في أواخر الستينيات، عقب اغتيال مارتن لوثر كينج والتورط الأمريكي في حرب فيتنام، شهدت الولايات المتحدة فترة اضطراب. ارتفعت معدلات الجريمة. حاولت واشنطن التصدي للظاهرة بالبحث عن أسبابها. فتعددت النظريات المفسرة لها، لكن أقربها إلى الواقع كانت نظرية الغرس الثقافي (Cultivation theory).

ربطت النظرية التي قدمها جورج جربنر George Gerbner بين التلفزيون وما يقدمه من برامج وقت الذروة وفي عطلة آخر الأسبوع وبين إدراك الجمهور للواقع الاجتماعي وانتشار العنف به. أكدت أنه قوة مسيطرة للكثير ومركز رئيسي للثقافة الجماهيرية.

وقت ظهور هذه النظرية لم يكن هناك إنترنت ينافس التلفزيون، لكن اليوم في ظل ثورة الاتصالات وتعدد المنصات الرقمية من يوتيوب وفيسبوك وتويتر وغيرها من المنصات التي قامت بمهمة الشاشة السياسية والاجتماعية والترفيهية كذلك، هل ما زال التلفزيون يحظى بنفس الزخم؟

بين مؤيد معارض: هل تراجع التلفزيون؟

في محاولتها للإجابة عن هذا التساؤل وبالتطبيق على المجتمع المصري، تحدثت «إضاءات» إلى عدد من المواطنين في أعمار مختلفة تراوحت بين 18 و60 عامًا لاستطلاع آرائهم. انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض. رأى البعض أن التلفزيون ما زال ركنًا أصيلًا مؤثرًا يحظى بزخم كبير، فيما أكد البعض الآخر أنه فقد رونقه مقارنة بمواقع التواصل الاجتماعي، التي أتاحت الوصول إلى محتواه بسهولة وسرعة.

أصحاب الرأي الأول يرون أن التلفزيون ما زال يحظى بإقبال كبير خاصة على برامج التوك شو والمسلسلات والبرامج الاجتماعية، وبرامج الأطفال. أما من هجره، فهم الفئة الجديدة من الشباب المهووس بالسوشيال ميديا، لكن كبار السن وفئة كبيرة من المصريين ما زالوا مقتنعين بأهميته، وما زالوا يفضلون مشاهدته في ظل عدم الحاجه إلى بذل الجهد أو التفكير حتى. فتكفي ضغطة واحدة على الزر والاستلقاء للاستمتاع والتنقل بين مختلف البرامج السياسية والاجتماعية.

دلل أصحاب هذا الرأي على صحته من خلال نسب المشاهدة لمسلسلات رمضان وحجم الإعلانات الكبير. مؤكدين أنه لو لم يكن هناك إقبال لما كان ذلك الكم من الاعلانات. أما أصحاب الرأي الثاني، فأشاروا إلى أن التلفزيون لم يعد يشكل أهمية كبيرة لديهم، وأن السبب في ذلك راجع لعوامل عدة من بينها سهولة الوصول إلى محتواه عبر الإنترنت والتحكم به. كثرة الفواصل الإعلانية. فضلًا عن فقدانهم الثقة وإحباطهم أحيانًا من عدد من البرامج خاصة الإخبارية والسياسية المُوجهة من قبل الدولة أو بعض رجال الأعمال.

رأى أصحاب هذا الرأي أيضًا أن الإنترنت لا يجعلهم مُتلقين للمعلومة فقط كما هو الحال في التلفزيون، بل مشاركين في صنع الحدث. فالفرد من خلاله أصبح فاعلًا سياسيًّا وصانع محتوى. فقط من خلال إطلاقه لهاشتاج أو قناة معينة يمكنه إطلاق دعوات للتظاهر أو المقاطعة أو المشاركة الفعالة في عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضًا من قبيل قضايا رفع الأسعار أو انتشار العنف أو التنمر وغيرها الكثير من القضايا التي أحدثت صداها اجتماعيًّا وأجبرت الدولة للرد عليها والتعامل معها.

التلفزيون في الصدارة

الواقع أن أكثر الفئات انحيازًا للرأي الثاني هم الشباب، وخاصة الذين ولدوا بين منتصف التسعينيات إلى أوائل الألفية الثانية. فهذه الفئة العمرية من الشباب تطلق عليها الدراسات العلمية اسم «جيل ز» Generation Z، وهم يختلفون عن الجيل الذى سبقهم وأطلق عليه جيل الألفية.

