبَّة للحكمة، متجذِّرة بشكل لا مفرَّ منه في الرغبة. لكن الإيروس، الذي يوجِّه الناس نحو الفلسفة، يمكن أن يدفعهم إلى أفعال متهوِّرة: «يحرِّض الحب على الجنون، على جنون مُفرِح يصعُب علينا السيطرة عليه، سواء كان حبنا هذا لشخص أو لفكرة».

افتتح هوبز، كما يجادل ليلا، تقليد الحفاظ على السلام السياسي بالتخلي عن الحاجة إلى التفكير الثيولوجي في أمور الحكم.

وفي حال لم يخضع إيروس الثقافي إلى ضبط صارم، يمكنه أن ينتج «فيلوتيراني philotyranny» [محبَّة الطغيان – م]؛ مثقفون ملتزمون جدًا بفكرةٍ إلى حد أنهم على استعداد لرقص التانغو مع الطغاة في سبيل تحقيقها. بكلمات أخرى، لدى إيروس جانبه المظلم: دون مقاومة واعية من أجل التسامي به نحو الغايات الصحيحة، يمكنه أن يكون قوة متهوِّرة للفوضى والهدم – يمكنه أن ينتج الطغاة.

لقد خَلُص ليلا إلى أن العقلانية هي نضال ضد قوى داخلية قوية، وحياة تقشفية «قليل من هُم القادرون عليها». فمعظمنا يفضل تلبية رغباته بطرق أكثر عاميَّة، من قبيل التعاطي مع السياسة بوصفها وسيلة لإعادة تشكيل العالم. غير أن «السعادة العُليا لا يمكن أن تُبلَّغ إلا إذا قُيِّد هذا الجنون وسيطرنا على نفوسنا، حتى عندما يدفعنا إيروس لأعلى».

ربما ظلت هذه حكاية فلسفية غامضة لم يعمل ليلا على تطوير تضميناتها التاريخية العالمية. «الإله الذي وُلِدَ ميتًا»، كتابه الذي نُشِر عام 2007، قدَّم توماس هوبز باعتباره المفكر الحاسم الذي أسس لـ «فَصْل عظيم» بين المعرفة الإلهية والدنيوية.

افتتح هوبز تقليد الحفاظ على السلام السياسي بالتخلي عن الحاجة إلى التفكير الثيولوجي في أمور الحكم. وفهِم، كما يجادل ليلا، أن العواطف البشرية تجاه «المنافع العليا» تصير خطيرة على «منافع الحياة المتواضعة – راحة البال والرخاء وبسيط الأخلاق». لكن قلة فقط قدَّرت هذا الإنجاز، في حين سعى كانط وروسو وهيغل في كلا الاتجاهين عن طريق السماح لله بالعودة إلى رواياتهما حول العالم. وفي وقت لاحق، حاول الثيولوجيون الليبراليون الألمان التوفيق بين الفكر الإلهي والفكر البرجوازي العقلاني، وهو ما فتح – عن غير قصد – الباب لمزيد من الرؤى الصلبة والخطيرة المرتبطة بالمنافع العليا المشتركة، التي هدفت إلى تدمير العقلانية البرجوازية تمامًا.

أظهر «الإله الذي ولِدَ ميتًا» قدرات كبيرة لدى ليلا باعتباره شارحًا فلسفيًا، وكذلك كشف عن حساسيته بخصوص السلطة غير العقلانية في البنية البشرية. لكن على الرغم من وعيه بتعقيد المفكرين والأوضاع السياسية التي وصفها، وصل إلى استنتاج ثنائي صارخ: وقف بعض المفكرين الشجعان بحزم ضد السماح بالبعد الإلهي في الحياة السياسية، في حين قام آخرون – في كثير من الأحيان، عن نيَّة حسنة – بمساومة الأمان والسلام، ساعين لتحقيق غايات أكثر توسعية.

