يغلف التوتر المكتوم الأجواء في بيت عم أحمد رغم الجو الجميل المميز لصباح شم النسيم. استكمل ابنه الاستعدادات للموسم السنوي، وأكدَّ مرارًا على صديقه سائق التاكسي أن يكون على أهبة الاستعداد انتظارًا لمكالمته الطارئة في أي وقت.

عم أحمد ذو الستين عامًا، والذي كان – ولا يزال – يدخن بشراهة، ومريض ب ارتفاعالضغط المزمن، أصيب منذ سنوات ب جلطةفيشريانالقلبالتاجي سبب ضعفًابعضلةالقلب. يعتبر عم أحمد أن الأطباء هم أشخاص غير مرغوب بهم، أهدروا سبع سنواتٍ من عمرهم في كلية الطب اللعينة لكي يحصلوا في نهاية الأمر على رخصة لتكدير صفو حياة البشر، وفرض الإملاءات عليهم، و تنغيص يومهم بجرعات صباحية ومسائية وبعد ظهرية من الأدوية!

من ضمن 6 أنواع من أدوية القلب التي وصفها له الأطباء، لا يعترف عم أحمد سوى بواحد أو اثنين.

أما الذي يثير حنقه وغضبه فعلًا فهو التعليمات الكثيرة التي تتعلق بالتدخين والطعام خاصة الامتناع عن الأكل المالح الذي يذوب فيه عشقًأ سواءً في ذلك الجبنة المالحة – المش – أو المخلل بمختلف أنواعه، أو درتيْ القلب والبطن .. الرنجة، والفسيخ الحبيب.

حاول أولاد عم أحمد عبثًا مساعدته على الانتظام في الدواء والغذاء، لكن قوة شخصيته وعناده ومكابرته استعْصَت على كل محاولاتهم. وهاهم يستعدون للاحتفال السنوي بشم النسيم في عناية القلب بالمستشفى الجامعي.

انتقى عم أحمد 3 كيلو جرامات من الفسيخ الجيد – في نظره – وجلست الأسرة كلها حول مائدة الفسيخ في ترقب يفسد قدرًا من متعتهم بعطلة شم النسيم وطقوسها.

«لا تقلقوا.. لقد أخذت دواء الضغط ومدر البول هذا الصباح. ولن آكل سوى شريحة صغيرة فقط». نظروا إلى بعضهم نظرات مختلسة تفيض بالشك التام فيما سمعوا.

باقي القصة مضت كالعام السابق؛ الشريحة الصغيرة تحولت إلى فسيختيْن من العيار الثقيل. استيقظ عم أحمد بعد نصف ساعة من راحة بعد الغداء على ضيق شديد في التنفس. اتصل ابنه سريعًا بصديقه، وفي خلال ربع ساعة كانوا ينهبون الطريق نهبًا إلى استقبال طوارئ القلب، وهناك بدا كأن الأطباء كانوا في انتظار عم أحمد. «يبدو أنك متخصص في المناسبات والأعياد يا عم أحمد» قالها الطبيب ممازحًأ لتكسر جو التوتر. كان ضغط عم أحمد 230/140، وبدا عليه الإعياء الشديد، وسابقت أنفاسه عقرب الثواني، فنقلوه مسرعين إلى العناية.

لكن لم تكن نهاية القصة كالعام الماضي؛ فبعد أكثر من ساعتين في عناية القلب، فشلت أجهزة دعم التنفس CPAP، والجرعات الفلكية من مدرات البول الوريدية، وغيرها في لجم الارتشاحالرئوي الشديد، رغم تحسن الضغط جزئيًـا، وبدأت وظائف التنفس في الفشل التام، فاضطر الأطباء لتركيب الأنبوبة الحنجرية ووضع عم أحمد على جهاز التنفسالصناعي.

بعد عدة أيام خرج عم أحمد من المستشفى، لكن ليس على قدمه كالمرات العديدة السابقة، إنما محمولًا على المحفة في كفنه؛ حيث لم تتحسن حالته على التنفس الصناعي، وأصيب بالتهاب رئوي شديد على جهاز التنفس VAP، وانتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى.

لماذا يكون الفسيخ ضيفًأ ثقيلًا على القلب؟

في ظل وجود الملايين من المصابين بارتفاع الضغط، ومثلهم من المصابين بضعف عضلة القلب، ونسبة معتبرة من الجامعين بينهما، فإن كمية الأملاح الجنونية التي يحتويها الفسيخ هي تذكرة مضمونة لدخول طوارئ القلب.

شريحة صغيرة من الفسيخ كفيلة بجعل ضغط الدم يحلق في السماء لدى مرضى الضغط، وما قد ينجم عن هذا من كوارث Hypertensive emergencies كنزيف المخ، أو الارتشاح الدماغي/ brain edema الذي يؤثر على درجة الوعي hypertensive encephalopathy أو الارتشاح الرئوي، أو شرخ جدار الأورطي/ Aortic dissection.. الخ هذه الطوارئ القاتلة.

