لم يقم فضل الرحمن في كتابه «المسائل الكبرى في القرآن» بتحديد المفاهيم الكبرى في نظام الإسلام العقدي فحسب، بل حدد كما قلنا مفاهيم ثلاثة مركزية تمثل نواة لهذا النظام وسعى لربط بقية المفاهيم بها. هكذا مثلا فعل حين جعل مفهوم الطبيعة مفهوما متعالقا بمفهوم «الحساب»[1]، لكن الغريب أن فضل لم يفعل نفس الأمر مع مفهوم الشيطان، هذا رغم تخصيصه فصلا كاملا عن الشيطان بعنوان «الشيطان والشر» .

ورغم التعرض لكون الشيطان لا يمثل في الإسلام مبدأ مستقلا للشر مثلما هو الأمر في بعض الأديان الثنوية، فإن موضعة للشيطان من المفاهيم الثلاثة لم تتم، فلم يتم التعرض لعلاقة مفهوم الشيطان بمفهوم التوحيد.

(نستخدم طوال هذه المقالات مفاهيم «التوحيد» «حقل التوحيد المفاهيمي» «صورة الإله التوحيدي» «الله» بنفس المعنى).

ربما يرجع ذلك لكون نظرة فضل للشيطان تجعله مفهوما متعلقا بالإنسان لا بالله. يقول فضل «أنشطة الشيطان تتخذ مجالها في الإنسان وما يحيط به» (ص244)، «فهو في الحقيقة عدو لبني آدم، لأن الله سبحانه وتعالى بعيد عنه كل البعد» (ص243). ففي ظل رؤية كهذه تقصي الشيطان عن مجال الإلهي يصبح البحث عن علاقة الشيطان بمفهوم الإله التوحيدي أمرا مستبعدا بالفعل حيث تتقلص حركته و أهميته في البعد الإنساني فحسب.

نستطيع أن نلمح في نظرة فضل هذه للشيطان ما قد قلناه في المقال السابق عن افتقار تقنيته المستخدمة لاستخراج المسائل الكبرى في القرآن لكرونولوجية شديدة الأهمية.

فصحيح أن نظرة على النص كبنية ساكنة سيوصلنا لكون الشيطان مفهوما متعلقا بالإنسان لا بالله مما يجعل البحث في علاقته بالتوحيد أمرا لا فائدة منه، لكن ما نحاول المحاجة عنه هنا هو أن نظرة كرونولوجية للنص ستطلعنا على أن تحويل الشيطان لمفهوم متعلق بالإنسان لا بالله هو فحسب نتيجة لفعل أرشفة تم على مراحل متعددة كانت هي نفس مراحل تشكل صورة الإله التوحيدي، مما يربط بين مفهومي «الشيطان» و«التوحيد» ويجعل تتبع فعل الأرشفة هذا مهما لفهم أدق لمفهوم التوحيد نفسه.

لكن الأمر لا يقتصر على افتقار تقنية فضل للكرونولوجية، في الحقيقة فإن تطبيق فضل لتقنينه التي تزاوج بين التحليل المفهومي والتنبه للسياق التاريخي هو نفسه كان استخداما غير دقيق وشارك في إنتاج هذه النظرة عن شيطان متعلق بالإنسان فحسب، وإهمال بحث علاقته بمفهوم التوحيد، حيث أننا نجد منه عدم اطراد في استخدام العامل التاريخي لتحديد مفهوم الشيطان.

فبالعودة للسياق التاريخي الجاهلي وتبين موقع الشيطان داخل نظامه العقدي تطلعنا على كونه معبودا (وهو أمر للمفارقة يذكره فضل لكن لا يشغله أو يستفيد منه ص242)، مما يربطه بتوحيد العبادة أحد المفاهيم في حقل التوحيد المفهومي المتشكل في مواجهة النظام الجاهلي، أي ما يجعله مفهوما متعلقا بالله لا بالإنسان فحسب.

