بينما تسعى مصر اليوم لتجديد بنيانها الاقتصادي بعدما تبيّن تأزمه الشديد واستحالة استمراره على حاله؛ ما تجسّد عموماً في أزمات اقتصادية واجتماعية عامة، وتجلّى خصوصاً في أزمات مالية ضخّمت مديونياتنا الداخلية والخارجية، وأزمات نقدية هوت بجنيهاتنا ومدخراتنا القليلة إلى قاع لن تخرج منه قريباً، يصبح واجباً إعادة النظر في مُجمل مسارنا الاقتصادي وما يرتبط به من سياسات.

وهو ما لن يحققه برنامج «اسطمبة» وضعه صندوق النقد الدولي كما لو كان قرآناً مُنزلاً، لا يأتيه الباطل من بين يديه؛ فلا يقبل نقاشاً ولا مراجعةً، بل إن ما نحتاجه هو دراسة جادة لواقعنا المُحدد تنطلق من وعي عام بما تعنيه التنمية التي تم قتلها منذ انتهجت مصر سياسات الانفتاح؛ فتركت سوقها المحلي نهباً لمصالح القوى الإقليمية والدولية وعُرضةً لتقلبات رياح رءوس الأموال الساخنة، فضلاً عن عدم علاج جذور المشكلات وتركها تستفحل بالتأجيل والمسكنات التي لا تشفي مريضاً.

وربما تطلب هذا عودةً لتناول المفاهيم الأولية من جديد كجزء من حالة الجدل العام وفتح أبواب النقاش حول مسارات المستقبل؛ مما يفرض إعادة طرح ومناقشة مفهوم التنمية كهدف جوهري لكافة الأمم منذ الحرب العالمية الثانية، وكمحور للجدل العام يجب استعادته كقضيتنا المركزية كبلد مشكلته المركزية هي «التخلف» الذي يتطلب التطوير الهيكلي للاقتصاد والتخطيط الشامل لمساراته، لا «الفقر» الذي لا يعدو أن يكون مظهراً يدفعنا دائماً لاختصار المشكلة في جانبها المالي!


خطّان في فلسفة التنمية

ولهذا يرتبط فهم التنمية بفهم التخلف، فنظرية التنمية تنبني ابتداءً على نظرية في التخلف؛ وهكذا يمتد الخطان السائدان في فهم التخلف لفهم التنمية، فالخط الذي يرى التخلف مجرد حالة تأخر وفقر ينطلق منه الخط الرأسمالي الرسمي في نظرية التنمية بمجموعة نظرياته التي تتمحور في أغلبها حول الحل الكمّي لقضية التنمية، بينما يمتد الخط الذي يرى التخلف حالة كيفية هيكلية ليكون الخط المعارض، الذي يجمع في أغلبه اليسار الاشتراكي والعالمثالثي بتنوعاتهما، في نظرية التنمية بمجموعة نظرياته التي تتمحور حول التغيير الكيفي والتطوير الهيكلي للواقع الاقتصادي للعالم المتخلف .

وهكذا فهناك خط يميني يقدم البعد الكمّي على البعد الكيفي في فهم التخلف والتنمية؛ حيث إن هيمنته على الموارد وقوى الإنتاج، وعلى عوائدها تجعل من مصلحته التركيز على تنميتها كمياً دون مساءلة كيفيتها أو هياكلها أو علاقاتها، بما قد تطرحه من تعديلات تمس مصالحه أو تهز هيمنته، فهو يركز فقط على كفاءة الإنتاج أو الكفاءة الداخلية، في مقابل خط يساري يرى البعد الكمي في إطار وسياق البعد الكيفي الذي له الأولوية، فالبعد الكمي محكوم بقيود البعد الكيفي، من علاقات كيفية وتركيب هيكلي وغيرها، مما يعني التركيز على كفاءة التخصيص وكفاءة التوزيع، والنظر لأشكال الكفاءة الثلاثة باعتبارها مترابطة ومتبادلة التأثير والتأثر.

