يمرُّ مفتي القدس الأشهر الشيخ «أمين الحسيني» وسط صف من مقاتلين نازيين أشداء، يلوّح لهم بتحية عابرة، قبل أن ينفرد بلقاء فريد عُقد عام 1941 مع أخطر رجل بالعالم حينها، أدولف هتلر، لتنشأ بعدها علاقة بين الطرفين ظلّت مثار جدل كان جزءًا من جدل أكبر حول مدى الترحيب الذي لاقته جيوش النازية من المسلمين التي بلغت حد التطوع في فيالقه والدعاء له من فوق المنابر ورغبتهم في استبداله بالوجود الإنجليزي على أراضيهم؛ وهي العلاقة التي لم يتوقف قادة إسرائيل عن محاولة استغلالها سياسيًا كلما لاحت لهم الفرصة.

في 2015، ادعى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أمام الكونجرس الصهيوني العالمي، أن مفتي القدس هو من أوحى لزعيم ألمانيا بفكرة «محرقة اليهود» رغبةً منه في التخلص منهم، وعدم مزاحمتهم لقومه بفلسطين.

لم يكن آل الحسيني على ما يبدو مجمعين بشأن نُصرة هتلر ونازيته، وإنما فضّل 12 ألف فلسطيني إدارة ظهورهم له وخدمة التاج البريطاني، بالرغم من أنهم كانوا واقعين تحت سطوته الاحتلالية، وذلك وفقًا للدراسة البحثية التي أعدّها مصطفى عباسي لصالح جامعة تل أبيب.

قدّم الباحث في أطروحته مناقشة مركزة عن وجود متطوعين فلسطينيين ضمن صفوف الجيش البريطاني خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، مات بعضهم وفُقد آخرون، وهي القضية التي يرى أنها لم تنل أي عناية بحثية على مدار السنوات الفائتة، على الرغم من أن اليهود سوّدوا مئات الصفحات وشيّدوا عشرات المراكز البحثية التي عنيت بهذه النقطة بشدة، حتى أصبح دعمهم بريطانيا خلال القتال حقيقة دامغة أزاحت غيرها من الحقائق المجاورة.

مع اندلاع الحرب، انشطر الموقف الفلسطيني بشأن الجهة التي يجب أن يدعموها وتضمن لهم الاستقلال، ما بين توجه قاده مفتي القدس حينها الشيخ أمين الحسيني الذي استند ببساطة إلى قاعدة «عدو العدو صديق»، فطالب أهل بلاده بدعم الألمان ضد الإنجليز. ووفقًا للدراسة، هذه الدعوة لم تجد آذانًا صاغية من الجميع، في ظل وجود تيار آخر من نخبة المثقفين وزعماء العائلات وحكّام المدن تأسَّى بنفس منطق اليهود، وهو ضرورة نصرة لندن أملًا في أن تردّ لهم الجميل لاحقًا بتمكينهم من الأرض المقدسة.

تزامن هذا التصدع مع تدشين إنجلترا حملة إعلانية ضخمة لمحاولة تجييش كل مَن يمكنه القتال من مواطني أي بقعة من مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس ضد الوحش النازي الذي أخذ في التمدد بلا حساب، وبالطبع لم تكن فلسطين استثناءً.

في 12 أكتوبر/تشرين الأول 1939، بدأت القوات البريطانية في فلسطين إذاعة إعلان في وسائل الإعلام المحلية يحاول استقطاب عددٍ من المتطوعين العرب لـ«أداء واجبهم الوطني في الحرب»، ضمن خطة إنجليزية لمحاولة تجنيد ألفي متطوع في قطاعات الهندسة والمواصلات والصحة. اشترط الإعلان حينها أن يلتزم المتطوع بالقتال في أي مكان بالعالم، وأن يتراوح عمره بين 20 و25، أما التقنيون فيمكن أن يزيد عمرهم على ما بين 30 و40، وسيتقاضى كل منهم 67 ميلزًا (قرشًا) في اليوم، و75 للمحترفين بالقتال، و129 لأصحاب المواهب القتالية الاستثنائية، مع الوعد بزيادة تدريجية كلما ارتفع التقييم أو قام الجندي بالزواج.

امتدت الدعاية بشكل مكثف لتشمل وسائل متنوعة لاستقطاب الشباب في شتى أنحاء القرى، ولم تتوقف الصحف أو الاجتماعات لحثّ الشباب على الالتحاق بالجيش. وكان الكاتب العملاق عباس العقاد أحد بنود هذه الخطة، ولو بشكل غير مباشر، فبسبب مواقفه المعادية لـ«ألمانيا هتلر» التي لخصها في كتابٍ سماه «هلتر في الميزان»، تقرر إفساح المزيد من المساحة عبر أثير راديو فلسطين لكلماته المرْضي عنها، كي يشن عبره هجومًا متتاليًا على النازية قائلاً في إحدى خطبه: «هذه الحرب بين القيام الإنسانية العالية التي تمثلها إنجلترا، وقوى الظلام التي تمثلها النازية».

هذا المنحى السياسي لم يسِر به العقاد وحده، وإنما شاركه فيه الأديب المصري طه حسين والكاتب السوري عبدالرحمن شهبندر. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 1940، استُقبل بحفاوة العقاد والمازني في فندق الملك ديفيد بفلسطين، بمشاركة عددٍ من الحكام العسكريين البريطانيين للبلاد وبعض الزعماء المحليين الفلسطينيين، واتفق الحاضرون على ضرورة إرسال متطوعين فلسطينيين إلى الجيش البريطاني.