إن تقليص فعالية الشيطان و تحويله لعدو للإنسان لا يملك عليه أي سلطان هو فعل مرتبط تماما بمفهوم التوحيد

ثم يقع أيضا فضل في خطأ آخر وهو أنه في تحديده مفهوم التوحيد نفسه قد سقط على العكس هذه المرة في المبالغة في التسييق التاريخي على حساب تغييب التحليل المفهومي، حيث لا يتصور فضل التوحيد إلا كتوحيد عبادة يواجه شرك العبادة (عبادة الأصنام) عند قريش، مما يضيع ما يسميه السواح توحيد التصريف (المؤمنة به قريش)، وهو الخصيصة التي تميز الدين الإبراهيمي مفهوميا عن الأديان الثنوية التي هي بالمناسبة توحيدية في العبادة.

وكون التوحيد الإسلامي مرسوما في مواجهة التصريف لا فقط العبادة هو أمر شديد الوضوح لا في التحليل المفهومي للتوحيد فحسب بل في آيات القرآن؛ يظهر هذا في الموقف من السحر الذي يتم ربطه بالشياطين وبالكفر «وما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر» فالشياطين هنا هي التي تنازع الله الواحد التصريف لا العبادة فحسب، وربطها بالكفر كمفهوم متعالق بالإيمان بالله الواحد يعني تعالق مفهوم «التصريف» بمفهوم التوحيد.

لذا فإن قضية الشيطان تصبح قضية أعمق من كونها مفهوما متعلقا بالإنسان كما يقول فضل؛ إنه مفهوم متعلق بمفهوم التوحيد نفسه و ضروري لفهمه، حيث يُدخِل «التصريف» كمفهوم داخل حقل التوحيد المفاهيمي (أو صورة الإله التوحيدي) إلى جانب «الإفراد بالعبادة» و«المفارقة».

أيضا فإن التسييق التاريخي يبرز لنا صراعا آخر يقوده مفهوم التوحيد أثناء تشكله مع الشيطان، لا يقوم هذه المرة فوق أرض العبادة أو التصريف فحسب (ألم نقل أن الشيطان مفهوم متعدد؟) بل فوق أرض الإخبار عن المجهول. والمجهول أوسع من السماء، وكان للكهنة و الشعراء مهمة الإخبار عنه.

نرجئ قليلا الحديث عن الكهنة ونتحدث عن الشعر. كان الشعر جاهليا مرتبطا بالشياطين، فالشياطين هي تلك الوسائط التي تخبر شعراءها عن المجهول. وقد اتهم النبي محمد من هذا المنطلق بكونه شاعرا، وقام نفي القرآن لهذه التهمة على أساس نفي تنزل الشياطين بالقرآن «وما تنزلت به الشياطين» ، لكن القرآن لم ينف تنزل الشياطين بالفعل «تنزل على كل أفاك أثيم» لكنه قصره على الشعراء «والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم بكل واد يهيمون»[2]، أي أنه نفاه فحسب عن النبي.

إذن فهذه الإدانة للشعر، وكما يقول أدونيس، غرضها فحسب إثبات صدق القول القرآني ونفي اختلاطه بأي اختراق شيطاني [3]، أي اعتبار الوحي (وهو من المفاهيم التي عاندتها قريش مع البعث والحساب، ورغم هذا لا يلتفت فضل لمركزيته ولا بحث علاقته بالمفاهيم المركزية) طريقا وحيدا للإخبار عن حقيقة وحيدة أصحبت هي الله الواحد.

إذن، ومرة أخرى، يصبح نفي الشيطاني رديف تكون الحقل المفهومي للتوحيد. فنفي أحقية الشعر (كتنزل شيطاني يخبر عن مجهول) كان لإضافة الوحي (بما هو مفهوم يعطي لله صفة التفرد بالإخبار عن حقيقته -الحقيقة-) كمفهوم داخل الحقل المفهومي للتوحيد إلى جانب مفهومي «الإفراد بالعبادة» و«التصريف» و«المفارقة».

