لا نُقارب الحقيقة إلا من خلال تراكيب اللغة، لهذا نفقدها دومًا عبر سوء الفهم وارتباك الكلمات.
نيتشة

في الثمانينيات قدم السيناريست «محمود أبو زيد» ثُلاثيته السينمائية الشهيرة، «الكيف» و«العار» و«جري الوحوش»، أفلام تؤطر عناوينها الإدانة الأخلاقية، إدانة يُصدرها السيناريست بعُنف على مُجتمع الانفتاح السبعيناتي، لا يتراجع أبو زيد تاركًا شخوصه وحبكته وحدهما يُدينان المجتمع تبعًا لقاعدة السينما show do not tell

بل تنتهي أفلامه الثلاثة بصوت رخيم يُحطم حاجز الإيهام بحضوره الوعظي ليتلو آية قرآنية أو بيت شعر يلخص المورابة النهائية، فينتهي «العار» بالآية:

«ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»

بينما ينتهي «جري الوحوش» بالآية:

«وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»

الملصقات الدعائية لأفلام العار، الكيف وجري الوحوش – تأليف السيناريست «محمود أبو زيد»

خارج هذا التكثيف لغاية الحكاية الذي يستعين فيه «أبو زيد» بلُغة القرآن المُحكمة، وحُسن بيانها الموجز، نجد اللغة التي يتحدث بها الأبطال في أفلامه، نقيض هذا الإيجاز والإحكام والوضوح.

يصطنع الكاتب لأفراد مجتمع الانفتاح عقابًا يُشبه قصة سفر التكوين الشهيرة، عندما حاول البشر بناء برج عملاق في «بابل» لمُطاولة السماء فعاقبهم الرب ببلبلة ألسنتهم، فغابت عنهم ملكة التفاهم وولدت اللغات المختلفة ومعها سوء الفهم والحرب بين البشر حتى اليوم. 

في الثلاثية يُدلل أبو زيد على ترهل المجتمع وبلبلته بعجز أفراده عن بلورة همومهم في لغة صادقة لا تراوغ، وامتلاكهم بديلًا عنها لغة فريدة في تفككها، شديدة الإبهام والرمادية، تظهر في الأغاني الشعبية وحوارات مُتعاطي المخدرات، لا يقدم مزاجنجي في «الكيف» عبارة حاسمة أو مفهومة، ويعتمد إقناعه لأخيه بالانضمام لخطيئته على تلاعب لغوي يقدم به تعريفًا جديدًا للغش، ألاعيب لغوية رمادية تُقنع أخاه في النهاية أنه لا يرتكب خطيئة.

يحيى الفخراني ومحمود عبد العزيز من فيلم الكيف

لذلك ينتهي الفيلم بجنون الأخ وهو يتلو عبارة واحدة:

أنا اتعلمت اللغة.

والتي تُشير في بعدها الدرامي لهجران شخصية البطل الطيب لغة العلم والأخلاق، الأبيض والأسود نحو لغة رمادية جذبته بغوايتها وتفكيكها لعوالم الضلال وعندما أجادها خسر روحه مع النهاية التي تتعالى فيها أصوات أغنية شعبية مفككة لمزاجنجي وهي تغزو شوارع القاهرة.

أدان كثيرون استعانة أفلام الثلاثية بالآيات في نهايتها وهي مباشرة تفسد بالطبع الجمالية السينمائية، لكن في طيف منها هي استعادة أبو زيد الدائمة لإحكام وهداية اللغة بعدما قام بتفكيكها وتشويهها وإكسابها كل ممكنات الغواية والإضلال على مدار حكاياته، لتواكب لغة الانفتاح الفهلوية التي تحللت بخفة من خطاب الستينيات الأخلاقي، وظهر تدهورها مع صوت «عدوية» الذي يصف المجتمع بزحام مولد وصاحبه غايب.

تحضر الثلاثية هنا كمثال صارخ على أهمية الحوار السينمائي، وقدرة الكاتب على اصطناع لغة كاملة شعبوية لتستنطق عصرها وتصدر حكمًا فنيًا على حقبة بأكملها، لغة مُصممة بالأساس كجزء من رؤية صانع العمل لمجتمعه.

في مُسلسلات رمضان 2023 تحضر لغة مُشابهة لحوارات أبي زيد، شعبوية، مُثقلة بالسجع والقافية، لكنها لا تحمل ثقل الرؤية والهدف نفسه.

