محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2017/12/01
الكاتب
Francisco Mejia Uribe

كيف يُمكن أن تستوعب الديمقراطية عددًا هائلًا من رؤى العالم المتعارضة داخل بنية سياسية واحدة تحظى بالاستقرار والشرعية، هذا هو أحد أكثر الأسئلة إلحاحًا في عصرنا. هل من طريقٍ لنتفادى بنجاح كل أنواع الأصوليات الدينية والعلمانية، ولحماية الديمقراطية التعددية من هيمنة إحدى الأجندات الأخلاقية ضيقة الأفق الخاصة بجماعة ما؟إذا كنت تعتقد مثلي أنّ هذه المسألة ذات أهمية قصوى، فسيسُرك أنّ جون رولز (1921-2002) أحد ألمع العقول الفلسفية في القرن العشرين، قد أمضى العقدين الأخيرين من حياته يُكابد هذه المسألة بالتحديد. وبكلمات رولز فإنَّ هذا السؤال المؤرق للعالم المعاصر يُمكن صياغته كالتالي: هل يُمكن أنّ تتوافق الديمقراطية من العقائد الشمولية الدينية وغير الدينية؟ وإذا كان مُمكنًا، فكيف يُمكن ذلك؟ (Political Liberalism, p.485). في هذا المقال أستعرض إجابة رولز على السؤال، والتي فصَّلَها باستفاضة في طبعة أخرى من الكتاب عام 1993.سأُجادل بأنّ قيمة الاشتباك مع فلسفة رولز السياسية تكمن في التوصل إلى فهمٍ واضح للظروف اللازمة للديمقراطية من أجل التفاوض حول التعددية وتحقيق الاستقرار. ولكن الأهم هو أنّه بمجرد إدراك قيمة هذه الظروف، نُدرك بجلاء لِمَ أصبحت الحلول التي سعى رولز لوضعها غير مجدية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.