كل هذا يؤكد كون الشيطان مفهوما متعلقا تماما بالله لا بالإنسان كما يقول فضل. إن تقليص فعالية الشيطان و تحويله لعدو للإنسان لا يملك عليه أي سلطان هو فعل مرتبط تماما بمفهوم التوحيد، حيث لم تتشكل صورة الإله التوحيدي بما هي عليه (بتعددية مفاهميمه) إلا بفعل هذا النفي نفسه (الأرشفة).


إله تم مسخه، أو أسير إلي الأبد:

كما تحدثنا في المقال السابق، فإننا سنحاول قراءة أربع قصص قرآنية نظن أنها تمكننا من إدراك جيد للنواة المركزية لنظام الإسلام العقدي خصوصا مفهوم التوحيد الذي نحاجي عن صلة مفهوم الشيطان به، هي قصص: سجود الملائكة لآدم، وقصة تسمع الجان للقرآن، وقصة موسى والسحرة، وأخيرا قصة إبراهيم وابنه.

كما ذكرنا هناك أيضا، تنبع أهمية قصة آدم وسجود الملائكة له من أنها هي التي تتضمن تسوية الإنسان وتعلمه واستخلافه وتكليفه، أي أنها قصة النشأة الرئيسة في القرآن ومدخل جيد لفهم نواة نظامه العقدي.

لكن ما يضاعف أهمية القصة ويجعلها قصة مركزية، مركزية بنفس المعني الذي استخدمناه في وصف نواة فضل الثلاثية بالنواة المركزية، أي أن هذه القصة يمكن استخدامها كمركز لتنظيم الفضاء القصصي القرآني، هو أن هذه القصة هي قصة نشأة صورة الإله التوحيدي مركز النظام العقدي للدين الجديد؛ نقصد النشأة الكاملة لهذه الصورة الإلهية عن طريق نفي الشيطان وإدانته نهائيا، مسخه و تعطيل قدراته على التصريف، بل تعطيل حتى قدرته على الاستقلال بفعل الإغواء.

يورد الطبري عددا من الروايات تسرد هذه القصة، قصة آدم وإبليس [4]. يتم الحديث في هذه الروايات عن الشيطان على أنه ملك كان يحكم الأرض بأمر الله ثم قام الله بإرسال جيش من الملائكة لمحاربته وإخراجه من الأرض. وهذا القصص الذي يورده الطبري والذي يجد مصدره في الإسرائيليات السابقة على القرآن لا يختلف كثيرا في حقيقة الأمر عن القصة القرآنية، حيث أن هذا القصص ذا المصدر التوحيدي أيضا يشارك القصة القرآنية في نفي فعالية الشيطان ومسخه من عبد مقرب-ملاك-ملك، إلي شيطان منبوذ أبدا.

التقليص القرآني لفعالية الشيطان تركت بصمتها حتى على بنية القص نفسها، حيث أن دوره في الدراما الكونية بمقدار دوره في دراما الأمر بالسجود

غير أن القصة القرآنية، وعند مقارنتها بهذا القصص، تبدو لنا أكثر تأكيدا على نفي هذه الفعالية. فبينما القصص السابقة واللاحقة عليه (في المجال القصصي قبل الإسلامي، والمجال القصصي بعد نشأة المدونات العلمية) تجعل إبليس ملكا استقل بالأرض وعاند الله وحارب جيشه؛ فإن التمرد الإبليسي في القرآن مقتصر على رفض السجود ومتبوع فورا بطرد ليس بعده إلا يأس التحدي أو تحدي اليأس «فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين».

أي أن التقليص القرآني لفعالية الشيطان من القدرة على «التصريف» تركت بصمتها حتى على بنية القص نفسها، حيث يتجاوب تقليل فعاليته في الدراما الكونية مع تصغير دوره في دراما الأمر بالسجود!