مفاخرة بطل شعبي في حكاية خيالية

أعد الله للشعراء مني ..صواعق يخضعون لها الرقابا
فلا صلى الإله على نمير..ولا سقيت قبورهم السحابا
فغض الطرف إنك من نمير..فلا كعبًا بلغت ولا كلابا.
جرير

تحضر لغة السجع في أعمال مثل «جعفر العمدة» و«بابا المجال» و«الأجهر» و«ضرب نار»، أعمال رابطها الأساسي انتماء أبطالها للفضاءات الشعبية مثل السيدة زينب.

 تتعطش تلك الأعمال للغة السجع بسبب احتياج البطل في السياق الدرامي باستمرار لإثبات فحولته وخبرته في مواجهات الشوارع مع أعداء يهددون مكانته، فتكون المجابهات اللفظية المُقفاة أشبه بمعارك إحماء قد تُمهد أو تغني عن التلاحم الجسدي، مجابهات تُشبه رغم حداثتها مُناوشات القبائل القديمة عبر شعراء الهجاء، قبل اضطرار القبائل لدخول حرب فعلية.

محمد رمضان من مسلسل جعفر العمدة

وخارج السياق الدرامي تؤدي تلك اللغة وظيفة دعائية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منها تُستخرج اللزمات الكلامية التي يُمكن عبرها تفكيك الحلقات لصور ونكات يمكن مشاركتها منفردة ومنح العمل مزيدًا من الدعاية، تحقق اللغة بذكاء أهدافًا شتى لنجم العمل ولتسويق العمل ولكنها تُغفل هدفًا أهم وهو تمثيلها للفئات التي تدعي أنها تُمثلها وهم أبناء الطبقة الشعبية وقدر مُناسبتها للحبكة ومغزى الحكاية نفسها.

تعريف «الكيتش» هو مُحاولة تقليد شيء أصيل، فيأتي الناتج مُبتذلًا ومزيفًا، لأنه محاكاة تافهة للأصل، تدعي تلك اللغة دومًا على لسان مؤلفيها أنها تُمثل أبناء الطبقات الشعبية -رغم حياتي بشكل شخصي ربع قرن في أحياء شعبية لم أر خلالها أحدًا يتبارى بالقوافي مع أعدائه- لكنها تستغل فضاء اجتماعيًا أصيلًا بطبقاته لتنميطه والاستحواذ على بيئته لصالح حكاية مُزيفة يقودها بطل يدعي أنه معجون بقوانين وسمات تلك الطبقة الشعبية التي تظهر في لغته وألفاظه.

مصطفى شعبان من مسلسل «بابا المجال»

في الثمانينيات اصطنع «محمود أبو زيد» قاموس لغة شعبوية مُفككة ومبالغة ليقدم نقدًا لاذعًا لمجتمعه ويحذر من وقت يفقد فيه البشر ملكة اللغة فتستنطق أحكامهم ألفاظًا مرنة لا تميز الصواب من الخطأ، يحذر أبو زيد من الكيتش في اللغة الذي سيُفقدنا في النهاية صلتنا بالواقع، بينما تقدم الأعمال الحالية اللغة الكاريكاتورية ذاتها باعتبارها تمثيلًا صادقًا لأفراد طبقة بعينها، يُشبه الأمر أن تستعير شعر الهجاء الخاص بجرير ليتحدث به أفراد قبيلته بني تميم في تعاملاتهم اليومية وهو ما لم يحدث بالطبع.

 فالعمل الدرامي هنا لا يؤمم لغته ولسانه لصالح تمثيله لأفراد الطبقة الشعبية التي يحاول مقاربتها كما يدعي بل يؤمم أفراد الطبقة وفضاءهم المكاني كديكور لصالح لغة مصطنعة تفيد هالة البطل المرجوة وتسويق العمل، الكيتش المزيف يستخدم الواقع الحقيقي كمادة له بينما حاول أبو زيد منذ عقود أن يقوم بالعكس، بخلق لغة مزيفة لكشف واقع حقيقي.

بارودي لغة السجع والمجاز

لا يحضر النقد هنا كملاحظة دقيقة احتاجت تأملًا لصياغتها بل حضر النقد ذاته عبر أعمال أخرى تؤطر لغة مسلسلات الميلودراما الشعبية الحالية باعتبارها لغة كيتش مبالغ فيها وتحقق السخرية لا التماهي.