مُفارقة التبرير الديمقراطي

يبدأ رولز في كتابه الليبرالية السياسية بملاحظة أنّ البيئة الثقافية للديمقراطيات الحديثة تشتمل على تنوعٍ لعقائد دينية وأخرى تستند على أُسس فلسفية. يُجادل رولز بأنّ هذا التنوع ليس مفاجئًا، منذ أدت حماية الحرية الشخصية التي تُعززها المجتمعات الديمقراطية بطبيعتها إلى زيادة هذا التنوع مع مرور الوقت فيما يُطلق عليه «الخلفية الثقافية»، أي المجتمع المدني حيث المساحة التي نُصّقِلُ فيها مُلثنا وأهدافنا الشخصية. ويوضح رولز أنّ تميز الخلفية الثقافية في الديمقراطيات الحديثة بالتنوع ليس أمرًا جديدًا أو تنويرًا على نحوٍ خاص، ولن يتطلب الأمر من معظمنا سوى النظر حولهم لمعرفة ذلك. ولكن الأمر الجديد، الذي أولاه رولز عنايته ببصيرة فذة، هو أنّ هذا التنوع المتنامي يطرح مشكلة تبريرية معينة تتعلق بالديمقراطية.يُمكن التعبير عن هذه المشكلة كالتالي: إذا كانت معتقداتنا متعارضة ولا يُمكن التوفيق بينها، أي منها يُمكن استخدامه لتبرير النظام الديمقراطي نفسه؟ بعبارة أخرى، إذا لم أكن على استعدادٍ لتأييد نظام سياسي قائم على معتقداتك، ولم تكن أنت في المقابل مستعدًا لتقبل نظام قائم على معتقداتي، فكيف يُمكننا وضع أي قواعد عامة لتساعدنا على العيش معًا؟ يُعرف الفلاسفة السياسيون هذه المشكلة «بمفارقة التبرير الديمقراطي» (Robert Talisse, Democracy and Moral Conflict, 2009). ولكن اسمحوا لي بالتفصيل قليلًا حتى تُصبح هذه المفارقة أكثر وضوحًا.يمتلك أي نظام سياسي، بما في ذلك الديمقراطية، الحق في تفويض استخدام سلطة الدولة من خلال نظامها القضائي، وينظم قوانين ما يُعتبر إخضاعًا شرعيًا. ويرسم حدود القانوني وما يقع خارجه، ثم يخول للحكومة استخدام القوة من خلال المحاكم والشرطة والجيش لإخضاعك عندما تنتهك القانون. ولكن في الديمقراطية، وبحكم تعريفها، يتمتع جميع المواطنين بنصيب متساوٍ في السلطة السياسية، بمعنى أنّه لا يجوز لأحد إجبار الآخرين دون الحصول مسبقًا على الموافقة الحرة لأغلبية المواطنين الآخرين.ولكي تكون مُمارسة السلطة السياسية مشروعة في الديمقراطية، يجب النص على الأسباب التي نقدمها لبعضنا البعض فيما يتعلق بتبرير الإخضاع بطريقة تناظرية حتى يقبل بها الجميع (أو غالبية المقترعين على الأقل)، وهذا هو ما يُعرف بمبدأ الشرعية الديمقراطية أو مبدأ التبرير الديمقراطي. وهنا تكمن المفارقة: إذا كانت الحريات الديمقراطية تسمح لمعتقداتنا بالتنامي حد التناقض، فكيف نتوصل إلى شروطٍ يقبلها الجميع؟ وما هي هذه الشروط المُحتملة؟ولكي نضع المسألة في قالب أبسط؛ فكر في الديمقراطية باعتبارها نظامًا تُبرره بعض المبادئ الأخلاقية التي تتقاطع أحيانًا مع مساحات تُمثل كل منها رؤى مختلفة للعالم. وإذا ازدادت الاختلافات ما بين كل المساحات وابتعد كل منها عن الآخر في ظل زيادة التنوع، تتضاءل شيئًا فشيئًا مساحة الاتفاق فيما بينها، وتصبح الديمقراطية في خطر.تتكرر الخلافات السياسية باستمرارٍ في مجتمعٍ ديمقراطيٍ، خاصة عندما يشهد تنوعًا هائلًا، وتقل القيم المشتركة التي يُمكن أنّ نحتكم إليها جميعًا لتسوية الخلافات. ومن المفارقات حينها، أنّ الأمر يبدو كما لو أن مجالًا واسعًا من الديمقراطية يؤدي في النهاية إلى تآكلها. فهل نحن ملامون حينها لضعف وهشاشة الديمقراطية التي فقدت مسوغاتها المشتركة وتتعرض باستمرار لسوء استخدام أو خطر التدمير من جانب أولئك الأقدر على توطيد قضيتهم الخاصة؟ أم أنّ هناك مخرجًا من هذا المأزق؟