حول هذه القصة-المركز نستطيع أن نضع قصتين يمثلان امتدادا لترسيخ صورة الإله التوحيدي عبر نفي فعالية الشيطان، وبالتالي إبراز الصلة بين التوحيد والشيطان. القصة الأولى هي قصة النبي موسى والتي تشغل جزءا كبيرا من فضاء القص القرآني، والقصة الثانية هي قصة الجن وتسمعهم للقرآن.

لا يحتاج الإنسان كثير تنبه ليتبين مدى حضور قصة موسى في القرآن. إن هذا التكرار لحضور موسى يجعله يتجاوز حتى مجرد الوجود التاريخي. إنه يتحول لشخصية مفهومية، لو استحضرنا دولوز، حيث يصبح تمثيلا للمفهوم التوحيدي وتكريسا لصورة الإله المتفرد بالتصريف، وتتحول قصته لكاشف رئيس عن نواة الإسلام العقدية.

فقصة موسى هي قصة الصراع مع السحر (التدخل الشيطاني في تصريف الكون كما رأينا في آية البقرة عن سليمان). وموسى نبي الله هو الذي أدان السحرة عن طريق أنه قلص سحرهم من كونه فعلا في الكون وتصريفا إلى محض تخييل للعيون «يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى».

في هذه الدراما يكتسب مشهد لقف (عصا/حية) موسى لـ (عصي السحرة/عصي) أهمية كبرى. فعبر هذا المشهد يتبين أن القدرة على خرق قانون الطبيعة مختصة بالله وحده في فعل المعجزة وليس لغيره سوى التخييل (كما كان إخبار النبي محمد بالقرآن تعبيرا عن كون الله وحده عبر نبيه له حق الكلام عن الحق وليس لغيره، الشياطين عبر شعرائهم، سوى التخييل عن المجهول).

من هنا أهمية موسى كشخصية مفهومية في القرآن وأهمية قصته كقصة محورية في فضاء القص القرآني، حيث أن قصر خرق الطبيعة على الله وحده لم يؤكد فحسب على تعالق «التصريف» مع مفهوم «التوحيد» ومركزيته داخل حقله المفاهيمي، بل إنه حدد هذا التصريف المتعالق مع التوحيد على كونه خرق/معجزة، مما يعني تحديدا أدق لطبيعة الإله التوحيدي ولحقل التوحيد داخل النظام العقدي الإسلامي.

نستطيع أن نعتبر قصة تسمع الجان للقرآن في سورة الجن، قصة أخرى تدور حول قصة السجود، القصة- المركز. ففي هذه القصة يتحدث القرآن عن تسمع الجان لأخبار السماء «إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع».

هذا التسمع يعني أن ثمة طريق آخر كان الجاهلي يتوصل به لحقيقة السماء قبل الوحي (مع الشعر)، ألا هو الكهانة. لذا وكما كان تأسيس الوحي كخبر وحيد عن الحقيقة-الله يتطلب نفي الشعر كخبر شيطاني عن المجهول، أي نفي أي قول يوازي الكلام الإلهي، فقد كان على القرآن أيضا سد هذا الباب المفضي للخلط بين الوحي والكهانة والمتمثل في فعل التسمع.

تم هذا بكل بساطة وصرامة عن طريق إنهاء فعل التسمع «فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» . هذا الإنهاء لفعل التسمع بالرصد بالشهب يتوازى مع حديث القرآن عن جبريل القوي الأمين كناقل للوحي السماوي ليرسم القرآن بهذا صورة مكتملة عن سلامة وصول الوحي الإلهي لنا بعيدا عن أي تشويش.

من هنا أهمية هذه القصة، حيث لا تؤكد فحسب على تعالق مفهوم «الوحي بما هو توحيد طريق الإخبار عن حقيقة الواحد» مع مفهوم التوحيد؛ بل كذلك تحدد طبيعة هذا الوحي ككلام واضح مصان ومحفوظ. بهذا سيصير الوحي بيانا، ويصير الغموض علامة على الشيطاني المنفي.