وقد أثبت القرن العشرين مدى خطورة الأخيرين. ولمنع اضطرابات سياسية أكثر عنفًا، جادل ليلا، يجب علينا ألا نتسامح البتة مع أي تلميح مسيحاني في الفكر الحديث. المسيحانية، كما يفهمها ليلا، ليست مجرد ما هو حَرْفي أو ديني أو ثيولوجي أو لاعقلاني: إنها تشير إلى أي جهد على الإطلاق يسعى إلى معالجة المشاكل العميقة للحياة البشرية من خلال السياسة. مرددًا وراء هوبز، أوضح ليلا:

لا تتعلق السياسة بخدمة المنافع العليا؛ إنها ’مشكلة‘ يمكن حلها فقط إذا لجمت العواطف، وظلَّت الأحلام المجنونة عن تحول البشر إلى ملائكة أو بناء مدن إلهية كما هي: مجرَّد أحلام.

تقوم الواقعية الرواقية لدى ليلا على الارتياب بالنفس، مما ينتج سياسةً تتردد في معالجة أي خلل بنيوي. في «العقل المتهوِّر»، تقدِّم البورتريهات الثقافية أحكامًا أولمبية، عبر الزمان والمكان والتقليد الثقافي والثقافة السياسية، نجد بموجبها مفكرين خدعتهم «أحلام مجنونة». وجوابهم المقترح لمعالجة الأمر هو: الكثير من تلك الأحلام.

تضمَّنت قائمة الدعاوى عددًا من المثقفين الذين برزوا في عمل مثقفي اليسار الأمريكي، أواخر القرن العشرين. وفيها، كان ميشيل فوكو الضحية النهيلستية لـ «شياطينه الداخلية». وجاك دريدا – المنطقي شديد العقلانية، الذي انتُقِد معظم حياته المهنية لنأيه بنفسه عن السياسة – أصبح الفانتازيّ (القاتم والبغيض) بسبب رغبته الإبقاء على الأفق النبوي للماركسية. غير أن الازدراء الاتهامي لدى ليلا كان أكثر تناسبًا بعض الشيء مع المفكرين الذين تساوموا مع النازية مثل مارتن هايدغر وكارل شميت، وتجدر الإشارة إلى أن ليلا قدَّم أقوى قراءة ممكنة لآثامهم السياسية مؤكدًا ألا يأخذ القرَّاء انتقاداتهم، بشأن المجتمع البرجوازي والفكر الليبرالي، على محمل الجد.

بالنسبة إلى مفكر يشتبه في أي مثقف يجرؤ بما يكفي على تقديم رؤى للعالم، منهجية وحاسمة، رفض ليلا، بثقة ملحوظة، أي بديل عن الليبرالية البراغماتية الصارمة.


عقل أقل تهورًا

على أي حال، يبدو أن ليلا قد خفَّف من حدة نبرته. في عملين صدرا مؤخرًا – طبعة منقَّحة من «العقل المتهِّور» وكتابه الجديد «العقل المنكوب» – يعترف أن التاريخ قد تخطى حالة «الرضا عن الذات» التي برزت في التسعينات. وأن التأكيد الليبرالي على الحقوق والفردانية والنمو الاقتصادي قد تصلَّب في «دوغما ناعمة». في خاتمته الجديدة لـ «العقل المتهِّور»، يكتب ليلا:

من الغطرسة أن نفكِّر أنه ما عاد علينا التفكير جديًا أو الالتفات أو النظر إلى الروابط الحاصلة بين الأمور، وأن كل ما علينا القيام به هو التمسُّك بـ ’قيمنا الديمقراطية‘ ونماذجنا الاقتصادية والإيمان بالفرد وأن كل شيء، بعد ذلك، سيكون جيدًا.

بنهاية الحرب الباردة، يُجادل، «تُرِكنا غير مبالين وغارقين في أنفسنا».