السياسة القائمة بذاتها

تستلزم المتطلبات التبريرية للديمقراطية استحالة بناء قوانينها على مجموعة عقائد يعتبرها عدد كبير من المواطنين غير مقبولة، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى ترك تلك الفكرة القديمة القائلة بأنّ السياسة تُستقى من عقيدة معينة. ويوضح رولز ذلك قائلًا إنَّه «بدءًا من الفكر اليوناني بدا أنّ التقليد المٌهمين هو أنّ ثمة تصورًا عقلانيًا واحدًا لما هو خير. وكان هدف الفلسفة السياسية حينها، والتي دائمًا ما نُظر إليها باعتبارها جزءًا من فلسفة أخلاقية إلى جانب اللاهوت والميتافيزيقا، هو تحديد طبيعة ومحتوى هذا المفهوم» (Political Liberalism, p.135). لكنه يستدرك معترضًا فيقول إنَّ «السؤال الذي اهتم التقليد المُهين به، قد بقيَ دون إجابة؛ فلم يكن هناك معتقد شمولي لما هو خير يصلح تصورًا سياسيًا لنظام مؤسسي».بعبارة أخرى، فإنَّ النموذج القديم للسياسة الذي تصبح من خلاله المؤسسات والقوانين مُبررة إلى حد تعزيزها بفاعلية لرؤية محددة عن ماهية الخير، قد أصبج باليًا في عالمٍ حيث نختلف جذريًا حول ماهية الخير. ففي عالمٍ يتسم بالتنوع الشديد، لم يعد بإمكاننا فرض تصور محدد حول الطريقة التي يجب أنّ نعيش بها جميعًا وأي الأهداف عليّنا السعي نحوها، دون أنّ يؤدي ذلك إلى انتهاك الحرية المشروعة للآخرين.يُصّر رولز أنَّه في ظل هذا العالم المتنوع الجديد، الذي ساعدت الديمقراطية نفسها في خلقه، لم يعد بالإمكان أنّ تستقي السلطة السياسية تبريرها من دينٍ ما أو من تقاليد علمانية أخلاقية مشتركة. تستلزم القوانين دائمًا استخدام قهري للسلطة من قِبل الحكومة، ولذلك إذا استقي القانون مُبرره من دينٍ ما، سيخرق ذلك مبدأ التبرير الديمقراطي لأننا لن نتوقع من جميع المواطنين قبول أسباب دينية باعتبارها مصدرًا للقانون الذي سيحد في النهاية من حريتهم. وينطبق الأمر نفسه على التقاليد العلمانية، فإذا استقت قوانين محددة مبررها من فكرة التنوير عن الكائن البشري باعتبارها منطقًا عالميًا (كما جادل كانط) أو من المنطق النفعي عن الصالح العام (كما جادل جون ستيورات ميل)، فإنّ المتدينين في مجتمعٍ ما قد يرفضون بدورهم ما يعتبرونه إجبارًا علمانيًا غير مقبول.إذا لم تكن معتقداتنا الدينية والأخلاقية تصلح قاعدة للنظام السياسي في مجتمع تعددي، فما العمل إذن؟ تكمن الخطوة الرئيسية بحسب رولز في فكرة «السياسة القائمة بذاتها وهي تلك السياسة التي لا تُستقى أو تستمر من خلال أيٍ من عقائدنا المتعارضة».وللبدء في التمييز ما بين هذا التصور السياسي القائم بذاته وعقائدنا السياسية العادية، يدعونا رولز إلى التفكير في مبادئ العدالة «بصفتها المنوطة بتشكيل العالم الاجتماعي حيث ندرك ذواتنا ونبني تصورنا لأنفسنا ورؤيتنا الشمولية وتصورها عن الخير» (p.41). وهو بذلك يدعونا إلى تخيل إطار يُمكن من خلاله من السعي نحو أهدافنا المتباينة وغايتنا الشخصية، وهذا الإطار قائم بذاته بمعنى أنَّه يسبق القيم التي نسعى إليها داخل حدوده، وبالتالي، يجب تأسيس الإطار قبل دخول أي أفكار دينية أو أخلاقية. ولتوضيح هذه النقطة، يطلب رولز منا التفكير بما يحدث عندما يغير أحدنا تصوره عما هو خير، سواء كان ذلك بمرور الوقت أو بشكل مفاجئ. وعندما يحدث ذلك، كثيرًا ما نذهب إلى حد القول إنَّنا لم نعد الشخص نفسه.ولكن رغم ذلك، يجب أنّ تظل هويتنا السياسية والمؤسسية وحقوقنا مُصانة. وهذا بالضبط هو ما يعنيه أن تكون السياسة قائمة بذاتها. هذه هي الطريقة التي من خلالها يُشكل التصور القائم بذاته لمفهوم العدالة السياسية الإطار المؤسسي الذي يُمكن المواطنين من الاستقلال مع الحفاظ على إمكانية سعيهم لتحقيق أهدافهم الخاصة. ولكن في حال تقبلنا طرح رولز حول حاجة الفلسفة السياسية إلى تقديم نفسها من خلال قواعد قائمة بذاتها، فما الذي يعنيه ذلك على وجه الدقة وكيف يُمكننا تحقيقه؟ ولتوضيح الكيفية التي يُمكن من خلالها تحقيق ذلك يعرض رولز فكرته المهمة الخاصة بمفهوم المعقول.*


التزم بالمعقولية!