تقدم الأعمال الكوميدية هذا العام مثل «الكبير أوي» و«الصفارة» بارودي مُثيرًا يسخر من لغة السجع والقوافي والمبالغات اللفظية، حضور شخصية «جوني» الذي عاش أغلب حياته في أمريكا كان خطًا كوميديًا ثريًا خلال مواسم «الكبير أوي» عبر تعليقاته المُستمرة على الحشو والمجاز والزخرفة اللفظية التي تتسم بها العامية المصرية، في مشهد يُشبه الزوائد اللغوية بفاكهة المشمش التي لا يشتريها أحد لذاتها إنما ككمالية مع أشياء أخرى وفي مشهد آخر يستعين جوني بالقوافي اللغوية ليظهر كبطل شعبي، بينما يُقدم «أحمد أمين» في «الصفارة» حلقات طويلة تُظهر البلطجي والمطرب الشعبي الذي عليه أن يجيد لغة السجع الدرامية وإلا سيُطرد من الجونرة وعالم حكايته الموازي.

أن ينحت الكيتش الواقع على صورته

مما يثير التأمل أن أغاني فيلم «الكيف» التي ظهرت كنقد لترهل المجتمع وغيبوبته، لاقت انتشارًا كاسحًا واللغة التي نحتها السيناريست لوصم زمنه، جاوزت زمنه واندمجت في الذاكرة المحكية للمصريين وصارت مُستدعاة بإفيهاتها حتى اليوم.

كثير من أبناء الطبقات الشعبية وغيرها يستعيرون الحوارية التلفزيونية المقفاة ليتحدثوا بها على سبيل السخرية أو التماهي مع البطل القوي وتقليده، هنا لا يصف الكيتش أو النموذج المزيف واقع تلك الطبقات بل يتسرب لها ويستحوذ على لسانها، فلا تُنحت الدراما على صورة الطبقات التي تمثلها بل تعدل تلك الطبقات حكائيتها على صورة الكيتش أو الدراما المصطنعة.

صورة لتيشرت يحمل وجه جعفر العمدة

لذلك لا يعني المقال أن افتقاد عنصر الحوار لصدقه في مقاربة من يمثلهم يعني حتمًا فقدانه جماهيريته أو جاذبيته، تلك اللغة الدرامية مصطنعة في الأساس لتحقق الانتشار على وسائل التواصل، مما يعني أن هناك جمهورًا يُحبها ويتعطش لتمثيل نفسه من خلالها وهو ما نراه في أغاني الراب التي تمدنا بمفاخرة مفرطة بالذات المفردة أمام واقع ساحق لتلك الذات.

المباشرة، عندما لا تثق الحكاية في ذكاء مُتلقيها

لا تخبرني أن القمر يلمع، أرني انعكاس ضوئه على زجاج مُحطم.
أنطون تشيخوف

في أفلامه قدم «محمود أبو زيد» الآيات القرآنية كنص يفضح بإحكامه وسحر بيانه تفكيك اللغة التي يغرق المجتمع في ظلالها، ولكن توظيف الآيات يفضح في بعد منه إغراءً لا يقاوم لصانع العمل في تمرير عبرة حكايته كاملة للمتلقين خوفًا من أن تفوتهم.

بدأت السينما في البداية كأفلام صامتة، الصورة تروي كل شيء، ثم حضرت الموسيقى عن طريق كونشرتو يعزف جوار العرض ليؤطر إحساسنا ويُلقننا متى نخاف؟ متى نضحك؟ متى نتوتر؟ وأخيرًا جاء الحوار عبر شريط الصوت، يخبرنا هذا الترتيب أن الصورة في العمل الدرامي والسينمائي هي كل شيء، حد أنها عاشت وحدها لعقود تحمل عبء الحكاية، ولم يخذلها ذكاء المتلقين في فهم مغزاها والتفاعل معها.

الحوار text هو أكثر عناصر العمل مباشرة، فالشخوص تنظر في عينيك وتُخبرك صراحة ما تفكر به، بينما الصورة ثرية بتعدد طبقاتها ورسائلها الخفية أو subtext

في نهاية «العار»، كانت يد رئيس النيابة المرتجفة وهو يضع الفوهة الباردة بفمه بينما يرقص أخوه بجنون على مركب مهتز والآخر يحاول أن يقبض على زبد الماء بيديه، شعرية سينمائية عادلة كان لا بد أن تنسحب معها الكاميرا ببطء لتترك المتلقي أسيرًا لسحر اللقطة، ولكن حضرت الآية القرآنية عبر صوت خارجي رخيم لتخبرك ما يجب عليك أن تشعر به وتفهمه.

