محتوى مترجم
المصدر
On Generalities
التاريخ
2016/05/11
الكاتب
Luke Parker

في العام 1926، وبينما كانت الشيوعية في روسيا تعيش عصرها الذهبي عقب ثورة أكتوبر 1917، كتب فلاديمير نابوكوف، الأديب الروسي المعروف لاحقًا، تلك المقالة التي يوجّه فيها بشدة أسهم النقد إلى الماركسية ورؤيتها للتاريخ الذي تعيد فيها صياغته بحسب ما يروق لتعميماتها غير الدقيقة. كتبت تلك المقالة بالروسية عام 1926، لكنها لم تظهر بالإنجليزية إلا في عام 2016 وذلك في المحلق الأدبي للتايمز البريطانية، وهذه الترجمة هي عن تلك النسخة الإنجليزية.

يوجد شيطان مُغوٍ جدًا وخطير جدًا: شيطان التعميمات. يأسر فكر الإنسان بوسمه كل ظاهرة بعلامة صغيرة، وبدقة يضعها مع أخرى، ظواهر ملفوفة ومرقمة بعناية ومُتشَابهة، من خلاله يتم تحويل حقل للمعرفة الإنسانية متقلب كالتاريخ إلى مكتب ضئيل أنيق، حيث تنام كل هذه الحروب الكثيرة وكل تلك الثورات المتعددة في ملفات، وحيث نستطيع دراسة العصور العتيقة بأريحية كاملة. هذا الشيطان مُغرم بكلمات على شاكلة «فكرة» و«نزعة» و«تأثير» و«فترة» و«حقبة». في دراسات المؤرخين، يجمع هذا الشيطانُ ظواهر وتأثيرات ونزعات العصور المنصرمة باختزال وعي متأخر.

مع هذا، الشيطان يأتي ضجر مروع؛ المعرفة (الخطأ تمامـًا، بالمناسبة) بأنه، سواء أكانت البشرية تلعب دورًا فعّالاً أو أنها تستجيب لأحداث خارجية فقط، فإنها تتبع مسارًا لا يتغير. يجب أن نخاف من هذا الشيطان؛ إنه مخادع، إنه بائع للقرون، يضع أمامنا قائمة أسعاره التاريخية.

وأشنع شيء، ربما، يحدث حينما يأسرنا إغراء التعميمات المريحة للغاية أثناء تأملنا، لا في الأزمنة القديمة البالية، لكن في هذا الوقت الذي نعيش فيه. لا يهم أن روح التعميم في نضالها من أجل إراحة الرأس قامت بتعميد سلسلة طويلة من السنوات البريئة تمامـًا باسم «العصور الوسطى». لا يزال بمقدورنا الصفح عن هذا؛ فربما أنقذ طلاب المدارس المعاصرين من كوارث أسوأ.

لا يهم أنه في غضون 500 عام أو ما يقرب من هذا، سيسقط القرن العشرون ومعه عدة قرون أخرى في ملف بعنوان تخيلي صغير أو آخر غيره، مثلاً: «العصور الوسطى الثانية». هذا لا يهمنا، رغم أنه من الممتع التفكير في القرن العشرين الذي سيعرض نفسه أمام خيال أستاذ تاريخ بعد 500 عام أو أكثر، والضحك الصاخب الذي سينتابنا حينما ننظر إلى الكتب المدرسية المستقبلية. لكن المرء يتساءل: هل نحن حقًا مُلزمون بتسمية قرننا بطريقة ما؟، وألن تسخر منا محاولاتنا هذه؟، حينما تقوم في كتب صغيرة سميكة بإثارة خيالات رجال المستقبل الحكماء؟.

بإمكانك تجميع تلك الحوادث وربطها في باقة من الفترات والأفكار، لكن رائحة الماضي الرقيقة تضيع خلال العملية. ونحن نرى الآن، لا ما كان، لكن ما نتمنى رؤيته.

رجل حكيم مثل هؤلاء، مؤرخ ذو عقل ثاقب [1]، كان يعمل ذات يوم على وصف لإحدى الحروب القديمة، حينما وصلت إلى أذنيه فجأة ضجةٌ من الشارع. كان حشد يحاول التفريق بين رجلين يتقاتلان، ولم تتمكن مشاهدته للعراك ذاته، ولا عبارات الرجلين المتعاركين، ولا تفسيرات المتفرجين، من إعطاء المؤرخ الفضولي صورة دقيقة عما حدث بالضبط. تأمل في حقيقة أنه من المستحيل حتى الوصول إلى عمق عراك حدث مصادفة في الشارع، والذي شهده بنفسه. أعاد قراءة وصف الحرب القديمة الذي كان يعمل عليه وفهم كم كانت اعتباطية وعشوائية مجادلاته العميقة عن تلك الحرب. دعونا نعترف لأنفسنا، مرة وإلى الأبد، أن فكرة التاريخ كعلم دقيق هي فكرة مريحة فحسب «من أجل الناس البسطاء»، كما اعتاد حارس المتحف أن يقول، وهو يعرض جمجمتين -في الشباب والشيخوخة- لمجرم واحد فقط.