إذا ما قصد حقًا أي نظام سياسي أنّ يُصبح قائمًا بذاته، فإنَّ تجنب الانحياز لأحد الأطراف يستلزم البقاء خارج عالم «الحقيقة» المثير للجدل. إذ إنّ أي ادعاء بامتلاك الحقيقة سيحصرنا فورًا داخل تقليد محدد دينيًا كان أم علمانيًا، كما يخلق صراعًا ضد المعتقدات الأخرى حول ماهية الحقيقة. لذا، بدلًا من من الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، تُحيل الليبرالية السياسية بحسب رولز إلى تصور سياسي للعدل بوصفه تصورًا يتسم بالمعقولية.ويوضح رولز هذه الفكرة بقوله إنّ فكرة أو شخصًا ما لا يندرج تحت هذه المبدأ إلا إذا اتسم بأمرين رئيسيين:

1. ضرورة احترامه مبدأ التبرير الديمقراطي، وهو ما يعني أنّ عليه تقديم شروط للتعاون الاجتماعي يُمكن للآخرين قبولها.

2. ضرورة اعترافه بما يطلق عليه رولز «عبء إصدار الأحكام» وهو المتعلق بحقيقة أنّ المواطنين الآخرين يُمكنهم التوصل إلى معتقدات مختلفة في سعيهم الصادق نحو الحقيقة.

وبالنظر إلى العنصرين السابقين معًا، يُمكننا القول إنّ الشخص المُتسم بالمعقولية هو من يقدم شروطًا تناظرية للتعاون، ممتنعًا عن استخدام السلطة السياسية لفرض رؤيته عن العالم أو لقمع رؤى أشخاص آخرين يلتزمون بالمبدأ ذاته.جوهريًا، يعترف هؤلاء بأنّ «الحقيقة الكاملة» في السياسة والأخلاق والدين متنوعة ويصعُب الوصول إليها، ويتقبلون أيضًا الحدود التي يرسمها ذلك الوضع على ما يُمكن استدعاؤه داخل المجال السياسي. يتمكن رولز من خلال متطلبات الفضيلة السياسية المتعلقة بمفهوم المعقولية من طرح أحد أفكاره الرئيسية حول الليبرالية؛ في عالم متنوع، لكي نخلق تصورًا عن العدالة يتصف بالمعقولية، يجب أنّ يكون محايدًا بين مجموعة عقائد لا يمكن التوفيق بينها. ولا ينبغي لهذا المفهوم التعبير عن أي تفضيلات أو تعزيز مجموعة معتقدات معينة أو محاولة فرض رؤية معينة عن العالم على باقي أفراد المجتمع. ولذلك، فإنَّ السياسة التي تميل إلى أي عقيدة – سواء كانت دينية أو علمانية – هي سياسة لا تلتزم بالمعقولية، وبالتالي غير شرعية.