إبراهيم.. رجم الشيطان:

إذا كنا تحدثنا عن مجال عقدي له مركز من مفاهيم عقدية تنظم فضاءه، وتحدثنا عن مجال قصصي له مركز ينظم فضاءه كذلك، فهل لنا أن نتحدث عن مجال شعائري وعن مركز له؟

كما أوضحنا في المقال السابق، فإن للشعائر وللعيد/الشعيرة مهمة كبيرة في تحديد طبيعة الإلهي، وأن العيد/الشعيرة يصل في علاقته بالإلهي حد أن يكون هو الشعيرة المركزية بامتياز، أي المجال الأفضل لتحديد طبيعة الإلهي. واخترنا الأضحى كعيد/شعيرة كمجال لتحديد حقل التوحيد المفهومي. فهل يمثل الأضحى بالفعل عيدا/شعيرة، وهل يمثل مركزا للمجال الشعائري الإسلامي؟

إننا لو حللنا سمات الأضحى سنجد أنه يمثل بالفعل عيدا/شعيرة، وأن له مركزية في المجال الشعائري الإسلامي تنبع من طبيعة شعائره من جهة، ومن تمحورها حول شخصية الجد المؤسس إبراهيم من جهة أخرى. فعيد الأضحى شديد الارتباط بشعيرة الحج حيث مراسم الحج ذاتها وبناء البيت ورفع القواعد هي فعل إبراهيم وإسماعيل المفدى في فعل التضحية الذي يتم تحيينه بذبح الأضحية في العيد.

والعيد بجمعه بين الشعيرتين الحج والذبح يجمع في حقيقة الأمر بين طقسي الانتهاك والعهد الذين ذكرنا كونهما سبب كون العيد عيدا/شعيرة. إذا استحضرنا ما قلناه من أن الانتهاك هو العودة لما قبل تأسيس العالم عبر تعليق العمل بالأخلاق والشعائر أو عبر محاكاة حالة سديم كوني أو عبر محاكاة عالم براءة بشرية سابقة على التشريع، فإننا نستطيع أن نرى في فعل الإحرام للحج طقس انتهاك؛ وهو للمفارقة طقس انتهاك مقنع بالمحظورات.

فما يبدو لأول وهلة هو أن الإحرام طقس يشمل عددا ثقيلا من المحظورات تحظر حتى المباحات مثل الجماع والجدال والصيد، لكن هذا ليس سوى قناع فحسب، أو فلنقل أن الحظر هنا هو محض عتبة تسبق الدخول لحالة عبور حقيقية يتم فيها تدمير العالم تماما والعودة لما قبل تأسيسه.

فمحظورات الإحرام (حظر الجماع و الصيد و الصراع) تؤدي بالمحرم للتحلل من الأجساد والهيئة الثقافية والعودة لحالة من العماء يحضر فيها الجميع شبه عرايا يغيب عنهم الجنس والحرب وكأنهم أطفال أو موتى أو كأنهم حواء وآدم قبل المعصية والسقوط والتكليف [5]. إنها لحظة عبور خارج العالم الفردي والكوني، قبله أو بعده، تدمير مؤقت له [6] تنتهي بالعودة للعالم مرة أخرى. لكن العودة للعالم لا تتم إلا بعد تجديد العهد؛ تجديد عهد الطاعة الإبراهيمية لله عبر ذبح الأضحية يوم العيد.

رجم الشيطان من قبل إبراهيم -لو ثبت- أو من قبل المؤمنين في الحج، هو الإكمال الطبيعي للقصة المتماثلة مع قصة السجود لآدم، فالرجم هو تكرار لفعل إخراج الشيطاني من الكون التوحيدي

طبيعة عيد الأضحى هذه كحالة عبور تدمر العالم بالانتهاك وتعيد تأسيسه بالعهد تجعله يمثل تماما العيد/الشعيرة، وتجعله مركزا للمجال الشعائري الإسلامي، مما يعني إمكان معاملته كمصدر لتحديد الحقل المفهومي للتوحيد الذي نبحث عن علاقة الشيطان به.