فطبقًا للدراسات التي أجريت على هذا الجيل، ومنها مشروع بحثى كبير بجامعة ستانفورد الأمريكية، فهؤلاء الشباب لم يروْا العالم بدون الإنترنت. ترعرعوا في ظل ثورة الاتصالات، فباتت المصدر الرئيسي للمعرفة، ومن ثم كان طبيعيًّا أن يتراجع إقبالهم على التلفزيون.

أما على المستوى العام، فالأمر لم يكن بهذه الصورة. ما زال التلفزيون مصدر رئيسي للمعرفة، ما زال عامل جذب للكثير من المصريين. أقرب الأدلة على هذا معدلات المشاهدة المرتفعة. ففي عام 2013، وفقًا لاستطلاع أجرته OSN (شبكة التلفزيون المدفوع الرائدة في المنطقة) احتلت مصر المرتبة الأولى بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث عدد ساعات مشاهدة التلفزيون، إذ أكد أكثر من 37% من المصريين المشاركين بالاستطلاع أنهم يمضون 3 إلى 5 ساعات يوميًّا أمام التلفزيون، وأشار 26% إلى أنهم يشاهدون التلفزيون من ساعة إلى 3 ساعات فقط؛ و15% بمعدل 5 إلى 7 ساعات يوميًّا خلال فترة شهر رمضان.

وفي عام 2016، احتلت مصر في المركز الثالث عالميًّا ضمن قائمة أعلى الدول في معدلات مشاهدة التلفاز بعد تايلاند (22.4 ساعة أسبوعيًّا) والفلبين (21 ساعة أسبوعيًّا)، وذلك بمعدل 20.9 ساعة أسبوعيًّا أي بمتوسط 2.9 ساعة يوميًّا.

أما عام 2018، فأكدت شركة إجابات لأبحاث التسويق النتيجة ذاتها تقريبًا، إذ أوضحت من خلال استطلاع رأي شمل نحو 2000 مصري من مختلف الأعمار والمحافظات أن المشاهد المصري يقضى في الأيام العادية من 3 إلى 4 ساعات أمام التلفزيون، أما في ‏شهر رمضان فيقضي من 4 إلى 5 ساعات نظرًا لضخامة الأعمال الدرامية هذا الشهر.

أكدت الشركة أيضًا أن التلفزيون لا يزال يتربع على عرش وسائل الإعلام، إذ يعتبره البعض متعة بالإضافة ‏لمعرفة الأخبار والعلم بالأحداث، فيما يراه البعض الآخر وسيلة يمكن من خلاله التغلب على الوحدة.‏

وسط المنافسة: كيف احتفظت الشاشة برونقها؟

تدفع هذه الإحصائيات للتساؤل عن أسباب احتفاظ الشاشة التلفزيونية برونقها في ظل المنافسة الشديدة من المنصات الرقمية التي أتاحت الوصول لمحتواها بسرعة، وبما يلبي تطلعات المشاهد ويعزز حريته في الانتقاء الشخصي.

يبدو أن الأمر هنا له شقان: الأول يتعلق بالجمهور، أو المشاهد والثاني يتعلق بالتلفزيون ذاته. فنظرة سريعة لعدد مستخدمي الإنترنت في مصر نجد أنه يبلغ نحو 37.9 مليون مستخدم (طبقًا لأحدث إحصائية صادرة عن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عام 2018)، وذلك من أصل نحو 99.3 مليون نسمة في سبتمبر/أيلول 2019، فهذا يعني أن هناك شريحة كبيرة من المصريين لم ينخرطوا في الإنترنت بشكل كبير، وبالمقابل ما زالوا يعتمدون على التلفزيون كمرجع أساسي لاستقاء الأخبار والبرامج والترفيه.

وبالنظر لمستويات التعليم يبدو واضحًا أن معدل الأمية ما زال مرتفعًا، حيث وصل إلى نحو 18.4 مليون فرد، بما يمثل نحو 36.5% من المصريين، وبالطبع كانت النسبة الأكبر بين كبار السن (60 سنة فأكثر) حيث بلغت 63.4%، طبقًا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2017.

وفي ظل أن نسبة الجامعيين في مصر لم تتعدَّ الـ 12.4%، ووصول نسبة حملة الشهادة الإعدادية والمؤهلات المتوسطة إلى 50%. فهذا يشير إلى أن المجتمع المصري لا يزال يعاني انخفاض مستوى التعليم، وهو أمر يرتبط بزيادة الإقبال على التلفزيون بدلًا من الانخراط بالإنترنت كبديل عنه.

