استيقظ العالم، في أحد صباحات إبريل/نيسان الأولى لعام 1997، على خبر فاجعة مُسجّلة ضمن أكبر عمليات الانتحار الجماعي في التاريخ؛ حيثُ قُتل 39 فردًا من جراء تلقيهم جرعات كبيرة من المهدئات، ضمن طقوس غريبة ارتدوا خلالها ملبسًا فضفاضًا أسود اللون، وغطّوا وجوههم بأكياس بلاستيكية ذات لون أرجوانيّ.

أتعاطى مخدرًا لأسافر لعالمٍ آخر!

كشفت التحقيقات أن هؤلاء الأفراد يتبعون جماعة أُسّست منذ سبعينيات القرن الماضي، آمن روّادها بأن نهاية الحياة على الأرض ستحل بالتزامن مع مرور مذنب هايل-بوب Hale-Bopp الذي ستعقُبه سفينة فضائية تُقلهم إلى العالم الآخر في مقرهم الأخير الذي أسموه «الجنة الحقيقية» وعليه فكان اسم جماعتهم «بوابة السماء Heaven’s Gate».

اعتقد هؤلاء الأفراد أنّه بقتل أنفسهم ستتحرر أرواحهم من أوعيتها المادية (الأجساد)، وتحلّق في السماء وصولًا إلى المركبة الفضائية التي صعد على متنها أناسٌ آخرون من كواكب أخرى صنعوا الشيء ذاته؛ الأمر الذي يضمن حفظ وعيهم لإعادة بعثهم من جديد بمجرد حلول الحياة على الأرض مرةً أخرى.

يزخرُ التاريخ بالكثير من الأمثلة التي صدّق البشرُ خلالها طفراتٍ علمية زائفة أضرت بهم بدرجاتٍ متفاوتة، أفضى بعضها إلى قتلهم. اعتناق هذه الأفكار وممارسة تلك الطقوس لا يرتبط بمستوى اجتماعي معين؛ فَكِّر في مجموعة بشرية بمستوى ذكاء مقبول ومستوى معيشي ممتاز تفعل فعلتها تلك بلا أدلة، فلا دليل علمي حتى اللحظة لوجود حضارة أكثر رقيًّا، ولم ترصد تليسكوبات العلماء أية سفن فضائية في ذيل المذنب هايل-بوب الذي ظلّ يحوم في سماء الولايات المتحدة لمدة تقارب العام والنصف، ولا شيء أيّد كذلك وجود فضائيين أكثر من كونها خرافة واسعة المدى منذ عصر الأطباق الطائرة.

أن يسبق العلمُ الخيالَ العلمي خطوة

إذا كنت تعتقد بعبثية تصديق البشر لفكرة تناول مخدّر والسفر لعالمٍ آخر فأنت مخطئ يا صديقي، صدّقني إنّ هذه الفكرة كانت ولا تزال كامنة في عقول البشر، وجماعة بوابة السماء التي وردت مأساتها في مقدمة كتاب الطفرات العلمية الزائفة [1] لم تكن أكثر من مخرجٍ لها، وإن كان مخرجًا غير دقيق يفتقرُ إلى المنطقية العلمية، ومن ثمّ فلا عجب أن يظهر الآن نماذج أخرى لمخدرات مختلفة تحمل أفكارًا مشابهة، وتلقى رواجًا.

صورة المخدّر في العمل الدرامي

تزايد فضول الناس حول مخدر الفيل الأزرق بعد صدور فيلم «الفيل الأزرق» للروائي أحمد مراد.

معظم الأفكار التي أوردها الفيلم للعامة كانت على غرابتها واقترابها من حد الخيال العلميّ صادقة المضمون ومؤيَّدة بالتجارب، ومن أجل مقاربة أكثر للموضوع، سنعقد مقارنةً بين ما تناوله الفيلم من جهة وما أكدّه العلم من جهة أخرى.

معظم الأفكار التي أوردها الفيلم للعامة كانت على غرابتها واقترابها من حد الخيال العلميّ صادقة المضمون ومؤيَّدة بالتجارب.

في فيلم «الفيل الأزرق» يظهر البطل في ثوب شخصية الدكتور يحيى، الطبيب النفسي الذي عاد للتوّ إلى العمل بعد فترة انقطاع غير قصيرة، من ثمّ يُكلف في مكان خطر نسبيًا ليجد أنّه القائم على علاج صديق قديم له متورّط في قضية قتل، ومشخّص كمصاب باضطراب الهوية التفارقي، حيثُ يتبدّل وعيه ما بين شخصيتين، دكتور شريف -شخصيته الأصلية- ونائل -شخصية أخرى أكثر جرأة وتعسّفًا وعنفًا من شخصيته كطبيب.

