«ثمّ كان الجوع أقدرَ من الألم»
الأنشودة الثالثة والثلاثون / أناشيد الجحيم – الكوميديا الإلهية

لم يحير سطرًا أدبيًا عقول النقاد كما فعل البيت السابق من أناشيد دانتي في الجحيم، حتى قيل إنه هو السطر الشعري الأشهر في تاريخ النقد الأدبي. بل إن الأديب الأرجنتيني «خورخي بورخيس» خصّص محاضرة كاملة بخصوص ذلك البيت.

في تاريخ الفن، فاللوحة الأشهر عن ملحمة دانتي للفنان الفرنسي «ويليام بوغيرو William Bouguereau» : دانتي وفيرجل في الجحيم/ 1850، تم ربطها دائمًا بذلك النشيد رغم أنها في الأساس تجسد مشهدًا مشابهًا في الملحمة.

والمثير في الأمر، ارتباط النشيد أيضًا بواقعة تاريخية حدثت في القرون الوسطى، فلم تكن الحالة محض خيال شعري لدانتي، وهو ما زاد الأمر جديةً وتعقيدًا.

سطر غامض، وتاريخ صادم، ولوحة شهيرة… فما أصل الحكاية بالضبط؟

«هو هذا الذي زار الجحيم»: ملحمة دانتي الخالدة

«كان دانتي ذا وجهٍ طويلٍ وجبهة عريضة وأنف أقنى، وعينين لامعتين واسعتين، وذقن مدبب، وكانت شفته السفلى أبرز قليلاً من العليا، وكان أسود الشعر، أسمر اللون. وعندما تقدمت به السن أخذ يسير في انحناءٍ قليل، وتبدو عليه علامات الحزن والتفكير»

هكذا وصف الأديب الإيطالي «بوكاتشو» الشاعر الإيطالي دانتي، ويُروى أن الإيطاليات المسنات، عندما كن يرين الشاعر مارًا في الطرقات بعد صدور ملحمته الشهيرة، كن يفسرن دكنة ملامحه بما لحقه في الجحيم، فهو هذا الذي زار الجحيم، بالنسبة لهن.

يمثل دانتي أليجييري Dante Alighieri -من مواليد مدينة فلورنسا الإيطالية نحو 1265م- لحظة الانتقال ما بين العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبي.

نقطة بداية النهضة الأوروبية الحاسمة هي ظهور ملحمته الشعرية الكبرى «الكوميديا الإلهية Divina commedia»، وهو اللقب الأكثر شيوعًا للاسم الأصلي للعمل وهو الملهاة الإلهية، والمعنى أصله يوناني قديم في المسرح الإغريقي. فالملهاة أو الكوميديا هي تعبير عن انتقال البطل نفسيًا من حالة الغم والحزن والتشتت إلى حالة البهجة والصفاء والاستقرار خلال أحداث العرض.

هكذا ينتقل الشاعر دانتي في الملحمة من حالة التشتت في نشيد الجحيم (الغابة المظلمة في مطلع القصيدة) إلى حالة البهجة في نشيد الفردوس الختامي (السعادة الإلهية في الملأ الأعلى) مرورًا بالمطهر وهي حالة وسطى بينهما.

إن عبقرية دانتي لا تنحصر فقط في مهارته الأدبية الفذة ولا في مخيلته الجبارة التي وضعت الملحمة في مكانة مميزة بين روائع الأدب العالمي، لكنه أيضًا كان المؤسِّس الأول للحركات القومية والإنسانية في مجمل أوروبا.

فقد تجرأ على كتابة الملحمة باللغة العامية وقتها (الإيطالية الآن) بدلاً من اللغة الرسمية الفصحى للكنيسة (اللغة اللاتينية)، وبذلك كسر الحاجز ما بين الثقافة وعامة الشعب الذي كان يجهل لغة النخبة الكنسية، فلم يكن باستطاعة العوام حتى قراءة الكتاب المقدس.

