محتوى مترجم
المصدر
The Conversation
التاريخ
2018/06/07
الكاتب
فيليب ألموند

كيف عساها تبدو الجنة؟ لعله ليس من المستغرب أن تكثر الصور المُتخيَلة، والمختلفة فيما بينها، عن الجنة؛ فحتى أواخر القرن السابع عشر كان مفهوم الجنة يدور بالأساس حول الرؤية الطوباوية، حيث سعادة الخلود الأبدي في الجنة مجسدة في التعبد والتسبيح بحمد الرب والتأمل فيه، جنبًا إلى جنب مع الملائكة، والقديسين، والشهداء، والصالحين الوارد ذكرهم بالعهد المقدس، وحتى الوثنيين النبلاء مثل أفلاطون وأرسطو.

كان مفهوم الجنة يدور حول رؤية الرب «وجهًا لوجه» لا عبر «زجاج على نحو معتم»، أو هو الخلود المتمحور حول الرب أو المسيح السماوي. ومن هنا جاءت لوحة «الدينونة الأخيرة» (المرسومة بين عامي 1425 و1430) للرسام «فرا أنجيليكو»، لتصور المسيح مستويًا على عرش تحوطه الملائكة والعذراء مريم والقديسين، ويده اليمنى تشير إلى الجنة، بينما تشير اليسرى إلى الجحيم. وعلى يمين المسيح تصطحب الملائكة الناجين عبر حديقة إلى مدينة فردوسية مسورة، في حين تقتاد الزبانية على يساره الأشقياء إلى جهنم.

ولا تخبرنا اليهودية التقليدية بالكثير حول الحياة الآخرة، لكن القليل المذكور عنها يدور بالأساس حول الرؤية الروحية للرب، ويُفصّل أحد حاخامات القرن الثالث بالقول:

الجنة ليست مثل هذه الأرض؛ لأنه لا أكل فيها ولا شرب ولا زواج ولا تناسل ولا تجارة ولا حقد ولا ضغينة ولا حسد بين النفوس، بل الصالح سوف يجلس وعلى رأسه تاج وسيتمتع برونق السكينة.

ولا يخلو مفهوم الجنة في الإسلام من فكرة الرؤية الطوباوية، لكن الجنة في الإسلام لا تخلو من التنعم بالمسرات الحسية. وفي الإسلام يُخلّد الفائزون في جنات النعيم على سرر متقابلين:

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(سورة الواقعة: 17 – 24).

أما في المسيحية، فقد ساد التصور عن الجنة المتمحورة حول الرب حتى القرن التاسع عشر، وقد صورها الأسقف «ريجينالد هيبر» (1783 – 1826) في ترنيمته «مقدس مقدس مقدس»، على النحو التالي:

كل القديسين يرنون بافتتان إليك، ويحفون بتيجانهم الذهبية البحر البلوري، الشاروبيم والسيرافيم يسجدون لك، أنت الذي كنت وما زالت وستظل إلى الأبد.

الأنشطة البشرية

لكن بدءًا من منتصف القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، حدث تحول تدريجي نحو مفهوم للجنة يتمحور حول الأنشطة البشرية. حيث اختفى التصور القروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى) حول تعظيم سعادة المنعمين في الجنة بقدرتهم على رؤية المعذبين في الجحيم، وقد اختفى هذا التصور تبعًا لتلاشي التصور عن الجحيم باعتباره مكانًا للعذاب الجسدي الأبدي، سيما وأن الناس قد صاروا ينفرون من رؤية معاناة الغير في الحياة الدنيا.

بدأت إشارات تظهر حول إمكانية نجاة الجميع من الجحيم في النهاية، على الأقل إن أرادوا ذلك. وأصبحت الجنة وفق هذا التصور أقرب إلى ما كانت عليه في السابق؛ مجرد حجاب حاجز رقيق يفصل الحياة الدنيا عن الآخرة. وانطوى هذا التصور على استمرار الوجود المادي/الجسدي في الجنة، لكن فقط دون الآلام التي يكابدها البشر في الحياة الدنيا.

وعلى الرغم من أن الجنة ظلت في هذا التصور مكانًا للراحة، فإن الفائزين بها راحوا يغدون أكثر نشاطًا وسموًا أخلاقيًّا في بيئة مفعمة بالبهجة. وحل الحب البشري محل الحب الإلهي، وأصبحت العلاقات بين الناس ركنًا أساسيًّا في الحياة الآخرة، لا إلهاءً عنها، وفي الجنة يلتئم من جديد شمل العائلات.