يمتزج العلم –في صورة الطب النفسي- مع الخرافة ممثلةً بعالم الأشباح في أحداث تتوازن فيها كفتا الميزان، فيميل تجاه الأسطورة حينًا، ليؤكّد أن اكتشاف الدكتور يحيى للغز حالة صديقه إنما هو بفضل تعاون أرواح أخرى في عالم سفلي، ومرة يميل تجاه العلم ليبرز الدور الغريب الذي لعبه مخدر DMT الذي ظهر طوال الأحداث باسم «الفيل الأزرق»، ويُظهر بشدة أنّ خبايا ذلك العالم الذي يزوره الدكتور يحيى هي أكثر من مجرد هلاوس حسية، ويتجاوز الأمر ذلك، فالمخدر واقعيًا -بين جدران المختبرات وليس فقط وفق أحداث الفيلم- قادر حتمًا على الولوج بك إلى عالمٍ آخر.

عن مخدر DMT

في حالته النقية، يكون المخدر أبيض اللون، ويتلون ليبدو بألوانٍ فاتحة في حال اختلط بشوائب، ويغدو قاتمًا حينما يختلط بغيره من المهلوسات، إلا أن الصورة الشائبة له هي الأكثر انتشارًا. اتفق البشر على أنّ للفيل الأزرق رائحة نفاذة وإن اختلفوا في وصفها، فذهب بعضهم إلى أن له رائحة مماثلة لرائحة اليود، ووصفها آخرون بأنّها كرائحة البلاستيك المحترق أو الأحذية الجديدة.

للفيل الأزرق طرق عدة للتعاطي، ليس من بينها تلك الواردة في الفيلم، إذ يمكن استنشاقه وشربه أو حتى حقنه – وهي الطريقة الأخطر.

بماذا يشعر متعاطو الفيل الأزرق؟

يبدأ الأمر بسماعك لصوت طنين لا يكف عن العلو، من ثمّ تنتقل تلك الاضطرابات إلى المجال البصري، فتتشوّه الأشكال، وتغدو أكثر حدة وقربًا، بينما تتغير ألوانها من حولك. يتكثف التأثير فيبدأ الشخص بسماع صوت نيران موقدة، ويتشوّه الواقع أكثر فأكثر فيحس الشخص بجسده كأنه ينتقل بين أنفاق متتالية تعبر الواحد تلو الآخر، وتقفز من أحدها قبل أن ينهار مباشرةً.

يشعر الشخص أن رحلته انتهت، وسكن جسده للتوّ، ليجد نفسه في مكانٍ مضيء بعد رحلته عبر الأنفاق. هل هذا هو الضوء في نهاية النفق الذي طالما حدّثونا عنه؟ لا يملك الشخص الوقت للإجابة لأنّه سيشعر بجدران المكان تضيق من حوله وكأنها ستنطبق عليه، لكن عوضًا عن ذلك تتراقص مشكّلةً أشكالًا هندسية، من ثمّ يبدأ الشخص برؤية أشباح!

الفيل الأزرق منظارٌ لرؤية الجنّ أم بوابة العبور لكونٍ موازٍ؟

على سبيل المثال لا الحصر، أجرى الطبيب النفسي والكيميائي ريك سترسمان Rick strassman -والمعروف بكتبه عن مخدر ال DMT- في عام 2001 إحدى تجاربه لاختبار مدى واقعية العالم المرئي الذي يراه متعاطو الفيل الأزرق، وأكد نصف المشاركين بتلك التجربة، وعددهم 60 متطوعًا، دخولهم لمستويات من الوجود قائمة بذاتها ذات طبيعة لم يعتدها العقل البشري من قبل؛ عوالم تسكنها حضارات ذكية وصفهم المتطوعون بألفاظٍ من قِبَل «مخلوقات- كيانات- فضائيين- مرشدين أو مساعدين»، وكل لفظٍ جاء موسومًا بالذكاء.

الفيل الأزرق بتغييره لنظام المرور في المخ يفتح بقصدٍ أو بدون بوابةً لعالم آخر، لم يكن يفصلنا عنه سوى محدودية وعينا الذي بدله المخدر وسُمي بالروح، إلى شكل آخر من أشكال الوجود.

بالنسبة لهيئتهم، فقد ظهروا للمتطوعين بأشكال مختلفة، أحيانًا في شكل مهرّجين، ومرات أخرى بدوا في شكل زواحف، أو عناكب، أو نحل، أو في هيئة أشخاصٍ من العصيّ، كتلك الموجودة في رسومات الأطفال.