إذا كان كل يوم من أيام إنسانٍ ما سلسلةً من حوادث الصدفة، وفي هذا تكمن قدسيتها وقوتها، إذن فتاريخ الإنسانية هو أقرب لكونه مجرد مصادفة. بإمكانك تجميع تلك الحوادث وربطها في باقة من الفترات والأفكار، لكن رائحة الماضي الرقيقة تضيع خلال العملية. ونحن نرى الآن، لا ما كان، لكن ما نتمنى رؤيته. بالصدفة يصيب قائدًا ألمٌ حادٌ في معدته، فتُستبدل سلالة ملكية جليلة بسلالةِ قوةٍ مجاورةٍ. بالصدفة تصيب غريبَ أطوارٍ رغبةٌ لأن يُبحر عبر المحيط، فتتبدل التجارة وتغتني أمة ذات سواحل بحرية. فلماذا حقًا نحذو حذو أعداء المجازفة المتناقضين هؤلاء، الجالسين لسنوات بين الجوخ الأخضر في كازينو مونت كارلو يحسبون كم لفة ستنتهي على الأحمر وكم على الأسود؟، كل هذا من أجل إيجاد نظام مُؤمَّن ضد العطب؟، لا يوجد نظام. عجلة الروليت التاريخية لا تعرف قانونـًا. كليو [2] تضحك على كليشيهاتنا، على تحدثنا بجرأة ومهارة وحصانة عن التأثيرات والأفكار والميول والفترات والحقب، وعن كيفية استنتاجنا للقوانين وتنبؤنا بالمستقبل.

هذه هي الكيفية التي يُعالج بها التاريخ. لكنني أكرر: إن الأمر أكثر إرعابـًا بمائة مرة حينما يتسلل شيطان التعميمات إلى أحكامنا عن حقبتنا المعاصرة. وما هي حقبتنا بالضبط؟، متى بدأت؟، في أيّ عام؟، أيّ شهر؟. حينما يستعمل الناس كلمة «أوروبا»، ما الذي يقصدونه؟، أيّ دُول؟، تلك التي في «المركز» فحسب، أم أن البرتغال والسويد وآيسلندا أيضا مركزية؟. حينما تعطي الجرائد بحبها الخاص للاستعارات الرخيصة عنوانـًا لمقالة هو «لوكارنو»[3]، فأنا أرى جبالاً وشمسـًا تلمع فوق المياه وشارعـًا من أشجار الدلب. حينما ينطق الناس كلمة «أوروبا» بذات التنغيم الاستعاري التعميمي، لا أرى شيـئًا، بما أنني لا أستطيع أن أتخيل في الوقت نفسه أرض وتاريخ السويد ورومانيا ومثلاً إسبانيا.

وحينما، ارتباطـًا مع هذه الأوروبا غير الموجودة، يتكلم الناس عن حقبة ما، أعجز عن أن أفهم متى بدأت هذه الحقبة، وكيف بالضبط يمكن أن يكون لها الوزن نفسه عليّ وعلى إيفانوف وعلى مستر براون وعلى مسيو دوبونت. أنا مجبر على استنتاج أن مُحاوري يتحدث عن آخر عامين أو ثلاثة، أن الحدث يتم في نفس البلدة التي يعيش فيها—برلين مثلاً—وأن الهمجية التي يناقش أمرها يعود تاريخها فقط إلى ظهور قاعات الرقص في شارع كورفورشتيندام. بمجرد أن أفهم هذا، فجأةً يصبح كل شيء أبسط. لسنا نتكلم إذن عن شيء عام ومبهم وجمعي. نحن نتكلم عن قاعة رقص في مدينة برلين خلال السنة الرابعة أو الخامسة أو السادسة والعشرين من هذا القرن. بدلًا عن أن تكون روحـًا كونية، فهي ببساطة موضة اعتباطية. وهذه الموضة ستنقضي كما انقضت مرات كثيرة من قبل.

من المثير للاهتمام كيف أن رقصات كرقصات فو السوداء [4] كانت موضة في أيام حكومة المديرين الفرنسية. الآن، كحينها، لم تعد تحمل أيّ إثارة جنسية أكثر مما كان في رقصة الفالس. من المثير للاهتمام أنه في تلك الأيام حينما كانت السيدات يضعن ريشات عجيبة في قبعاتهن، كانت الأخلاق تذرف دموعـًا على فترات الظلمة المخزية. وهكذا، إن كنا سنتكلم عن الموضة، فسيكون الكلام مثيرًا وتثقيفيـًا. نستطيع أن نتكلم عن الطبيعة الاعتباطية للموضة، عن أن الموضة غير مرتبطة أبدًا بأيّة ظاهرة أخرى في حياة الإنسان، عن حقيقة أنه، على سبيل المثال، في أيام كتابة مدام دو سوفينيه لرسائلها، كانت قصات الشعر القصيرة منتشرة على الجبهة.