الموقف الأصلي: مُحاكاة المعقولية

بعد تأسيس المعقولية بوصفها المعيار الذي يعمل من خلاله النظام السياسي القائم بذاته، يبدأ رولز بعرض حجته الخاصة برؤيته للعدل. بيد أنّ متطلبات الحياد اللازم لتأسيس المعقولية هي قيد صعب بالنسبة لأولئك الذين سيُفضلون رؤيته لما هو خير في ظل ظروفٍ طبيعية. لذلك، من أجل تهيئة الظروف لتسهيل المداولات حول المعقولية، يُجادل راولز بأنّ عليّنا التوصل لوجهة نظر يمكن من خلالها وضع ظروفنا الخاصة جانبًا. ولهذا الغرض يستخدم فكرته الشهيرة الخاصة «الموقف الأصلي»، وهي حالة افتراضية طوّرها رولز لأول مرة في كتابهنظرية في العدالة (1971).في جوهره يُعبر الموقف الأصلي عن وضع افتراضي يسمح لنا بالتحلي بأكبر قدر من المعقولية. وهو كالتالي؛ يطلب منّا رولز تخيل أنّنا في وضعٍ يطلق عليه «حجاب الجهل» الذي يحجب معرفتنا بظروفنا الاجتماعية وتصورنا عما هو خير، وبحسب كلمات رولز «فإنَّ الخصائص المتعلقة بالوضع الاجتماعي والمواهب الفطرية، والعوارض التاريخية، بالإضافة إلى تصورات الأشخاص التي تُحدد ماهية الخير، تُوضع جميعها وراء حجاب الجهل» (P. 79). ويدعي رولز أنَّه في ظل هذه الظروف سنقدم لبعضنا البعض تصورًا عن العدل يتفق مع مفهوم المعقولية، لأننا لن نلتزم بأي عقيدة معينة، وبدلاً من ذلك سننشغل بوضع إطار مؤسسي يتسم بالعدل بغض النظر عن المعتقدات والحالة الاجتماعية التي سوف ننتهي إليها عند رفع هذا الحجاب.يرى رولز أنَّ صيغته للعدالة بهذا الشكل، والتي يُسميها «العدالة بوصفها إنصافًا»، هي نتيجة منطقية للموقف الأصلي، لأن الأفكار السياسية التي تؤيدها هذه الصيغة هي أكثر أشكال المعقولية التي يُمكن تخيلها. ويرى رولز أنّ العدالة بهذا الشكل هي مفهوم ليبرالي، بمعنى أنّ الحريات الأساسية مثل حرية الضمير/الاعتقاد وحرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير، تحظى بالأولوية مقارنة بأي ادعاءات عامة حول قيم معينة، ووفقًا لهذا المفهوم تنطبق هذه الحقوق على جميع المواطنين على قدم المساواة.كما أنَّها ليبرالية سياسية بمعنى أن مبرراتها قائمة بذاتها: أي أنّها نتيجة منطقية لمتطبات المعقولية بوصفها فضيلة سياسية وليست مشتقة من أي عقيدة دينية أو علمانية. وبعبارة أخرى، فإنَّ شخصًا يلتزم بالمعقولية هو شخص يحترم مبدأ أنّ سلطة الدولة يجب تبريرها ديمقراطيًا، ويقبل أنّ التوصل إلى حقيقة واحدة متفق عليها ليست أمرًا مطروحًا، وبالتالي فإنَّ هذا الشخص سوف يحبذ وجود إطار مؤسسي ليبرالي . وهذه نتيجة قائمة بذاتها بمعنى أنّه (على الأقل وفقًا لرولز) لم يكن هناك أي اعتبارات دينية أو حزبية.