على الجانب الآخر، يلاحظ أن التلفزيون ما زال يحتفظ بجاذبيته لدى المشاهدين، وهو أمر راجع إلى ما يمكن تسميته بسيطرة التلفزيون على عقول البشر. فهو يقوم ببرمجة سابقة وعملية غسل مخ للمشاهدين فيقصف عقولهم بمجموعة هائلة من الصور وحلقات المسلسلات ونشرات الأخبار وبرامج أخرى لا علاقة بينها على الإطلاق، لكنهم يستمتعون بها.

هل يلقى مصير الكتاب الورقي؟

رغم هذه الجاذبية التي يحظى بها التلفزيون لكن واقع الحال يشير إلى أنه يسلك نفس الدرب الذي سلكه الكتاب الورقي والصحافة الورقية في مصر. فرغم احتفاظ كل منهما برونقه وجاذبيته فإنهما يعانيان حالة من التدهور في ظل ارتفاع تكلفتهما وطغيان الكتب والصحافة الإلكترونية الأرخص والأسهل في الوصول.

الحال ذاته بالنسبة للتلفزيون، يبدو أنه سيطفأ بريقه خلال السنوات القادمة، لعامل أساس وهو انخفاض نسبة الإعلانات أو اتجاهها بشكل أكثر إلى الإنترنت والمواقع الإلكترونية في ظل ما توفره من مزايا. فالإعلان عبر الإنترنت يقوم بعرض المنتج أو الخدمة على الأشخاص الذين يُرجح أن يكونوا مهتمين بها، مع استبعاد الأشخاص الذين ليسوا كذلك في الوقت نفسه.

يمنح أيضًا فرصة للوصول إلى العملاء المحتملين أثناء استخدامهم لأجهزة متعددة؛ سواء كانت أجهزة كمبيوتر مكتبية أو محمولة أو أجهزة لوحية أو هواتف ذكية. يتيح التفاعل مع الجمهور، حيث يمكن السؤال عن رد فعل المشاهد أو استقبال طلبات أو الإجابة عن الأسئلة مباشرة. كما يسمح بتتبع ما إذا بادر الأشخاص بالنقر على الإعلان أو لا، ما يساعد المُعلن بمعرفة أين يمكنه توجيه الاستثمار في حملته.

بين هذا وذاك، يتميز الإعلان عبر الإنترنت بأنه منخفض التكلفة. إذ يقدر تكلفة عرض إعلان الفيديو على مواقع الإنترنت بنسبة 44% أقل من تكلفة عرض نفس الإعلان على الفضائيات. هذا فضلًا عن أن الإنترنت يسمح للمُعلن بالتحكم في حجم الأموال المنفقة، إذ يمكنه تحديد المبلغ الذي ينفقه شهريًّا ويوميًّا ولكل إعلان. ولن يتم الدفع إلا عندما ينقر أحد الأشخاص على الإعلان.

في مقابل هذه المزايا، يلاحظ أن إعلانات التلفزيون تتسم بارتفاع أسعارها بشكل كبير، فمثلًا بلغ سعر دقيقة الإعلانات في رمضان على قناة mbc نحو 84000 جنيه مصري، وباقة الإعلانات نحو 10.5 مليون جنيه لحوالي 250 إعلانًا، فيما بلغ سعر الباقة الإعلانية لمجموعة قنوات dmc على الأعمال والبرامج الحصرية حوالي 140 مليون جنيه مصري.

هذه العوامل بالإضافة إلى التعدد الكبير في القنوات، ومنافسة إعلانات «الأوت دور» (الإعلانات بالطرق) أدت تدريجيًّا إلى تغيرت الخريطة الإعلانية. ساهمت بتراجع دور الإعلان التلفزيوني. ولعل هذا يبدو واضحًا عند مقارنة إعلانات الفيديو عبر الإنترنت في الشرق الأوسط بإعلانات القنوات الفضائية.

فما يُصرف على إعلانات الفيديو في موقع يوتيوب وحده تجاوز الــ ١٠% من المبالغ المرصودة للإعلان على الفضائيات العربية، وفق أحدث الإحصائيات التي أعلن عنها يوتيوب في مارس/آذار 2015. وطبقًا لهذه الإحصائيات فإعلانات الفيديو على الإنترنت في المنطقة العربية تنمو سنويًّا بما نسبته 8%، وهي النسبة الأعلى عالميًّا.

أخيرًا، يجب الإشارة هنا إلى أن هذه الإحصائيات لا تعني تراجع التلفزيون قريبًا، فكما تشير د. أماني مسعود، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فالتلفزيون والإعلام التقليدي سيبقى موجودًا لـ ـ20 سنة قادمة على الأقل، وهو أمر مرتبط بأن الخريطة الإعلانية لا يمكن تغيرها بين يوم وليلة، ولكن بالتدريج وببطء شديد.