دعونا نتذوق عصرنا كالوثنيين والأرباب: بآلاته المدهشة وفنادقه العملاقة، التي سيعتز المستقبل بأطلالها كما نعتز بالبارثينون.

«الصدفة يا دونا آنا، الصدفة»، كما قيل في الضيف الحجري [5]. الموضة اعتباطية ومتلّقبة. الموضة في برلين لا تشبه أبدًا الموضة في باريس. يرتبك الرجل الإنجليزي لدى رؤيته الكثير من سكان برلين يتمشون وهم يلبسون بناطيل الجولف الواسعة: بالتأكيد لا يلعب نصف سكان برلين الجولف طيلة اليوم؟

ومجددًا، إذا تحول كلامنا إلى الرياضة، فنحن في حاجة لأن نحدد أيّ شعب، أيّ دولة، أيّ سنوات بالضبط نقصدها. وهنا ينبغي علينا استدعاء شخص مُلم جيدًا بتاريخ الرياضة، سيشرح لنا أنه في ألمانيا، الرياضة في بداية ظهورها، وهي سريعة في ذلك إلى حد ما، وهي لأجل هذا جذابة للغاية. كرة القدم تحل مكان العروض العسكرية، والتنس مكان ألعاب الحروب. إذا وجهنا اهتمامنا إلى الرياضة في دول أخرى، فسنجد على سبيل المثال، أنه في إنجلترا ما زالت كرة القدم تُحمّس الجمهور بنفس الشكل منذ خمسة قرون وحتى الآن، وأنه في فرنسا لا زالت قائمةً نفسُ قاعات التنس التي كانوا يلعبون فيها منذ القرن الرابع عشر، واليونانيون يلعبون الهوكي ويضربون كرة الملاكمة. الرياضة—سواء الصيد أو بطولات الفروسية أو مصارعة الديكة أو اللابتا الروسية القديمة الجيدة [6]—دائمـًا ما أدت وظيفة تسلية وإمتاع الجنس البشري. أن نبحث عن دلائل الهمجية فيها هو فعل لا معنى له أصلاً؛ لأن الهمجي الحقيقي هو دائمـًا الرياضي السيئ فحسب.

يجب ألا نعيب زماننا؛ إنه رومانسي لأقصى درجة وذو روحانية جميلة ومريح ماديـًا. الحرب، كأيّ حرب، دمرت أشياء كثيرة؛ لكنها مرت، التأمت الجراح فوقها، والآن، بالكاد نستشعر أيّ عواقب مزعجة بشكل خاص، مع إمكانية استثناء تقرّحات الروايات الفرنسية السيئة عن الحرب.

وبالنسبة لهبّة الثورة، هي أيضـًا، كما ظهرت بالصدفة، ستختفي بالصدفة، كما حدث ألف مرة في التاريخ البشري. في روسيا، ستُستبدل الشيوعية الحمقاء بشيء أذكى، وفي خلال مائة عام لن يتذكر السيدَ يوليانوف [7] المغرقَ في الغباء سوى المؤرخين.

لكن في هذه الأثناء، دعونا نتذوق عصرنا كالوثنيين والأرباب: بآلاته المدهشة وفنادقه العملاقة، التي سيعتز المستقبل بأطلالها كما نعتز بالبارثينون؛ بالمقاعد الجلدية ذات المساند المريحة للغاية، التي لم يعرفها أسلافنا؛ بالأبحاث العلمية الدقيقة جدًا؛ بحس فكاهته اللطيف، والأهم، نكهة الخلود فيه، التي كانت وستكون حاضرة أبدًا في كل قرن.


[1] حكاية مشكوك في صحتها، عن سير والتر رالي ومؤلفه «تاريخ للعالم»، الذي نشر من أجزائه الخمسة المخطط لها جزءًا واحدًا فقط.[2] كليو: ربة التاريخ في الميثولوجيا اليونانية.[3] منتجع سياحي في جنوب سويسرا، كان في عام 1925 مقرّ مؤتمر عن حدود ما بعد الحرب العالمية الأولى.[4] رقصات جاز كالشارلستون، نشرتها في أوروبا القرن العشرين الراقصة الأمريكية السوداء جوزيفين بيكر. وحسب ما يقوله الكاتب، كانت منتشرة في فرنسا أصلاً في عصر الثورة الفرنسية.[5] دراما شعرية لألكسندر بوشكين، في كتابه: التراجيديات الصغيرة.[6] رياضة روسية قديمة تعتمد على الكرة والمضرب.[7] اسم عائلة لينين الحقيقي.