مشكلة الاستقرار

لقد وصفت إلى الآن كيف تشتبك فكرة الليبرالية السياسية لدى رولز مع مشكلة التبرير الديمقراطي في مجتمعات يسودها انقسام بالغ بسبب رؤى العالم المتعارضة. وبفضل الوضع الافتراضي الخاص بالموقف الأصلي، يعرض رولز ما يراه إطارًا للعدالة يتسم بالمعقولية ضمن ديمقراطية تعددية، وهذا ما يُنتج بحسبه نسخة ليبرالية محايدة أيديولوجيًا وسياسية خالصة في آن واحد. ومع ذلك تبقى مشكلة رئيسية وهي تلك المتعلقة بالاستقرار.فبعد رفع حجاب الجهل، قد لا نستطيع التوفيق ما بين معتقداتنا التي اكتشفنا تبنينا لها في ظل الإطار المؤسسي الذي اتفقنا عليه خلال الموقف الأصلي. ربما سنتقبل هذا الوضع حينها، لأننا على الأرجح لن يكون لدينا الوسائل لفرض رؤيتنا للعالم على الجميع. ولكن رولز يعتقد أنّ هذه النتيجة غير مرضية أو مستقرة. آمل رولز أنّ نجد بعد رفع الحجاب في عقائدنا ما يكفي لدعم الاتفاق السياسي الذي وجدنا أنفسنا في ظله الآن، فبينما يجب ألا تؤسس رؤيتنا للحقيقة الإطار السياسي، يُفترض بها مع ذلك تقديم ما يكفي من الأسباب لدعمه. وهنا تحديدًا يتجه إلى رولز إلى طرح فكرته عن «الإجماع المتقاطع» للعقائد الملتزمة بالمعقولية.اسمحوا لي أن أوضح. إذا كنت أنت وأنا وآخرون نختلف جوهريًا في معتقداتنا، ولكن إذا كنا جميعًا نتمسك بمتطلبات المعقولية – أي إذا كنا نحترم الحاجة إلى تبرير ديمقراطي ونقبل بأننا سنتبنى معتقدات مختلفة بشكل جوهري إلى الأبد – عندئذ سيكون هناك تقاطع كاف بيننا ويسهل التوصل لتوافق في الآراء على المستوى السياسي. وحقيقة أن تفكيرنا يتسم بالمعقولية هو ما يربطنا جميعًا رغم خلافاتنا الجوهرية. أما عن الكيفية التي يُبرر بها كل تقليد ديني أو علماني لنفسه ضرورة احترام فضيلة المعقولية، فهو أمر لا يشغل الليبرالية السياسية. ما يهم هو أنّها تتبع هذا النهج بطريقة أو بأخرى. ولكي تكون الديمقراطية مستقرة في خضم تنوع لا يمكن التوفيق بينه، فإنَّ عقائد مواطنيها يجب أنّ تتسم بالمعقولية، وهذا الشرط يحمل عواقب عملية كبيرة سوف أتناولها في الخاتمة.