يقول دانتي في إهدائه عن الملحمة:

إن لقصيدتي ثلاثة معانٍ: معنى مباشر وموضوعه مصير الروح بعد الموت (المحور الديني)، ومعنى رمزي موضوعه جزاء الإنسان على أفعاله(المحور الفلسفي)، ومعنى صوفي موضوعه البحث عن السعادة والخلاص من بؤس الحياة (المحور الجمالي)

كل شيء في ملحمة دانتي ثلاثي: فأبياتها ثلاثية (14 ألف بيت)، وهي تنقسم لثلاثة أقسام كبرى: الجحيم والمطهر والفردوس، والعدد رمزية عن الثالوث الإلهي المقدس في المسيحية.

تبدأ الملحمة في غابة مظلمة في حالة غريبة ما بين النوم واليقظة وكأنه حلم أو رؤية لدانتي، ويقود الشاعر الروماني «فيرجيل» رفيقه دانتي في رحلة طويلة تمتد أيامًا.

تبدأ الرحلة بحلقات الجحيم التسع الهابطة على شكل مخروط في باطن الأرض، وكلما هبط دانتي إلى الأسفل زادت نوعية الخطيئة وزاد على أساسها درجة العذاب.

ثم يصعد دانتي من خلال نفق دودي في باطن الأرض إلى جزيرة يحيطها بحر شاسع وفيها «جبل المطهر» المدرج إلى سبع مستويات تمثل الخطايا السبع في المسيحية.

يفترق بعدها دانتي وفرجيل، وتبدأ صحبة الشاعر لحبيبته «بياتريس» التي ماتت صغيرة ولم يظفر دانتي بحبها، وهي الآن روح حرة في العالم الآخر تبغي الصعود لعالم الفردوس برفقة الشاعر.

ثم يرتقي دانتي مع حبيبته في التسع سماوات وصولاً إلى الملأ الأعلى حيث يرى النور الإلهي ينبع من وردة سماوية.

برج الجوع: على أعتاب لوسيفر

تمثل أناشيد الجحيم قطبًا مركزيًا انطلقت من خلاله أشكال متعددة من الكتابة في الأدب الحديث، فقد مارس جحيم دانتي حضوره الطاغي على الآداب والفنون الأوروبية.

انطلاقًا من الرسومات التي صاحبت الطبعات الأولى للنص في محاولة لتجسيد تلك الصور الشعرية الفريدة التي رسمها دانتي في أبياته، ومرورًا بكبار الأدباء: بلزاك في الكوميديا الإنسانية، وبودلير في أزهار الشر، وصولاً إلى الرواية السوداء في القرن التاسع عشر سواء في روايات الرعب أو الروايات البوليسية الحافلة بالجرائم.

الجحيم مستودع للمشاهد المرعبة والمفزعة، ومنطقة ملتهبة بكل أشكال الألم والشر، حتى أصبح اسم الشاعر صفة لكل ما هو متطرف في إثارة الرعب في جميع المعاجم الأوروبية dantesque.

يقيم دانتي في الأناشيد عددًا من اللقاءات مع شخصيات يستحضرها من التاريخ الأسطوري أو الفعلي أو الأدبي، حيث يلتقي بملكة بابل الشهيرة «سميراميس» التي أباحت جريمة زنا المحارم في الحلقة الثانية من الجحيم.

ومن الأدب يلتقي بالمغامر «عوليس» من قصيدة «الأوديسة» الشهيرة لهوميروس، أما قاع الجحيم وهو ذروة القسم، يسكن فيه «الملاك الساقط- لوسيفر» وهو يلتهم الخونة من أمثال: يهوذا الذي سلم المسيح للرومان، وبروتوس الذي خان صديقه القيصر.

لكن قبل دخول دانتي لقاع الجحيم السفلي، وأثناء مروره في الحلقة التاسعة منطقة عقاب الخونة، يلتقي مع شخصية تاريخية أفرد لها الأنشودة الثالثة والثلاثين بأكملها:

الكونت أوغولينو وبرج الجوع

يلاحظ دانتي عن بُعد معركة بين آثمين يخرجان من وسط الجليد، وعندما اقترب منهما وجد أحدهما ينهش رأس الآخر. حاول دانتي أن يعرف حقيقة الأمر من صاحب الرأس الأعلى ووعده بالتشهير بعدوه في قصيدته.