ولا يعني هذا بالطبع نقاءً نظرياً من أي نوع، ففي الفكر كما في الواقع، هناك دائماً توليفات من الخطوط المتناقضة في النظريات الواقعية، وهكذا فكافة نظريات التنمية تقريباً تحمل توليفةً ما من الخطين، لكن بدرجة يغلب معها خط على الآخر، أحياناً بدرجة ساحقة وكان هذا غالباً مع النظريات البسيطة الأولى في التنمية، وأحياناً بدرجات بسيطة متفاوتة كما هو حال أغلب النظريات الأكثر تعقيداً وتطوراً، التي ثقلتها التجربة وزادت وعيها بتعقيدات الواقع الذي يحمل الوجهين الكمي والكيفي.


التنمية كتجاوز لحالة التأخر والفقر

الخط الأول في التنمية هو الخط الذي يرى التخلف مجرد حالة تأخر كمي بالأساس؛ فيخفضه ليساويه بمجرد الفقر، فالدول المتخلفة فقط تعاني من الفقر بأبعاده وضعف التكوين الرأسمالي والضعف التكنولوجي، وما ينبثق عنهما من مجموعة سمات أخرى تمثل وضعية التخلّف، وهكذا يتم اختزال حالة التخلف في مجموعة مؤشرات رقمية وحالات معيارية، دونما تعمّق في تاريخ تكوّنه والأبعاد الاجتماعية والسياسية الأعمق لحالة التخلف، وهكذا تنوعت الاجتهادات النظرية المحافظة حوله في خمسة اتجاهات أساسية نظرت له باعتباره:

  1. مجرد تأخر زمني لن تلبث الدول المتخلفة أن تتجاوزه بالعبور السلس من مرحلة نمو إلى أخرى وفقاً لمخطط ويتمان روستو الخماسي.
  2. حاصل جمع مجموعة من السمات الكمية كانخفاض مستوى الدخل وارتفاع معدلات النمو السكاني وضعف التقنية والتكوين الرأسمالي والمستوى التعليمي والصحي وغياب المنظم الرأسمالي وغلبة الزراعة .. إلخ.
  3. نظام من العلاقات التبادلية الدائرية التي تعيد إنتاجه وتشلّ النمو، سواءً كانت في صورة الحلقة المُفرغة للفقر (راجنار نيركسه) أو توازن الكفاف شبه المستقر (هارفي ليبنشتين) أو تعمّق تراكمي دائري لعوامل التخلف (جونار ميردال).
  4. نتاج لأسباب نفسية واجتماعية من قيم اجتماعية وأفكار دينية وغياب لروح المغامرة وغيرها من سمات المجتمعات التقليدية والزراعية (جوزيف شومبيتر وريمون آرون وألكسندر جرينشنكرون وإيفرت هاجن وغيرهم)، أو لاحقاً في أكثر الاجتهادات تطوراً.
  5. نتاج لحالة الثنائية والاختلال القطاعي ما بين قطاع أجنبي حديث وقطاع محلي تقليدي بكافة انعكاساته إنتاجياً وتجارياً ونقدياً.. إلخ (بويكه وآخرون).

ومما يجمع التفسيرات السابقة للتخلّف، ويفرقها عن التفسير التقدمي المُتجسد في نظرية التبعية، هو أنها لا تعطي وزناً ذا بال – إن أعطت – لطبيعة ودور النظام الرأسمالي وحركته الاستعمارية في هذا التخلّف، ولا تهتم بطبيعة الحال بكونه نتاج علاقة جدلية استغلالية بين مراكز وأطراف، بل تنطلق صراحةً أو ضمناً كما قال توماس وارك من:

تفسير وجود حالة التخلف باعتبارها حالة أصلية أولية أو باعتبارها مرحلة انتقالية طبيعية من تطور طبيعي من حالة بدائية أولية تتحرك باتجاه النضج، …، فمعظم المُنظرين عادةً ما يقبل دونما تحفظ هذا التفسير الانعزالي غير الديالكتيكي للتخلف والتطور… كأوضاع قابلة للمقارنة، لكنها مُستقلة عن بعضها البعض