وإن لم يجُز لنا القول إن الجنة وفق التصور الحديث أصبحت أكثر «شهوانية»، كما في تصور «ويليام بليك»، فهي على الأقل أصبحت أكثر رومانسية، حيث يعود الوصال بين العشاق من جديد.

وفي قصيدته «الفتاة المباركة» (المنظومة عام 1881)، على سبيل المثال، صوّر «دانتي جابرييل روزيتي» فتاته ترنو بشوق إلى الأرض من تحتها عبر حجاب الجنة، آملة أن تلحق بها أرواح أحبابها، بينما «يلتقي من حولها العشاق من جديد/ ويهتف أنصاف الخالدين باسم الحب/ ويتبادلون الأحاديث فيما بينهم أبدًا/ مرددين الأسماء المحفورة في قلوبهم».


مكان فاخر

شاع التصور عن الجنة في العصر الفكتوري باعتبارها مكانًا بالغ التمدن والفخامة، تحكمه قواعد السلوك المهذب، وكانت أشبه بمنتجع سماوي مصمم على الطراز الفكتوري ومجهز بوسائل الترفيه، حيث يشرح النبي موسى الوصايا العشر في العاشرة صباحًا، وبعدها يعزف «جورج فريدريك هاندل» مقطوعته «المسيح» في الثانية ظهرًا. وهنا كان مفهوم الجنة المتمحورة حول الرب قد استُبعد.

وفي روايتها المصنفة بين الأكثر مبيعًا «انفراج الأبواب»، لخصت الكاتبة الأمريكية إليزابيث ستيوارت فيلبس انتهاء التصور القديم عن الجنة بقولها:

كان ذلك يقتضي وجود الناس في الجنة بأجسادهم الدنيوية، لكن التصور الحديث عن الجنة يوحي بأن ساكنيها ستكون لهم «أجساد روحية» أشبه بالملائكة، بيد أنهم لن يُبعثوا على هيئتهم التي كانت ساعة موتهم، وإنما سيكونون بأجساد مثالية في عمر مثالي، وهو عمر المسيح ساعة تكليفه بالرسالة في الدنيا، بين 30 و33 عامًا، وسيُبعث الذين ماتوا أطفالًا أو تعرضوا للتشويه في أحسن صورة.

لقد تعرضت فكرة الإله الكامل الودود للاختبار في القرن التاسع عشر، فقيل إن الحيوانات تعاني في الحياة الدنيا دون ثواب في الآخرة، ودفع الارتباط العاطفي بين بعض الناس وحيواناتهم إلى التساؤل بشأن كيفية اكتمال سعادتهم في الجنة بعيدًا عن حيواناتهم التي أحبوها كثيرًا. وهكذا دخلت مسألة مصير الحيوانات في الآخرة نطاق البحث للمرة الأولى.

وفي أواسط القرن التاسع عشر أيضًا بدأت تشيع فكرة أن الأرواح هي التي تقرر بنفسها الاتصال بالبشر في الدنيا، لا العكس. وكان هذا هو العصر الذهبي للاعتقاد بوجود الأرواح، وبأنها تتجلى لنا بطرق تثير الذهول. ولا شك أن فكرة الاتصال بالأموات خلال جلسات تحضير الأرواح كانت تنطوي على الكثير من العزاء والسلوى لمن فقدوا أحباءهم.

لكن جلسات تحضير الأرواح لعبت أيضًا دورًا في ترفيه الفضوليين، وشرح بعض الظواهر للعلماء، وإثارة قشعريرة الرعب لدى المؤمنين أو تسلية المتشككين. وبالنسبة للمسيحيين المحافظين فإن حضور جلسات تحضير الأرواح يعني الاتصال بالشيطان، لكن بالنسبة للسذج والمغامرين فإن ذلك كان بلا شك جزءًا من جاذبية اللعبة.

وفي سياق الروحانية، وفي إطار التصور الاجتماعي الحديث عن الجنة بشكل عام، يلعب الرب دورًا محدودًا. ولذا، فقد ظل الإيمان بالجنة قويًا ولا يزال، في حين بهت الإيمان بالإله. وحل الآباء والأقرباء المتوفون الذين يطلون علينا من الحواف الخارجية للكون محل الرب باعتباره قاضيًا صارمًا يفرض الفضائل.