شعيرة التضحية يوم العيد هي تحيين لقصة إبراهيم مع ابنه، حيث أمر إبراهيم بذبح ابنه، وهو أمر «مفارق»، بمعنى أنه غير مشتق من قواعد الأخلاق، لذا فهو امتحان بملاقاة الفردي فوق عمومية الأخلاق كما يرى كريكجارد، هل سيطيع إبراهيم الأمر الإلهي لكونه يدين لله بوجوده أم سيجادل بقواعد الأخلاق ويرفض اشتقاق وجوب طاعة الأمر الإلهي من محض المديونية لله بالوجود؟[7]

ما يقوم به إبراهيم هو الامتثال للأمر الإلهي، ونحن للآن نحين فعله في يوم العيد/الشعيرة. أيضا حتى الآن فإننا في شعائر الحج نرجم الشيطان. وهذه الشعيرة، أي رمي الجمار، شعيرة حيرت كثيرين. البعض يقول هي أيضا كذبح الكبش تكرار لفعل إبراهيم نفسه، حيث ظهر له الشيطان في العقبة كي يثنيه عن قرار ذبح ابنه فرماه بالجمرات؛ والبعض لا يجد هذا ثابتا من الناحية الحديثية فيتعبرها شعيرة واجبة دون تسبيب (أي أن علينا طاعتها اشتقاقا من محض المدينوية كفعل جدنا إبراهيم مع الأمر بالذبح).

سنحاول تقديم تفسير آخر لرمي الجمرات لا يهتم بثبوت الرمي عن إبراهيم، لكنه يعتبر رمي الجمرات مكملا للفعل الإبراهيمي حتى لو يقم به الجد وقام المسلمون بفعله.

كي نوضح هذا علينا التنبه لكون قصة تضحية إبراهيم نفسها ليست إلا تحيين لقصة إبليس مع الأمر الإلهي بالسجود، أو فلنقل إن قصة إبراهيم هي قصة متعالقة تدور في مجال قصة السجود التي اعتبرناها قصة مركزية تنظم الفضاء القصصي القرآني. فهي، أي قصة إبراهيم، مثل قصة موسى وقصة الجن في قدرتها على تحديد الحقل المفهومي للتوحيد (و إن كانت أكثر تشابها مما دعانا لاعتبارها تحيينا).

فنحن حين نخلص القصتين من التفاصيل لكي نحدد بنية دراما كل قصة، سنجد أنفسنا أمام نفس هيكل العلاقات: أمر إلهي غير مشتق من قواعد مسبقة ومفارق للأخلاق، مأمور، مطيع-عاصي، مسخ. في قصة إبليس: الأمر هو السجود لآدم، الطائع هم الملائكة، والعاصي هو إبليس، النتيجة مسخ إبليس وطرده أبديا. هنا في قصة إبراهيم التي تمثل محور شعيرة الأضحى: الأمر هو الذبح، المأمور هو إبراهيم، إمكانية الطاعة «مثل الملائكة» والعصيان «مثل إبليس» ، ينجح إبراهيم في اتباع سبيل الملائكة بالخضوع للأمر المشتق من محض المديونية.

لا يوجد في القصة القرآنية رجم للشيطان، لكن رجم الشيطان من قبل إبراهيم -لو ثبت- أو من قبل المؤمنين في الحج، هو الإكمال الطبيعي مع هذا للقصة المتماثلة مع قصة السجود لآدم المتحمورة حولها كما قلنا والتي تمثل تحيينا لها.