كتاب «العقل المنكوب»، ظاهريًا، موجَّه إلى ظاهرة «الرجعية السياسية»، التي يعتبرها ليلا مصدر قلق أكثر إلحاحًا من الفلاسفة الفرنسيين المعارضين من اليسار. على الرغم من أن المستهدفين، هذه المرة، من الجانب الآخر للطيف السياسي، فإن حجته لم تتبدَّل. إن الرجعيين، يشرح ليلا، هم «راديكاليون شأنهم شأن الثوار، وعلى اتصال بالمخيلة التاريخية بنفس المقدار». يفترضون عصرًا ذهبيًا مضى انحطَّت الإنسانية من بعده، تاركًا فقط المعرفة الرجعية للتاريخ باعتباره مفتاحًا للخلاص. يمد ليلا هذه الفكرة إلى آخرها، منمطًا خليطًا من المثقفين، بما في ذلك مفكرين ألمان بارزين مثل فرانز روزنويج، مع إريك فوغلن وليو شتراوس، والفيلسوف الفرنسي الماوي آلان باديو، والمؤرخ الكاثوليكي الأمريكي براد غريغوري، وكاتبين فرنسيين معاصرين (الصحافي اليميني المتطرِّف إيريك زمور، والروائي ميشيل ويلبك [ترجمتُ الاسم الأخير كما ينطق وليس كما يكتب من باب التيسير على القارئ – م]).

أي تنميط ممكن قد ينتج عن مثل هذا الخليط؟ على الرغم من أن ليلا يلبسها ملابس جديدة، فإن «الرجعية» عنده تنتهي إلى نفس الشخصية التي قام بملاحقتها على مدار حياته: «صانع الخرافات الثيو-سياسي» الذي لا يمكنه قبول العالم كما هو، ولكن – عوضًا عن ذلك – يتمرد ضد حقائق «الواقع» – في هذه الحالة، يمثِّل الواقع ما «لا رجعة فيه ولا يمكن التغلب عليه».

في هذا، فشل ليلا حتى في توفير أي تعليل ابتدائي للعقل الرجعي، وعَمِل – عوضًا عن ذلك – على ضم مجموعة جديدة من المفكرين إلى قائمة الشيطنة التي تحتوي على مقاومي الواقع. يمتلك هذا التصنيف الضخم قيمة تحليلية ضئيلة جدًا، لكنه يؤتي أكله كسلاح في خدمة التزامات ليلا الإبستيمولوجية والسياسية: يتحدَّث «الواقع» إلى نفسه – وإن كان ذلك في الغالب عبر الليبراليين الناطقين بالإنكليزية مع تصنُّع اشتراوسي للفلسفة القديمة – ويدين كافة جهود معرفة الكثير أو محاولة تغيير العالم من خلال السياسة. بحسب ليلا، يصبح التاريخ تكرارًا دوريًا لغطرسة الإنسان تتغير فيه الشخصيات فقط. الراديكاليون هم الأوغاد الحقيقيين الوحيدين – خاصَّة اليساريين منهم – الذين يجرؤون على التفكير في التصادم مع الواقع.

من الممكن القول إن الفصل المتعلق بآلان باديو قمَّة في السخافة ويقدِّم نموذجًا على محدودية الإطار الثقافي الأوسع عند ليلا. نرى فيه بكل وضوح كيف أن تفاصيل المفاهيم وسياقاتها التاريخية أو الالتزامات السياسية لمفكر ما تعني القليل، طالما بإمكان ليلا إطلاق موعظته حول اللاعقلانية النظرية أو التطرف السياسي.