وتزداد خطورة الأمر مع مرضى ضعف القلب، فالملح المركز في الفسيخ، يرفع نسبة الملح في الدم، فتزداد أسموزية الدم، فيجتذب الكثير من الماء من مختلف أنسجة الجسم، فيزداد حجم الدم كثيرًا hypervolemia، فلا تستطيع مضخة القلب المتهالكة التعامل مع هذه الحمولة الزائدة، فيتراكم الدم في الرئتين lung congestion، ويرتشح منه الماء الزائد إلى حويصلات الرئة الهوائية، فيصعب التنفس والتبادل الغازي عبرها. وهذا هو الارتشاح الرئوي، وهو من الطوارئ المميتة التي تحتاج إلى تدخل علاجي عاجل للغاية.

آثرت علاقة الفسيخ بالقلب والضغط، بالنصف الأول من المقال، لشيوعها، وخطورتها، ولأن حدوث كوارثها لا علاقة له بجودة الفسيخ أو الإشراف الصحي السليم على خطوات صناعته.

قسم السموم — المنتجع التقليدي لهواة الفسيخ

والتنزه في المشافي في عيد الربيع ليس حكرًا فقط على طوارئ وعنايات القلب، إنما لأقسام السموم نصيبها من هذه السياحة الرائجة للأسف.

لن نشغل بالنا هنا بالنزلات المعوية المعتادة، التي قد تحدث نتيجة عدم الالتزام بالمعايير الصحية في إعداد الطعام إجمالًا،والفسيخ خصيصًا،والتي تشيع خاصة في المواسم كشم النشيم نتيجة ضغط الطلب الزائد الذي يكون على حساب الجودة والسلامة. إنما سنركز على نوع خاص جدًا، ومميت جدًا من التسمم يمتاز به الفسيخ في حالة فساده أثناء خطوات تصنيعه أو تخزينه، وكذلك الطعام المعلب في صفائح canned food سيء التخزين. إنه تسمم البوتيوليزم Botulism.

يكفي أن تعرف أن هذا السم العصبي neurotoxin الذي تنتجه بكتيريا الكوليستريديم بوتيلينيم Clostridium Botulinum والتي تترمم وتتكاثر في الأوساط المتعفنة، قادر في ساعات قليلة أو أيام أن يغلق النقل العصبي العضلي neuro-muscular junction فيسبب شللًا عامًا في عضلات الجسم، بما فيها عضلات التنفس. فيحدث فشل شديد في وظائف التنفس، فلا يكون هنا من علاج سوى التنفس الصناعي على أمل تحسن الحالة باستخدام الأجسام المضادة لسم البوتيلينيم Botulinum anti-toxin، وعودة العضلات للعمل تدريجيًا.

لكن هناك بضع معلومات غير سارة بخصوص هذه الأجسام المضادة:

أولًا: ليس لها فعالية في إيقاف تقدم الحالة إلا إذا أعطيت بالكميات الكافية خلال الساعات الأولى من التسمم بينما السم لا زال في الدورة الدموية ولم يتراكم بعد في الوصلات العصبية العضلية.

ثانيًا: يبلغ ثمن العبوة الواحدة منها ٣٠ ألف جنيه، وقد يحتاج المريض الواحد ٣ عبوات منها.

ثالثًا:صرحت وزارة الصحة المصرية بأن مخزونها من عبوات مضاد البوتيوليزم هذا الموسم هو 130 عبوة، وهي الكمية التي قد لا تكفي ٥٠ مريضًا من ضمن الآلاف الذي يكونون في دائرة الخطر في هذا الموسم.

رابعًا: بعض أنواعها المشتقة من دماء الحيوانات، قد تسبب حساسية شديدة تمنع إعطاءها للمريض.

ما العمل؟

1. الوقاية قطعًا خير من التنفس الصناعي والوفاة، أو حتى مجرد أن تقضي 10 دقائق في مستشفى الطوارئ بينما غيرك يحتفلون في المتنزهات العامة، ويشمون النسيم الحقيقي.

2. إن كنت لابد فاعلا، فاشترِ من مكانٍ حسن السمعة، مضمون الجودة والنظافة. ثم تسخين الفسيخ إلى درجة حرارة 100 درجة مئوية لمدة عشر دقائق على الأقل.

3. الانتقال فورًا إلى الطوارئ في حالة ظهور الأعراضالأولية لتسمم البوتيوليزم وأغلبها نتيجة ارتخاء وشلل عضلات الجسم ابتداءً بالوجه إلى أسفل (ازدواج الرؤية – ارتخاء الجفون – صعوبة البلع – صعوبة النطق slurred speech – صعوبة التنفس – جفاف الفم.. ).

وكفانا الله وإياكم نسيم المشافي، وكان في عون الأطقم الطبية النوبتجية في هذا الموسم الصعب.