فالمسخ/الرجم بما هو أرشفة وكبت-نفي دون إعدام، وجود مقنع،هو تكرار لفعل إخراج الشيطاني من الكون التوحيدي. هذا الفعل الذي انطبع في ذاكرة/أرشيف آدم [8] الذي لم يقم بدور في قصة السجود سوى كونه ذاكرة لها تقوم بحفظ فعل نفي الشيطان ورجمه كي يعاد تكراره في كل قصة شبيهة (وكل قصة أمر إلهي هي شبيهة)، لا لشل فاعليته عن التصريف أو القدرة على إفساد الأخلاق هذه المرة، بل لنفي كل محاولة لفصم العلاقة بين الطاعة والمديونية والتي يمثل تمرد إبليس ومحاججته لله بعدم معقولية أمره «خلقتني من نار وخلقته من طين» ذكرى إثارتها كما ذكرنا.

فالرجم هنا في الأضحى العيد/الشعيرة المركزية هو أرشفة مستمرة للشيطان و تمرده (نفي وإبقاء للذكرى في آن). أرشفة تقوم بتكريس مفهوم «الطاعة المشتقة من المديونية» كأحد المفاهيم في حقل التوحيد، وتضيف للقيم المدانة في الكون التوحيدي والمتعالقة مع الشيطان المرتبطة بتعدديته مفهوم «التمرد على اشتقاق الطاعة من المديونية».

لكن إذا كانت هذه الصفات هي صفات الشيطاني «المؤرشفة» في طريق تشكيل صورة الإله التوحيدي، فكيف تترتب هذه الصفات نفسها؟ أي مفهوم من هذه المفاهيم: «الوحي ككلام واضح مصان» ، «التصريف كإعجاز» ، «الأمر كأمر مشتق من محض المدينونية» ، يمثل مركزا لحقل التوحيد المفاهيمي مركز النظام العقدي الإسلامي؟ ما هو المفهوم المركز الذي يتأسس عليه الكون التوحيدي وما علاقته بالشيطان؟

سندع للمقال القادم والأخير مهمة الإجابة عن هذا الأسئلة إلي جانب أسئلة أخرى أهمها لماذا لا يمكن أن يغفر للشيطان؟ أو بلغة مقالنا «لماذا لا يمكن نزع الأرشفة عنه؟» .


[1] راجع: أجوبة القرآن على الأسئلة الكبرى، طارق حجي، إضاءات، 12 مارس 2015.

[2] المسائل الكبرى في القرآن، فضل الرحمن مالك، ص256.

[3] أدونيس: النص القرآني وآفاق الكتابة، ص60، 61. يرى أدونيس أن استمرار الشعر في الإسلام كان على حساب تخلصه من مهمة كونه معبرا للحقيقة. فالإسلام لم يلغ الشعر لكن ألغى دوره ودعواه المعرفية، وجرده من مهمة الاستبصار والكشف بقصره على الوظائف الجمالية والأخلاقية والإعلامية.

[4] تركي علي الربيعو: المقدس والعنف في الميثولوجي الإسلامي، ص29: 31.

[5] الحمودي، حجاية حج، ص114

[6] من الأمور اللافتة جدا أن الاسم الذي يعطيه الدين الشعبي لأغاني الحج هو اسم أغاني الحنين. فلأن الكعبة هي سرة العالم، مركزه ونقطة تأسيسه، موقع التقاء الزمان والمكان المقدسين، يكون الحج إليها عودة للأصل ممتلئة بالحنين لولادة جديدة.

[7] استفدنا هذا المصطلح من فتحي المسكيني في دراسته الماتعة عن إبليس.

[8] يعتبر دريدا أن الكبت وفقا لـفرويد هو ذاته أرشفة؛ لذا فإن فرويد مقتنع بكون جريمة قتل موسى تركت أرشيفات في وعي اليهود بل في وعي البشرية. هذه الأرشيفات لا ينبغي البحث عنها في الكتاب المقدس أو في أقوال الحاخامات في الميرداش على ما يفعل ييرشومالي لنفي حدوث الجريمة انطلاقا من غياب توثيقها. ففعل الأرشفة عند فرويد لا يتعلق حتما بالوثائق، «ومن هنا علاقة علم النفس بالموضوع، إن كانت له علاقة» حمى الأرشيف ص108. كذا فإن آدم قد أرشف في ذاكرته سلوك إبليس وطرده.