ناظرًا بدقَّة إلى تحيزات جمهوره الأمريكي، يُبرز ليلا انتقادات باديو الصحافية لإسرائيل ويُلمِح إلى تشابهات بينها وبين المعاداة النازية للسامية، كما ينقل عنه بشكل انتقائي ويقذفه بتلميحات خبيثة. ويُجادل أن باديو مهجوس – على نحو خاص – بمشكلة “الخصوصية اليهودية”، دون أن يلاحظ أن باديو ينتقد بشراسة كافة الخصوصيات الدينية والقومية والطائفية، خصوصًا الأشكال الفرنسية للعنصرية ومعاداة السامية. وباعتباره أمميّ عنيد، يرى باديو ما لدى مفكرين يهود – من قبيل بولس الرسول وسبينوزا وماركس وفرويد وتروتسكي – من “أممية… لا تتجاهل الخصوصيات، ولكن تتجاوزها أيضًا”. وانتقاداته لـ «استخدامات كلمة يهودي» لا تدور حول الهوية اليهودية، وإنما حول طرق استعمال يرى أنها تهدف إلى استثناء إسرائيل من النقد السياسي.

بينما تثير فلسفة باديو وسياسته الجدل لعدد من الأسباب التي توفر مادة كافية لمقال نقدي، يرفض ليلا أن يذكر الأبعاد الأصلية لفكره، ويركز بشكل حصري تقريبًا على كتابات ثانوية له. وعوضًا عن كونه فيلسوفًا يتطلب شرحًا ونقدًا دقيقين لأفكاره، يصبح باديو وغدًا خُرَافيًا، من خلال تقنيات قراءة ساخرة، يجسِّد كل ما يكرهه ليلا عند اليسار واليمين.

على مدار الكتاب، تلين نبرة ليلا الحاسمة والحادة، مشيرةً إلى أن أمواج التاريخ قد حثَّته نحو تعاطفٍ دفاعي مع بعض المفكرين الذين يعتقد أنهم قد وقعوا في هوى الرجعية. تمنح قراءاته لروزنويج وشتراوس وفوغلن وويلبك تعاطفًا ثقافيًا كثيرًا ما كان يحجبه مع آخرين. وعلى الرغم من أنه يظل متشككًا في النبضات الثيولوجية عمومًا، نسمع صوت ليلا من خلال بعض الذين يدرسهم.

يظهر هذا خصوصًا في الصفحات التي يكرِّسها لرواية ويلبك الصادرة عام 2015 «تسليم»(ترجمتُ Submission هنا بـ تسليم، لأن الروائي قصد الربط بين العنوان وأحد دلالات الإسلام – م)، التي تتخيل الختام النشيجي للحضارة الغربية في شكل استيلاء سياسي إسلامي على فرنسا. يقدِّم ليلا الرواية بذكاء وحساسية، مدرجًا صوته فقط ليعزز بهدوء التماسك الفلسفي للكتاب وأهميته الأدبية. ليس لديه ما يقوله حول تبديل ويلبك للمسلمين الفرنسيين الذين هم من لحم ودم إلى تمثيلات منمَّقة حول معركة حضارية كبيرة بين المسيحية والإسلام، ربما لأن ذلك يعكس ميولة الخاصَّة لرؤية التاريخ بوصفه معركة بين الأفكار الشامخة. يبدو إعجاب ليلا المتفهِّم لفكر ولبيك نقطة تحول هادئة في عمله، كما أنه يسمح للروائي – الذي احتفل به على نطاق واسع كناقد لاذع للنخب الغربية المنحطة والعلمانية – التحدث بلباقة ودون مقاطعة.

هل يمثَّل هذا دليلًا على أن ليلا قد نمت بداخله شكوك حول النظام الليبرالي الذي كان كان يدافع عنه بيقظة قبل عقدين من الزمن؟ إن عودة إلى التشاؤم الولبيكي قد تكون خطوة منطقية تالية لِفَهم ليلا الانكماشي للعمل السياسي، خاصَّة أنهما يشتركان في الاعتقاد بأن التاريخ مقاوِم بشكل ميؤوس منه للتغيير وغير مبال باليأس البشري.