لم يكن سترسمان الوحيد الذي ذكر طبيعة تلك الكيانات في تجاربه على متطوعيه، تيرينس ماكينا Terence Mckenna، وهو عالمٌ أمريكي في علم النبات الشعبي ورائدٌ نفساني، أورد في كتبه نفس الوصف الذي استخدمه سترسمان بل ذهب أبعد من ذلك فاختصّها باسم «الجن المتحول ذاتيًا».

لا شكّ أن تاريخ المرض النفسي والمهلوسات حافل بأطنان من العوالم المرئية الغريبة، لكن ما يميز مخدر DMT هو أن تلك الهلاوس البصرية التي يراها متعاطوه وهم فاتحو الأعين أو مغلقوها تقتصر عليه هو وفقط!

لو كان ما يراه متعاطو الفيل الأزرق في رحلتهم هي مجرد هلاوس تأتي كنتيجة بديهية لتغيّر كيمياء المخ الذي يسبّبه المخدر، فلماذا لم نرصد إلى الآن أية أنماط بصرية مماثلة لها في أي نوعٍ آخر من العقاقير أو التجارب على الدماغ؟ ولماذا يأتي الفيل الأزرق محيرًا بعالمه المرئي ذاك حتى يجعلنا نفكر فيما هو أغرب، وهو أنّ الفيل الأزرق بتغييره لنظام المرور في المخ يفتح بقصدٍ أو بدون بوابةً لعالم آخر، لم يكن يفصلنا عنه سوى محدودية وعينا الذي بدله المخدر وسُمى بالروح، إلى شكل آخر من أشكال الوجود، إذ أجزم المشاركون في التجارب أنّهم فقدوا الإحساس بأجسامهم والبيئة المحيطة.

تجربة روحية أم مجرد هلاوس حسيّة؟

رفض عددٌ لا يُستهانُ بهِ من المتطوعين التصديق بأنّ كل ما مروا به كان مجرد هلاوس لا أساس لها من الصحة، فهي لم تبدُ لهم كالأحلام بل كانت أكثر واقعية من الواقع نفسه، حتى سترسمان نفسه ارتاب في أمر تلك العوالم التي وصفها متطوعوه، وفي النهاية رضخ مثلهم وأعلن في أحد كتبه أن تلك الكيانات هي أشخاص موجودة تقطن عالمًا حقيقيًّا لا مرئي، ربما يكون كونًا موازيًا!

الأدهى من تصديق المتطوعين العاديين لوجود عوالم أخرى سافروا لها عبر تناول المخدّر هو أن هناك أشخاصًا لم يكن لديهم أي حكم مسبَق بأية روحانيات بدؤوا التصديق في الشيء ذاته! ففي تجربة في معهد جونز هوبكينز أجراها رونالد جريفيث وآلان ديفيز بمشاركة ألفي وخمسائة شخص جُلّها من الملحدين، وصف المتطوعون من الملحدين وجودًا قويًّا لقوّة خيّرة أو لإله، وبعد التجربة -التي شعر المتطوعون خلالها بحضور لقوة إلهية عظمى- آمن أكثر من نصف المشاركين الملحدين.

مخدر DMT تذكرة -ذهاب وعودة- إلى البرزخ

يُعرف عالم البرزخ أو كما يُسمّى في علم الطب «تجربة الاقتراب من الموت» بأنّه الحالة التي يُنبئ كل شيء فيها بموت المريض، بينما يظلُّ وعيُه مستمرًا، وبالوعي نقصد إدراكه للأشياء، حواسه من سمعٍ وبصر وإحساس، …إلخ.

على سبيل المثال، حالة توقف قلب لمريض؛ يتوقف النبض، يختفي ضغط الدم، ويكفُ المخ عن إرسال واستقبال إشاراته، ويصبح المريض ميتًا سريريًّا. يستمر الوضع لبضع ثوانٍ أو دقائق تختفي فيها كل العلامات البيولوجية الدالّة على الحياة، ومن ثمّ يعود المريض إلى الحياة وفي جعبتِه الكثير من التجارب التي تنتظر أن تُحكى وقد جذبت انتباه الكثير من الأطباء ومنهم سترسمان الذي نقلنا عنه هنا من كتابه [2] DMT: The Spirit Molecule.