مشهد نهاية فيلم العار

حضر الحوار في كثير من أعمال رمضان الحالية كعنصر إضافي ثقيل يتأكد عبره صناع الحكاية بقلق من أن المتلقين لم تفتهم مورالة العمل، مثلًا في الحلقات الأخيرة من «الهرشة السابعة» نستمع لتفسير مصطلح الهرشة العلمي على لسان أكثر من شخصية، وبعد دراما ذكية في تصاعدها وتمرير رسائلها عبر الصورة وتصرفات الأبطال، يحضر الأبطال جميعهم لبودكاست تستضيفه البطلة، ليفسدوا سحر ما تم بناؤه بسرد رأيهم المباشر في العلاقات الإنسانية، بينما يحضر «ماجد الكدواني» في صورة الحكيم الشهيرة التي أطرتها أفلام مثل «هيبتا» ليمنح خلاصة ما تريد الحكاية قوله.

أمينة خليل وماجد الكدواني من مسلسل الهرشة السابعة

وقعت أعمال مثل «الصفارة» الذي اعتمدت إفيهاته الذكية على نقد افتعال المباشرة والحوار المفتعل في الأعمال الأخرى، حد المخاطرة بكسر حاجز الإيهام مرات، في فخ المباشرة، عندما أخبرنا البطل مغزى الحكاية كاملة بشكل مفصل وما يجب أن نفهمه من مغامرة الصفارة ونتعلمه.

يقول الروائي العظيم «أنطون تشيخوف»:

لا تخبرني أن القمر يلمع، أرني انعكاس ضوئه على زجاج مُحطم.

إخفاء مغزى الحكاية في طيات تفاصيلها، يترك للمتلقي مُتعة إيجاده والأهم أن يخلق معه نتيجته وحكمته الخاصة، هنا يموت صناع العمل بحد تعبير «رولان بارت» وتولد مع كل متلقٍ مُعالجة وتفسير جديد وهذا يمنح العمل ثراء يجاوز بكثير أن يُخبرنا البطل أن قمر حكايته يلمع، وهو يشير له بإصرار لكيلا نفلته من مجال رؤيتنا، فنؤسر في سجن ما عناه بدلًا من أن نولد معانينا الخاصة.

من أين يولد الحوار؟

الكاتب الجيد يسرق حواره من حكايات كُتاب آخرين، الكاتب العظيم يسرق حواره من الواقع مباشرة.
آرون سوركين

يمتلك الحوار زخمه أو ركوده، شاعريته أو حدته، من خلال طبيعة الأبطال الذين يرونه، في أفلام السيناريست الشهير «آرون سوركين»، التي تشتهر بمبارزاتها الحوارية على حساب الصورة، يضطر لتمرير جدالاته السياسية وأفكاره الفلسفية والنخبوية بتعقيدها على ألسنة أبطال يُمكن أن يتحدثوا بتلك الأفكار ويمكنهم خوض تلك المبارزات، فنجد أبطاله من النخبة، مُحامين في قاعة محكمة أو إعلاميين في غرفة أخبار أو نشطاء سياسيين في مسيرة.

ملصقات أفلام من تأليف أرون سوركين

بينما في أفلام أخرى لمخرجين مثل «كياروستامي» تنسحب قيمة الحوار لصالح شاعرية الصورة، ولذلك يخاطر كياروستامي كثيرًا بالاعتماد على أبطال حقيقيين لا ممثلين لمشاهده أو أطفال يروون الحكاية كاملة، لأن الصورة وشعريتها تروي كل شيء، الحوار إضافة طفيفة في حلم مكتمل.

في حكايات يحرص المخرج أن يمنح لكل بطل صوته الخاص وفي حكايات يفتت المخرج صوته الذاتي على شخوصه فيخرج صوتهم جميعًا مثله مثل «يوسف شاهين» و«وودي آلان»، وذلك يناسب طبيعة أفلام ذاتية يروي فيها البطل نفسه وقصته في حشد من ممثليه.