اللامعقول وصعود الأصولية

رغم كثرة نُقاد رؤية رولز لليبرالية السياسية وشيوع الأدبيات التي تُبين أوجه القصور فيها، إلا أنّ أفكارها الرئيسية تعكس إلى حدٍ بعيد طبيعة المجتمعات الديمقراطية الآن. إذ يبقى تعزيز الدولة للحقوق والحريات الأساسية مع حفاظها على حيادها في خضم رؤى مختلفة للعالم لا يمكن التوفيق بينها، إحدى أبرز السمات في مجتمعاتنا. كما تبقى الفكرة القائلة بوجود شبكة عدالة قائمة بذاتها من خلالها تُضمن الحريات الفردية ووجودها سابق على معتقداتنا {وفقًا للموقف الأصلي}، هي جوهر ما نُعلق عليه أملنا من أجل تعزيز استقرار ديمقراطيتنا التعددية.ولكن كما يُبين رولز ببراعة، فإنّ هذا الأمل يتوقف على قبول كل شخص بفضيلة المعقولية، إذ إنّ المواطنين الراضين لهذه الفضيلة يرفضون بالتبعية الفكرة القائلة بأنّهم بصفتهم مواطنين يسبق خضوعهم للقانون ما يتبنونه من معتقدات، وهذا الرفض بدوره يُفضي إلى رفض ما تستدعيه فكرة رولز عن المعقولية، أي الاعتراف بأنّ التنوع يضع قيودًا على ما يُمكننا استدعاؤه داخل المجال السياسي. يُقر رولز بأنّ فشل المواطنين في التمسك بالمعقولية يُعرض صرح الديمقراطية الليبرالية بالكامل إلى الخطر. ويتساءل رولز «ماذا إذا تبين أنّ مبدأ العدالة بوصفها إنصافًا لا يُمكنه الحصول على دعم العقائد المعقولية، ما يُفضي إلى تهاوي مسألة الاستقرار؟ حينها يواجه مبدأ العدالة مأزقًا صعبًا» (P. 65).في تسعينيات القرن الماضي عندما صدر كتاب رولز «الليبرالية السياسية»، توفر آنذاك أسباب لتفاؤل حذر حول دعم غالبية الجماعات الدينية والعلمانية للأنظمة الديمقراطية معتمدين على رؤيتهم للعالم. لكنه كان يعرف حينها أنّ تفاؤله مُفرط إلى حدٍ بعيد وكتب يوضح: «سأفترض هنا – بشكلٍ ربما يكون مُفرط للغاية- إنّه باستثناء بعض الأصوليات، ستعترف كل الأديان التاريخية والرئيسية بهذا النهج وهو ما قد يجعلها تبدو عقائد شمولية تتسم بالمعقولية» (p170). ولكن في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، يُمكننا القول إنَّ تفاؤله لم يكن له أساس. إذا كان استقرار الديمقراطيات التعددية يتوقف فعلياً على تفهم جميع المواطنين لمسألة أنّ «التمسك بتصور سياسي بوصفه معبرًا عن حقيقة كونية …هو تصور إقصائي وطائفي، وقد يعزز الانقسام السياسي» (ص129)، فإننا نواجه مشكلة عميقة. فليس أمام الليبرالية السياسية شيء لفعله في مواجهة أولئك الذين يحاولون فرض رؤيتهم الأخلاقية على المجال السياسي سوى نعتهم بحقيقة مجانبتهم للمعقولية السياسية. يُدرك رولز هذا الأمر تمامًا عندما يُناقش كيفية الرد على الأصولية «نحن نقول ببساطة إنَّ مثل هذه العقائد لا تتسم بالمعقولية السياسية، وفي خطاب الليبرالية السياسية لا داعي لقول شيء آخر».وبما أنّ لدينا القليل لنقوله في وجه أولئك الذين جانبوا المعقولية عدا الإشارة إلى افتقارها لها – وهو ما قد يُأرقهم – فإنَّ الشيء الوحيد المُمكن لليبرالية السياسية هو الاضطلاع «بمهمة احتوائهم – كما لو أنّهم حرب ومرض – حتى لا يُسقطوا العدالة السياسية» (ص64). ومن خلال رسم حدود ما يمكن تحمله بوصفه لا يتسم بالمعقولية، تسمح الليبرالية السياسية للدولة بالقضاء على الأصولية غير المتعاونة كما تفعل حيال المرض. ولكن ماذا لو استشرى المرض حد أنّ محاولة إزالته بالقوة يؤدي فحسب إلى انتشار الورم؟ وأعتقد أنّ هذا هو وضعنا اليوم.كما قلت في مُستهل المقال، تنبع قيمة فهم حُجة رولز في استيعاب أنّ متطلبات الليبرالية السياسية قد أصبحت بعيدة المنال. والحقيقة هي أنّ التحدي الذي واجهه جيل رولز لم يكن شديد الوطأة؛ «كيف يُمكن أن تتعايش معًا عقائد شديد التعارض رغم معقوليتها، وتؤيد مفهومًا سياسيًا للديمقراطية؟»، ولا يتطلب الأمر أكثر من إزالة مفردة «المعقولية» من الاقتباس السابق حتى نعرف التحدي القاسي الذي يواجهه جيلنا. فرغم النوايا الطيبة لليبرالية السياسية، إلا أنَّها لا تعد الإجابة المطلوبة، فخارج حدود المعقولية، لن يُفضي بنا الإصرار على ليبرالية رولز إلى شيء مُجْد. إذا أُريد للديمقراطية النجاح في مثل هذه الأوقات غير اللامعقولة، فإنَّنا بحاجة إلى دفاع أخلاقي عن التعددية، يأسر عقول وقلوب أولئك المفتونين بشيفونية تُقسم المجتمع.


* يعني رولز بمفهوم المعقول والمعقولية استعداد الأفراد للدخول في علاقات تعاونية من المواطنين الآخرين ضمن شروط تضع الجميع على قدم المساواة، وبالتالي فإنّ مساحة المعقول هي المجال العام. (المترجم)