وهكذا تتمحور نظرية التنمية حول تجاوز هذه الوضعية من خلال الدفع الكمّي للنمو الاقتصادي – بمجرد مراكمة الادخار والاستثمار – باعتباره محور ومحرك كافة التغيّرات الأساسية في البناء الاقتصادي والاجتماعي، فكافة سمات التخلف سيتم تجاوزها من خلال نمو اقتصادي – على هامشه تغييرات اجتماعية وسياسية وثقافية – يسير على ذات المسار التقليدي الذي انتهجته الدول الرأسمالية بعد ثورتها الصناعية، وهذا هو جوهر نظريتي التحديث والانتشار، اللتان تتجسّدان اقتصادياً في التصنيع واجتماعياً في التحضّر، إلى جانب تجسّدات أخرى.


التنمية كمواجهة لحالة التخلّف الهيكلي

أما الخط الثاني، في التنمية فيرى التخلّف بالأساس كحالة هيكلية وعملية تاريخية وعلاقة ضمن نظام عالمي، فهو اختلال هيكلي داخلي نتج تاريخياً عن الإدماج القسري لدول أفريقيا وآسيا في النظام الرأسمالي، ضمن علاقة استغلال عالمية وهيمنة استعمارية لصالح المراكز الرأسمالية، فالتخلف كما وصفه الدكتور محمد دويدار:

عملية تاريخية وليس مجرد حالة يوجد عليها المجتمع، … ، عملية خلق نوع من الالتواء الهيكلي، عملية تحوّل تاريخي لهيكل الاقتصاد القومي لكي يتم الإنتاج أساساً استجابةً لاحتياجات الاقتصاد الأم

هذا الإدماج القسري هو ما شوّه الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للدول المُستعمَرة، سواءً بسبب اختلال العلاقة بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج بفرض علاقات إنتاج رأسمالية أكثر تقدماً في ظل قوى إنتاج متخلفة؛ مما أخلّ بمنطق التطور الطبيعي لهما من سبق الأخيرة على الأولى ودفّعها لها، هذا من جهة، أو من جهة أخرى بسبب الارتباط بعلاقات مُشوهة باقتصادات المراكز الرأسمالية ولصالحها؛ مما أنتج تطوراً وحيد الجانب مُختلاً قطاعياً لصالح القطاعات المرتبطة بتلك المراكز، دون تطوير موازٍ في باقي القطاعات، وأحياناً على حسابها؛ بما شوّه تخصيص الفائض الاقتصادي على القطاعات، ومنع التكامل الداخلي للاقتصاد بمُجمله.

وعلى أساس هذا التصوّر تكونت نظرية تنمية عامة ترى في ضوء تلك الخلفية التاريخية استحالة تكرار التجربة التاريخية للدول الرأسمالية، بل وترى أن الأوضاع المتخلفة عن الاستعمار من تبعية وارتباطات استقطابية تعمل على تكريس واستمرار التخلف؛ فيجب مواجهتها وتجاوزها سواء بفك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي نفسه، أو بإعادة هيكلته باتجاه نظام عالمي جديد أكثر عدالة وأقل استبدادية؛ لتحقيق الاستقلالين السياسي والاقتصادي بكافة أبعادهما، وإنجاز التحوّل الاجتماعي داخلياً الذي يقضي – ولو جزئياً – على الطبقات المُستغلِة الطفيلية التي تهدر الفائض وتسيء تخصيصه؛ فتعوق النمو وتكرّس التبعية للمراكز الرأسمالية.

والسؤال الآن: تُرى ما الذي يصلح لمصر في ظل واقعها الحالي، وما الذي تحتاجه في هذه المرحلة من تاريخها، وما هو الاستراتيجي والتكتيكي في تعاملها مع هذه الخطوط؟

لكن لهذا حديث آخر.