وتعليق ليلا مؤخرًا على رئاسة أوباما، في مجلة نيويورك، لا يقاوم مثل هذا التفسير. معيدًا صياغة ثيماته المتشائمة الساخطة والمزدرية للسياسة، يسخر: «إن الأمريكيين مدمنون على الأمل». ثم يقول، «لقد أثار [أوباما] توقعات لا يمكنه تلبيتها، وهو ما أثار بدوره استياء الأطفال فقط، حتى عرض عليهم دونالد ترامب وبيرني ساندرز الآيس كريم».

يبدو أن النظرة الفكرية الانكماشية التي ترجع إلى التسعينيات قد تركت واحدًا من أكثر مثقفينا الضليعين غير قادر على تقديم شيء إلا الخواء والكليشيهات الغرائبية. إن الأمل السياسي، سواء كان ينتمي لعمال القرن العشرين أو إلى بركاريات القرن الحادي والعشرين [البركاريا، مفهوم يقصد به تلك الطبقة العاملة التي تفتقد الأمان الوظيفي والاجتماعي في القرن العشرين – م]، لا يمثل عنده شيئًا أكثر من أوهام طفولية عند من يطالبون بالجنة على الأرض. دون عناء مع تفاصيل التاريخ، لا يمكن لليلا معرفة عدد المرات التي اعتمد فيها تحقيق الأهداف السياسية الأساسية والواقعية على تهديد حقيقي بالثورة اليوتيوبية. وأن الراديكالية، في كثير من الأحيان، كانت نتيجة ثانوية للواقعية.


مسئولية مختلفة

على الرغم من أن ليلا يلبسها ملابس جديدة، فإن «الرجعية» عنده تنتهي إلى نفس الشخصية التي قام بملاحقتها على مدار حياته: «صانع الخرافات الثيو-سياسي».

كما كتب جيديديه بوردي مؤخرًا، «ليست النيوليبرالية موقفًا ثقافيًا وإنما شرط بحسبه يتصرَّف المرء كما لو كانت فرضيات معينة حقيقية وفرضيات أخرى لا يمكن التعبير عنها. إنها ليست عقيدة وإنما حد لحيوية الخيال السياسي».

هل ينبغي أن تسير الأمور على هذا النحو؟ هل علينا مواجهة البريكست ودونالد ترامب وداعش بأقل ما لدينا من عتاد ثقافي؟ أم أنه ربما قد حان الوقت لإعادة النظر إلى مثقفي القرن العشرين الذين واجهوا مستقبلًا مجهولًا بمسئولية وخيال وشجاعة؟

مباشرةً بعيد الحرب العالمية الثانية، شرع الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي في تحليل وجودي صارم لما وصفه بـ «مشكلة الشيوعية»؛ عما إذا كان للمرء أن يبرر العنف السوفياتي، وكيف.

حاول ميرلو-بونتي تقديم حجة تاريخية معقَّدة مفادها أن محاكمات موسكو والإرهاب السوفياتي تكون مبررة لو أن التاريخ حاكمها على أنها حصلت باسم وضع حد للعنف.

كتاب «الإنسانوية والإرهاب» (1947) الناتج عن هذا التحليل، والذي غالبًا ما يوصف بأنه «فاضح»، يستنطق العنف والمسئولية الثقافية والعمى الراديكالي للفعل التاريخي وفشل المثقفين الليبراليين في إخضاع التزاماتهم الخاصَّة إلى نفس التفكير الذاتي الذي يطالبون به الراديكاليين. رافضًا أخذ خطاب الإنسانوية الليبرالية على علَّاته، حاول ميرلو-بونتي تقديم حجة تاريخية معقَّدة مفادها أن محاكمات موسكو والإرهاب السوفياتي تكون مبررة لو أن التاريخ – المجهول لدى أولئك «المحكوم عليهم» بالتصرف دون معرفة المستقبل – حاكمها على أنها حصلت باسم وضعحد للعنف.