المخرج المصري يوسف شاهين وسط مجموعة من مشاهد أفلامه

كثير من أعمال رمضان لا يكتسب حوارها أصالته من طبيعة الحكاية ولا يمتلك ممثليه صوتهم الخاص ولا تؤسر حتى أصواتهم لذاتية مخرج، بل تؤمم لغة الحوار كاملة لصالح جونرة هذا العمل، نجد ذلك في «عملة نادرة»، الذي يجتر أبطاله لغة صعيدية تنتمي لمسلسلات الصعيد القديمة التي يبالغ أبطالها بذكر اسم عائلتهم بتفاخر أو تهديد أكثر من 3 مرات في جملة واحدة، ويستعينون بقاموس كلمات معروفة للسباب أو الغزل أو المزاح، لغة مثلت صعيد الثمانينيات والتسعينيات لكن يصعب عليها أن تمثل صعيد الألفية التي يدور في زمنها العمل.

من مسلسل عملة نادرة

في مسلسل «تغيير جو»، لا يتركنا البطل مع معلومة كونه أستاذًا جامعيًا للتاريخ ويبحر بشخصيته في عالمه، بل يصير حواره بالكامل مُسخرًا لإبراز تلك المعلومة، يحول حوارات عابرة لمناظرات تاريخية حول شخوص في المنفى، يفسر تطبيقًا رقميًا أو أكلة غربية قُدمت له كمحاولات استعمارية لطمس الهوية، بينما تتحدث البطلات في مواقف عادية بلغة نسوية تشبه منشورات وسائل التواصل.

إياد نصار من مسلسل تغيير جو

لا يقارن المُتلقي ما يراه إلا بواقعه، مهما بدا الأبطال بعيدين جغرافيًا مثل أهل الصعيد، يصعب استدعاؤهم بتمثيلاتهم الدرامية السابقة كأرشيف يقولبهم؛ لأن أهل الريف هم جزء من الجمهور المتلقي الذي ينتظر تمثيله بما هو عليه لا بذاكرة الدراما عنه.

كذلك  يحيل المتلقي طريقة حديث أحدهم لطبقته ولنماذج تعامل معها منها، سنُحيل معلم التاريخ لأستاذ جامعي مررنا به، وسنُحيل لغة فتاة عن حادثة سرقة مرت بها لما نسمعه في الواقع، لا لتوصيفات الحادثة بلغة وسائل التواصل.

يُمكن للصورة وعادات الشخصية أن تُرينا بطلًا يشعر أنه في المنفى، بطلًا مُستغرق كليًا في التاريخ الذي يُدرسه حد أنه لا يجيد التكيف مع واقعه، لكن تأميم الحوار بالكامل لتأطير ما يعجز النص الفرعي SUBTEXT عن تبيانه يكشف عجز صانع حكاية عن استخدام أدواته في السرد، يُشبه التعويل على الحوار في تبيان كل شيء، أن تستعمل الملعقة أكثر أدوات الأكل مباشرة للتقطيع والالتقاط وكل المهام الأخرى.

الحوار، إضافة ذهبية أو حجر مُثقل

جاء الحوار كإضافة أخيرة لتطور السينما، لا توجد قاعدة للحوار المثالي في الحكاية، القاعدة الوحيدة هي أن يكون الحوار إضافة أخيرة تحقق انسجامها مع باقي عناصر الحكاية وتمنحها وحدتها، يُمكن أن تصطنع مبارزات حوارية على طريقة سوركين، أو حلمًا شعريًا قوامه الصورة على طريقة كياروستامي، يمكن أن تنحت لغة كاملة لنقد زمنك مثل محمود أبو زيد، لكن في كل الأمثلة السابقة يأتي الحوار بفرطه أو قلته، بشعريته أو مبارزته ليكون إضافة ختامية تستنطق الحكاية كجمال مكتمل بعناصره، يصعب أن تصطنع قاعدة موحدة للحوار الناجح أما الحوار الفاشل له قاعدة واحدة، وهي أن يُثقل الحكاية بما لا يشبهها مثل أن يصير الحوار لسانًا كاذبًا لطبقة يدعي مقاربتها، أو استعارة تستنسخ لسان أعمال مشابهة بدلًا من الواقع أو مباشرة مكثفة لما وضحته الصورة، في النهاية لو بدت الحكاية قمرًا لامعًا، لا يأتي الحوار لينظر لها في وجهها، بل يتتبع أثرَ لمعانها على شخوصها بخفة تستنطق ما تبقى لا تُثقلها بما قيل قبلًا.