لم تلقَ تجارب الاقتراب من الموت، إلى الآن، من التفسيرات ما يُرضي الوسط العلمي، فكل تفسير محتمل ظهر يفسر حقيقتها أدان نفسه في ذات الوقت، ومن تلك التفسيرات:

أولاً: نقص الأكسجين الواصل إلى المخ

يتسبب نقص الأكسجين في حدوث الهلاوس، مما قد يفسّر حقيقة ما يختبره صاحب تجربة الاقتراب من الموت، إلا أنّ هلاوس نقص الأوكسجين تتّسم بكونها فوضاوية وضبابية ينسى المريض معظمها في وقتٍ قصير، وهو الأمر الذي ينافي طبيعة عالم البرزخ، تلك التجربة التي يعود منها المريض متذكرًا مشهدًا واسعًا بكافة تفاصيله.

ثانيًا: مستوى منخفض من نشاط المخ غير كافٍ لتلتقطه أجهزة رسم المخ

هذا التفسير هو الآخر ينفي نفسه بنفسه، فلا يُعقَل أن يخلق مستوى نشاط بهذا الصغر مثل تلك التجارب المكثّفة والواضحة.

ثالثًا: إفراز المخ لمجموعة من المواد المخدّرة تتسبّب في حدوث كل هذا وعلى رأسها [3] DMT

يقترح بعض العلماء أنّ المخ أثناء حالات التوتر العالية يفرز كميات من مخدر DMT تتسبّب في خلق عالم المؤثرات البصرية الذي يراه خائض التجربة، وإدخاله إلى تجربة الاقتراب من الموت، على الرغم من أنّ تواجد DMT بصورة طبيعية في الدماغ لا يزال أمرًا غير مؤكّد، رغم العثور عليه بالفعل في الغدة الصنوبرية لدى الفئران.


الشخص الذي ينتحر وينجح في الاقتراب من الموت، لن يتمنى الموت مجددًا

توجد مخطوطات من حضارات دينية عمرها آلاف السنين تشرح دور DMT وكيف يُمكنه التحكّم في دخول الروح وخروجها من الجسد، فهو مرتبط بالتجارب الروحية ويمكن الشعور بجزء من تأثيره من خلال ممارسة التأمّل لفترة طويلة أو الصيام أو الترتيل كما قال دكتور سترسمان، أو بمعنى آخر لا يجب أن نغفل نهائيًا الدور الروحاني الذي يلعبه.

من أجل التأكّد مما إذا كان حقًا DMT هو سبب ما يحدث عند الموت، أجرى علماء مقارنة بين علامات تجربة الاقتراب من الموت مع تلك المميزة لـ DMT وفي ورقة بحثية نُشرت عام 2012 في صحيفة «دراسات الاقتراب من الموت» Near-Death Studies عقد خلالها دكتور مايكل بوتس Michael Potts المقارنة، ليجد أن العلامات البارزة المميزة للموت حقًا، والتي تشمل شعور المرء بمروره عبر مملكة غير محدودة لم تتحقق في تجارب DMT وإنّما علامات الاقتراب من الموت التي تواجدت حقًا في التجارب على المخدّر تشابهت بشكلٍ كبير مع تلك التي سبّبتها مخدرات أخرى ولم يكن فيها من التفرّد ما يدعو إلى الغرابة.

الشيءُ الأخير الذي ميّز الأمر هو سلوك الأفراد بعد العودة من التجربة؛ قال أحدهم ذات مرّة «الشخص الذي ينتحر وينجح في الاقتراب من الموت، لن يتمنى الموت مجددًا»، فتجربة الاقتراب من الموت لا يمرّ بها شخصٌ إلا ويعود منها مقدّسًا للحياة، وهو الأمر الذي تفتقره تجارب DMT فرغم وجود الأدلة على قيامه بتغيير وصلات العصبونات الدماغية فإن تقاريرنا العلمية حتى الآن تنفي كونه المسبب الرئيسي للموت، وعلى كلٍ فكلاهما -أي DMT وتجربة الاقتراب من الموت- لديه ما يكفي من الغموض، ولا يزال العلمُ يبحث في أغوارهما وتبرز أمامنا تجارب تُذهِلُنا، أحيانًا تدعم وجهات نظرنا، وأحيانًا كثيرة تُجبرنا على العودة بحساباتنا إلى البداية.

المراجع
  1. كتاب الطفرات العلمية الزائفة – المقدمة – الطبعة الأولى مايو 2001
  2. كتاب DMT: The Spirit Molecule الصفحات 220, 221, 222 – الطبعة الأولى عام 2000
  3. من الوثائقي DMT: The Spirit Molecule (2010) [multi subs] من الدقيقة 6 وحتى الدقيقة 9