وفي ردَّه على الانتقادات المصدومة، نظَّر ميرلو-بونتي أن الليبراليين، بعد سنوات من الحرب العالمية، افتقروا ببساطة إلى طاقة القتال اللازمة من أجل إنهاء حقيقي للعنف، وعوضًا عن ذلك، اختاروا سلامًا وهميًا يزيح المسئولية عن العنف إلى مناطق أخرى. هذه الإيديولوجيا، كتب ميرلو-بونتي، تؤكد التزاماتها الإنسانوية ورعبها على أرضية العنف السياسي. لكن عبر القيام بذلك، «تضع [نفسها] خارج المجال الذي ينتمي إليه العدل والظلم» لأنها تفشل في رؤية أننا «ككائنات جسدية/من لحم دم، نصيبنا هو العنف». بعبارة أخرى، يفتقر الليبراليون إلى شجاعة معالجة واقع العنف واتخاذ ما من شأنه حقًا أن يضع حدًا له، ولذلك يبرئون المذابح الإمبريالية والأعمال الوحشية العرقية المحلية التي تقوم بها مجتمعاتهم، محملين العنف على «الشمولية» الشيوعية وطغاة «جمهوريات الموز».

ويتابع، «على وجه التحديد، نتيجة أنهم يحبون السلام عن ضعف»، [الليبراليون] على استعداد دائمًا «للبروباغندا والحرب»، والتحمس للعنف الذي يخفيه مجتمعهم على مرأى من الجميع.

قد نجد عند ميرلو-بونتي نموذجًا بديلًا للمسئولية السياسية. لقد كافح بقوة من أجل رؤية العالم على ما كان عليه، والتفكير في جميع أعمال العنف، والقيام بأكثر الخيارات الممكنة أخلاقية. والتزامه بإعادة النظر في التاريخ كما يتكشَّف قد أدى به إلى أن يصبح أكثر نقدًا للاتحاد السوفيتي، وأخيرًا، التخلي عن علاقته بالشيوعية المنظَّمة تمامًا. غير أنه استمرَّ في مقاومة الرأسمالية الليبرالية وتعتيمها «الروحي» مجادلًا أن المجتمعات يجب أن تُحاكم على مدى جديتها في الرغبة في تحسين ظروف العالم الواقعي للبشرية:

مهما كانت الفلسفة التي يدينون بها، ليس المجتمع معبدًا للقيم الصنمية التي برزت في المقدِّمة من معالمه ومخطوطاته الدستورية؛ قيمة مجتمع هي قيمة علاقة الإنسان بالإنسان فيه.

إن تعقُّب ما بعد لحظة «نهاية التاريخ» في التاريخ الثقافي الأمريكي يذكِّرنا أن رفض الانخراط في السياسة قد يكون له عواقب بمصيرية وخطر الالتزام الصادق لليوتيوبية. والتشاؤم الثقافي المنعزل والنخبوي يمكن أن يسيء فهم التاريخ تمامًا كما هي الحال في الانخراط العاطفي، ويمكن أن يمثِّل نفس حجم الفشل الأخلاقي.

ومن ثمَّ، فالمسئولية الثقافية لا علاقة لها بـ ’مضمون‘ أفكار المرء بقدر ما لها علاقة بالصرامة المفاهيمية والأمانة الثقافية والإحسان التفسيري والحساسية التاريخية. وقد كان مشروع الليبراليين الانكماشيين، مثل مارك ليلا، أقل أخلاقية وأكثر سياسية – محاولة لجعل مضمون التزاماتهم السياسية الضد-راديكالية متجانسًا مع الممارسة الثقافية المسئولة، وبالتالي إعلان عدم أهلية الأفكار التي لا يحبونها دون محاكمة عادلة.

لكن الأرضية التاريخية قد تحولت، واليقين الأخلاقي تبخر، والأفكار الراديكالية – سواء كانت جيدة أو سيئة – صارت في آخر الأجندة السياسية. وبالتأكيد سنحتاج إلى ما هو أكثر من التاريخ الثقافي لفهم ذلك وتوجيه عملنا السياسي.