إنها حكاية الكونت أوغولينو البيزي (نسبةً إلى مدينة بيزا الإيطالية) الذي عاش في القرن 13 الميلادي من أصول نبيلة كانت لها السيطرة على بعض القلاع في سهول بيزا حيث تزوّج وأنجب عدة أبناء، وآلت إليه بعض الأملاك التي حفزته على ممارسة ألاعيب السياسة.

كان أوغولينو زعيمًا من زعماء «حلف الجبلين»، لكنه فضّل مصلحته الشخصية وقرّر الانضمام للحلف المنافس في إيطاليا وهو «حلف الجلف»، وقرر نقل سلطة مدينته لهم.

أدرك حلف الجبلين لعبة الكونت، فحدث قتال مسلح بين الجانبين، وحاول الكونت أن ينقذ مدينته منهما عن طريق التفاوض، ولكن لم ينسَ حلف الجبلين فعلة الكونت، فأسروه غدرًا مع أبنائه بمعاونة صديقه القديم الأسقف «رودجيرى بالدينى».

يبدأ النشيد برفع الكونت فمه عن رأس الأسقف الذي غدر به، قائلاً لدانتي:

«إنك تريد أن أجدد الألم اليائس، الذي يعصر قلبي مجرد التفكير فيه من قبل أن أتكلم عنه، ولكن إذا كانت كلماتي بذورًا تُثمر سوء السمعة للخائن الذي أنهشه، فإنك سترى الكلام والبكاء معًا»

ثم يروي الكونت لدانتي الأحداث التي وقعت بعد وقوعه في الأسر وحبسه في البرج الذي يسمى «برج الجوع» وقد مَنعَ عنه الأسقف الطعام.

في البداية غدر الأسقف بالكونت وطارده هو وأبناءه بكلاب الصيد، حتى سقط الكونت فريسة له من شدة التعب، ثم يلتفت الكونت لدانتي قائلاً:

وحينما استيقظتُ قُبيل الفجر، سمعتُ أولادي، الذين كانوا معي، يبكون في نومهم ويطلبون الخبز.
إنك لشديد القسوة، إذا لم تتألم
وأنت تفكر فيما أحسَّ به آنئذ قلبي
وإذا كنت لهذا لا تبكي،
ففيمَ اعتدت البكاء؟

يحكي الكونت كيف كانت الساعات الأولى في الحبس ثقيلة على قلبه إلى حد البكاء، لكنه تماسك بعد أن نظر في وجوه أبنائه الأربعة.

ومع شروق اليوم التالي، سقط شعاع ضعيف إلى محبسه، وعلى حد تعبيره في الأنشودة:

وتبينتُ في وجوهٍ أربعةٍ صورتي ذاتها منعكس
عضضتُ كلتا اليدين من الألم، وفي ظنهم أني فعلت ذلك رغبةً في الطعام

أثار رد فعل الكونت التلقائية براءة الأطفال، فقالوا:

أبتاه! سيخف ألمنا كثيرًا إذا أكلتَ منا: أنتَ علة هذا اللحم البائس، فاخلعه عنا

يشرح الكونت لدانتى كيف أن تصريح أبنائه قد أصابه بالذهول، فقرروا الصمت جميعاً حتى اليوم الثالث.

وفي صباح اليوم الرابع، رمى ابنه الأصغر نفسه تحت قدمي الكونت قائلاً: «أبتاه! لمَ لا تساعدني؟» ثم مات في مكانه.

سقط الثلاثة الباقين واحدًا واحدًا في اليوم الخامس، ولم يعد قادرًا على تمييز صمتهم، بعد أن أصبح أعمى من شدة الحزن والجوع.