المخيلة العلمانية الحديثة

كان ثمة نوع من الافتتان بينما يعزف عازفو القيثارات، وأمام العرش بحر زجاج شبه البلور، وتتردد أغنية الحَمَل وورثي. أربكني ذلك وأصابني بخيبة أمل منعتني من سماعها إلا نادرًا. لا شك لديّ أننا يجب أن نعظم الله بسعادة، لكن ألا يمكن أن نفعل ذلك بطريقة غير عزف القيثارة وترديد الأدعية؟

بدءًا من القرن العشرين فصاعدًا، تمت علمنة التصور عن الجنة، وأصبحت الجنة الحديثة جزءًا من المخيلة العلمانية الحديثة. ومن المفارقات أن الحياة الآخرة في اللاهوتين الكاثوليكي والبروتستانتي، أو على الأقل في الجانب الليبرالي منهما، أصبحت «فكرة آخرة» أو مؤجلة، فالمغزى من الحياة لم يعد مستمدًا مما وراءها وإنما من زمنها نفسه، من خلال تحول الأفراد جذريًا للإيمان (في اللاهوت الوجودي)، أو تحول المجتمعات جذريًا للإيمان (في لاهوت التحرير).

وفي إطار المسيحية الحديثة الأكثر ميلًا للنزعة الباطنية، فإن الخلود لا يتحقق في المستقبل وإنما في الحاضر، وعلى نحو ما يصور «ويليام بليك» الأمر:

أن ترى عالمًا في ذرة رمل وجنة في زهرة برية، وأن تقبض على اللا نهائية بين راحتيك وتعيش الخلود في ساعة.

وربما كان التشكك بشأن الحياة الآخرة هو ما جعل الجنائز المسيحية الحديثة تقوم على الاحتفاء بسيرة المتوفى في الحياة الدنيا، بدلًا من الاغتباط لحياته في العالم الآخر.

وبالرغم من الشكوك التي تراودنا اليوم بشأن وجود حياة آخرة من عدمه، لا يزال تصورنا المعاصر للجنة يمزج بين ملامح الجنة المتمحورة حول الرب والجنة الاجتماعية التي حلت محلها. ولم يعد الاعتقاد سائدًا كما كان في الماضي حول كون الجنة مكانًا جغرافيًّا موجودًا خلف النجوم، وإن كنا لا نزال نشير إليها مجازًا باعتبارها «في الأعلى».

ولا يزال الاعتقاد حول كون الجنة هي مكان حياة الرب سائدًا، حيث يعيش الفائزون بها على مقربة من إله أبوي عطوف. وعلى نحو ما تصور ترنيمة «إلهي أقرب إليك» الشعبية:

هناك حيث مقام أبي آمنًا مستريحًا، هناك حيث حب مُخلّصي، مبارك بالكامل.

ولا يزال الاعتقاد سائدًا أيضًا حول سكن الملائكة في الجنة، حيث يصنعون معروفًا من حين لآخر على الأرض. لكن علم الملائكة (الأنجيلولوجيا) الذي كان مزدهرًا منذ ألف عام قد اختفى عمليًّا.

إن الجنة، وفق تصور واسع الانتشار، هي حالة نحياها بعد الموت، حيث نظل محتفظين بوعينا بذواتنا وذكرياتنا عن حيواتنا الدنيا، كما لا تزال القناعة سائدة حول التئام شملنا مع من كنا نحبهم في الحياة الدنيا. والحياة في الجنة، على غرار سابقتها في الدنيا، مفعمة بالبهجة والحب، حيث ننمو ونتطور أخلاقيًّا وفكريًّا وروحيًّا.

وبالرغم من أننا لن نظل أسرى أجسادنا المادية، لا يزال البعض يأملون، إن لم يكونوا موقنين، بأننا سنكون بذواتنا وعلى هيئتنا في الحياة الدنيا، ومن هنا تساءل المغني «إريك كلابتون» في أغنيته «دموع في الجنة» (1992) عما إذا كان ابنه الفقيد سيتعرف عليه عندما يلحق به في الجنة.

وبعكس التصور الذي شاع في الأزمنة الخوالي حول كون الجنة حكرًا على المسيحيين أو المسلمين أو الكاثوليك أو البروتستانت وحدهم، يُعتقد الآن أن الجنة هي مثوى الجميع، أو على الأقل من عملوا الصالحات في الدنيا.

وكما كان الأمر في الماضي، يُعتقد أن الجنة مكان للسعادة العظمى والبهجة والطمأنينة، ولهذا فإننا نصف أي تجربة تنطوي على متعة هائلة في حياتنا الدنيا بأنها تجربة سماوية أو فردوسية. وفي فيلم «القبعة العلوية» (1935)، يشدو «فريد أستير» قائلًا:

الجنة، أنا في الجنة… حيث نتراقص سويًا وخدّانا متلاصقان.

وباختصار، فإن حياتنا الدنيا، على أحزانها ومآسيها، تمنحنا إشارات عارضة إلى الحياة الآخرة، التي يُعتقد أنها ستكون صورة من حياتنا الدنيا وقد صارت مثالية.