في أكتوبر/تشرين الأول 1939، أعلنت صحفية «فلسطين» أن المتطوعين العرب في الجيش البريطاني بلغ 418 شابًا. كان لافتًا للنظر أنهم دُمجوا مع اليهود معًا في وحدات قتالية واحدة، ليتحد الطرفان معًا، ربما لأول مرة في التاريخ، ضد هتلر، وقاتلوا النازية سويًا في أوروبا وفي الصحراء الليبية وفي القرن الأفريقي وغيرها.

وفي أوائل عام 1942، ومع تعقد الوضع العسكري واكتساح النازيين خصومهم، نشأت الحاجة لحث النساء بدورهن على الانضمام للجيش وليس الرجال فقط، فبدأت حملات دعائية عسكرية تجوب القرى لتدعو «الجميع للوقوف بجانب الإنجليز حُماة الحرية»، وهو ما كانت الاستجابة له بطيئة، بحسب الدراسة، فحتى نهاية الحرب لم تبادر بالتطوع إلا 200 امرأة عربية خدمن في معسكرات الجيش البريطاني في فلسطين والقاهرة، وذلك مقابل أجر أقل 25% مما يتقاضاه الرجال.

في مقابلة أجراها عباسي مع أحد المتطوعين، وهو رضوان سعيد (من مواليد 1925)، ذكر أنه انتقل إلى حيفا من قريته كفر قانا حيث اعتاد على بيع البيض بصحبة والده. تطوع أخوه في الجيش الإنجليزي لسببين: الأول اقتصادي، والثاني هو البحث عن المغامرة ورؤية العالم. وبعدها بشهرين عاد الأخ الأكبر وأقنع شقيقه بالانضمام للجيش بدوره.

لم تكن تلك الشهادة الوحيدة التي وثقها الباحث وإنما أجرى لقاءات أخرى مع عددٍ آخر من المتطوعين تشابهت قصصهم بشكل شبه كامل مع قصة الحاج، وانحصرت معظم أسبابهم في محاولة الخروج من الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تطحن فلسطين حينها بما يوفره الجيش لملتحقيه من راتب جيد ورعاية صحية وملابس وغيرها، أو التأثر الأيديولوجي ببريطانيا العظمى التي نشرت جنودها ومدارسها وسياسيوها في البلاد طوال عشرات السنين، تربت في كنفها أجيال متتالية لم تعرف غيرها تقتضي به وتدافع عنه ضد برابرة برلين.

وعلى الرغم من أن الباحث يؤكد أن حرب فلسطين دمّرت معظم الأرشيف الرسمي والشخصي الفلسطيني، فإنه يستند لتقارير عددٍ من المنظمات الدولية والصحف المحلية والكتب التاريخية التي وثّقت هذه التفصيلة، لمحاولة إيجاد الأرقام القصوى التي بلغتها أعداد المتطوعين، ويقدر أنها تراوحت بين 9 و12 ألفًا خدموا في مختلف الفيالق العسكرية، بعضهم مات أو فُقد في ميادين القتال، لكنه كأرضه أغفله الجميع ولم يعد يذكره أحد.

تعليقًا على هذه الدراسة، يقول دكتور سامي أحمد، أستاذ التاريخ في جامعة القدس المفتوحة لـ«إضاءات»، إنه لم يطلع على أي وثيقة تؤكد كل ما جاء بها، وإن البحث لم يقدم دليلاً واحدًا على النتائج التي انتهى إليها، مضيفًا أنه اطلع على العديد من الصحف العربية خلال هذه الفترة ولم يجد ما يؤكد وجود متطوعين فلسطينيين في الجيش البريطاني، وأن نشر إعلانات بالصحف المحلية لا يعني ضرورة الاستجابة لها.

وأضاف سامي: «الجناح الوطني الفلسطيني كله تقريبًا كان مع السياسة التي سار عليها المفتي، والوثائق المتوفرة كلها تشير إلى هذا الأمر، وإذا كان تحالف المفتي مع ألمانيا نقطة سوداء فماذا نقول عن تحالف القوميين مع بريطانيا والحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى بعد ما تنصلت من كل تعهداتنا معنا؟».

وتابع أستاذ التاريخ الفلسطيني: «البحث يناقش استجابة على مستوى أفراد خدموا العسكرية الإنجليزية ثم سُرّحوا بعدها، وهذا لا يشكل حالة عامة، أو بمعنى أدق لا يُعد تيارًا آخر، فالأمر لم يكن تيارًا فلسطينيًا بقدر أن بريطانيا فتحت باب التطوع، وبالتأكيد سيكون بعض الأفراد ممن تطوعوا لحسابات شخصية ونفعية دون أن يشكلوا تيارًا معارضًا».

وأشار سامي إلى أنه في أواخر الثورة الفلسطينية الكبرى التي كانت في مواجهة مسلحة ضد البريطانيين، وكان ذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بقليل، فإن بعض الشخصيات الموالية للبريطانيين والمتعاونة معهم، منهم راغب النشاشيبي وجماعته الذين شكلوا ما يسمى بـ«فرق السلام»، كانوا خنجرًا مسمومًا في خاصرة الثورة والثوار، وهذا الأمر لا يعد مشاركة فلسطينيين مع الجيش البريطاني بل هو صراع عائلي سياسي فلسطيني اشتدت وتيرته منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى انتهاء الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بقليل.