ظل يزحف فوقهم ويناديهم حزنًا، ويختم النشيد قائلاً:

«وقد صرتُ أعمى، أزحف فوق كل واحد منهم، وناديتهم مدة يومين، بعد أن أصبحوا موتى:
ثم كان الجوع أقدر من الألم»

عبارة بليغة وغامضة بعد نشيد مؤلم شحنه دانتي بتوتر نفسي درامي عالي، فما قصد الشاعر من عبارته الغريبة؟

الجوع أم الألم: مشكلة الكونت وحل بورخيس

أسالَ ذلك السطر – على حد قول المترجم والناقد كاظم جهاد – أنهارًا من الحبر، ورغم أن دانتي قد وضع الكونت أوغولينو في أعماق الجحيم لخيانته السياسية وفقًا لرؤية دانتي الأخلاقية

فإنه أضاف بعدًا إنسانيًا مؤلمًا لقصته حفزت آلاف القراء على التعاطف مع حالته المحزنة.

وقد انقسم كبار نقاد وشراح الأدب لوجهتي نظر في السطر الأخير المحير:

وجهة النظر الأولى تساءلت: «أيعقل أن يكون الكونت التهمَ لحم أبنائه الميتين أم تراه يقصد أن الجوع أضر به أكثر مما فعل الألم؟»

وقد فسّروا على هذا الأساس: كان الجوع أقدر من الألم؛ أي قتله الجوع ولم يقتله الألم، ولعله كان يود أن يعيش على الألم لكي يذكر مأساة أبنائه دومًا.

الجوع كان خط النهاية للكونت حيثما لم يقدر الألم على قهره.

وجهة النظر الثانية مالت إلى أن الكونت قد استجاب لدعوة أبنائه فتناول من لحمهم بعدما ماتوا.

تدعم الحكايات الشعبية عن برج الجوع أن الكونت أكل أبناءه وهو سر شهرة الواقعة تاريخيًا.

خصص الأديب الأرجنتيني الشهير «بورخيس» محاضرة كاملة تحت عنوان «مشكلة أوغولينو الزائفة»،

مجمل رأيه يأخذ القضية إلى جانب أعمق من مجرد حسم موقف أوغولينو، فمن وجهة نظر بورخيس لا يهم أن نعرف إذا كان أوغولينو قد التهم لحم أبنائه أم لا؟ فتلك معضلة تاريخية لا يمكن حسمها أبدًا لغياب شهود مباشرين.

يرى بورخيس أن المسألة الأساسية في السطر الغامض هي رغبة دانتي الشعرية، لأنه يتجاوز الخلاف التاريخي ويذهب مباشرة إلى عقل القارئ. يريد دانتي أن نظن فقط محض الظن، وانعدام اليقين جزء أساسي من أسلوبه الشعري. إن دخول القارئ في حالة من الشك والظن أكثر رهبة أدبيًا من حسم موقف أوغولينو.

يقول بورخيس:

نلاحظ في الزمن الفعلي والتاريخي، أنه كلما اضطر أحد إلى الاختيار بين مخارج عديدة، فهو يختار أحدها ويُقصي البقية. لا يكون الأمر نفسه في الزمن الغامض للفن، الذي يظل شبيهًا بحالة الرجاء والنسيان. في مثل هذا الزمن كان هاملت مثلاً واعيًا ومجنونًا معاً. وفي غياهب برج الجوع، يلتهم أوغولينو أجساد عزيزة عليه ولا يلتهمها. وهذا الغياب المتأرجح، وهذا الانعدام لليقين هو المادة العجيبة لقصته في الملحمة. هكذا حلم به دانتي في خياله، وهكذا ستحلم به الأجيال القادمة

من النادر أن ينصف التاريخ سلوك البشر في الواقع، ونظرًا لشهرة القصة، فقد أُجريت حفريات في مقبرة عائلة أوغولينو، واعتمادًا على النتائج فقد مال العلماء إلى رفض قصة أكل الرجل للحم أبنائه.

ففي عام 2002 م أجرى عالم الأنثروبولوچيا «ڤرانشيسكو ماليجني» اختبار DNA على جثث أوغولينو وأولاده. أنصف تحليل الطب الشرعي الكونت وهدم رواية أكل لحوم البشر بعدما أظهر آثارًا لعنصر الماغنيسيوم ولكنه لا يحتوي على عنصر الزنك. ما يعني أن الكونت لم يأكل اللحوم عدة شهور قبل وفاته.

هذه الحقيقة الأخيرة، رجّحت أن الكونت لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحتضن جثث أولاده.