خبر عن مراهق ادعى اختراعه لجهاز يتمكن من ترجمة لغة الحيوانات هو جزء طبيعي من حياتنا اليومية في مصر، بالطبع لاقى هذا المدّعي ما لاقاه من النقد اللاذع والتهكم على صفحات فيسبوك، لكن لم يلتفت أحد، سواء كان المخترع نفسه أو منتقديه، لنقطة مهمة في هذا الصدد، بالطبع من الممكن للحيوانات أن تتواصل مع بعضها عبر طرق مختلفة، عن طريق الرائحة والتلامس والعواء والتلويح ربما … إلخ. لكن، هل للحيوانات – أصلًا – لغة؟

http://gty.im/453289876

دعنا في البداية نتعلم عن بعض الصفات الأساسية المميزة للغة حتى نستطيع أن نجيب على سؤالنا، على هذا الكوكب هناك ما يقرب من 7000 لغة، تختلف اختلافًا شديدًا في طرق نطق حروفها وكلماتها ومعاني كل ذلك، لكنها جميعًا تشترك في عدة صفات أساسية تجعل منها لغة بشرية:

1.الانفصال Discreteness: تتكون اللغة من وحدات من الأصوات أو الإشارات منفصلة عن بعضها، تحدد كل منها معنًى منفصلًا عن غيره.

2.الاعتباطية Arbitrariness: تلك الأصوات أو الإشارات ظهرت – غالبًا – اعتباطًا، بمعنى أنه لا علاقة للصوت «فندق» بما تعنيه كلمة فندق، وليس هناك ما يعد «غبيًا» في كلمة «غبي».

3.الإزاحة Displacement: نستطيع أن نستخدم اللغة للتواصل حول أشياء ومعاني ليست حالية في الزمن أو المكان، بمعنى أنه يمكنك استخدامها للحديث عن الماضي أو المستقبل أو الشيء البعيد في تونس أو الهند، أو أحداث خيالية ليست موجودة في الواقع، الأشياء التي لا تقع أمامك الآن.

4.قواعد اللغة grammer: القوانين التي تربط الكلمات لتظهر بنمط منتظم ذي معنى.

5.الإنتاجية Productivity: القدرة على استخدام تلك اللغة لتوصيل عدد غير محدود من المعاني.

دعنا هنا نتطرق لنظرية عالم اللسانيات الفرنسي أندريه مارتيني عن تميز اللغة البشرية عن غيرها من طرق التواصل عبر ما نسميه «التمفصل المزدوج Double articulation» وهو القدرة – المعقدة – على تقسيم اللغة لمستويين، الأول هو مستوى أبسط وحدة غير دالة في اللغة، يعني الأصوات غير المرتبطة بمعنى، أصوات الحروف، كأن نستخدم الأصوات «ط» و«ف» و«ل» لصنع : طفل، لطف. أو أن نستخدم الأصوات «م» و«ل» و«ك» لصنع: ملك، كلم، لكم. تعد تلك الأصوات – تدعى «الفونيمات» – هي أصغر وحدة أساسية في الدراسة الصوتية الحديثة لأية لغة بشرية. أما المستوى الثاني فهو مستوى الوحدات ذات المعنى – المورفيمات – وهي أبسط وحدة دالة في اللغة، كـ «طفل» و«ملك» التي أشرنا إليها منذ قليل، أي الوحدات ذات المعنى المتكونة من وحدات أصغر غير ذات معنى، وتسمح تلك المورفيمات بالتأليف والتركيب فيما بينها لصنع معاني وأفكار ورسائل بلا عدد.

كنت غافلًا عن عامل اللغة، تلك الصفة التي نتفرد بها كجنس بشري، تلك الخاصية التي تمكننا من البقاء كأكثر الكائنات نزوعًا للحياة الاجتماعية على سطح الأرض … الطفولة وجدت من أجل أن نتعلم اللغة.

في حالات متطورة من عالم الحيوان، كمجاميع النحل التي تعتبر الأعلى تنظيمًا، تستطيع الأفراد التواصل فيما بينها وتبليغ باقي المجموعة عن موقع الغذاء وجودته عبر نوع مميز من الرقصات، مدة الرقصة وشدة الاهتزاز وزوايا الحركات، حتى وإن تواجد ذلك المصدر خارج القفير، هي بذلك تظهر صفة الإزاحة Displacement. إذا كان الطعام قريبًا من القفير تكون الرقصة دائرية في اتجاه عقارب الساعة، وإن كان بعيدا تكون على شكل رقم 8. كذلك، في أثناء الرقص ، إذا كان اتجاه جسم النحلة لأعلى أثناء الرقص فالطعام في اتجاه الشمس والعكس صحيح، ولكل سلالة من سلالات النحل رقصات خاصة.

http://gty.im/492851179

تظهر تلك الصفة – الإزاحة – في كلب البراري الذي يستطيع عبر حركات معينة تبليغ باقي القطيع بشكل وسرعة وحجم المفترس، بينما يمكّن التصفير بترددات مختلفة الدلافين – وهي حالة متقدمة – من التواصل حول عمرها، الاسم، والمكان، والجنس. تتمكن القردة العليا من حل المشكلات عبر نوع من الإدراك الحسي، بل أن بعضها استطاع تطوير بعض العلامات المميزة لمعنى محدد – صغة الانفصال Discreteness، بينما تمارس الذئاب وبعض المفترسات شكلًا من الكتابة عبر تعيلم الأشجار بعلامات خاصة.

http://gty.im/460290997

على الرغم من ذلك، لا يمكن اعتبار أي مما سبق ممثلًا لما تعنيه كلمة «لغة»، تعد اللغة نمطًا غاية في التعقيد للتواصل بين البشر، في عالم الحيوان نواجه بعض من تلك الصفات المميزة للغة لكنها غير مجتمعة معًا بهذا الشكل، أضف لذلك أن تواصل الحيوانات يحدث دائمًا في حدود حالة معينة، النحل يتحدث فقط عن الغذاء، كلب البراري عن المُطارِد، والسراطانات مثلًا تستعرض قدراتها على التزاوج، الحيتان تتواصل حول التزاوج والغذاء حسب الفصيلة.

هنا تقف اللغة البشرية متفردة في طبيعتها، بينما يُنظر لها في آراء تشومسكي ومارك هوسر مثلًا كشكل تطوري في مُتّصل Continuum ما يمر بين طرق الحيوانات في التواصل ولغة البشر، لكننا في النهاية نؤلف الشعر ونحكي خيالاتنا عن عوالم ملك الخواتم ومدرسة هوجارتس ونتخلص من الچوكر في نهاية القصة. مخترعنا المصري هنا – كأي طفل – تصور أنه حينما استمع لكلب ينبح لآخر في الشارع أو لدِيكٍ يتبادل الصياح مع رفيق بعيد فهما يتبادلان الحديث بلغة «مبهمة» عن مواضيع كـ:

– كيف الحال يا صديق؟

– أنا بخير، وأنت وزوجتك؟

– الحمد لله، الطقس حار جدًا الليلة.

– بالفعل، أود أن أخرج من هذا المكان لكن الأكل كثير هنا يمنعني من تركه.

في الحقيقة، تتحدث الديوك – والطيور عمومًا – في إظهار الهيمنة وعن التزاوج والتحذير من الأعداء سواء عبر صوتها أو حركات جسمها. لكل مجموعة في عالم الحيوان نمط ما للتواصل، هذا النمط ليس بالضرورة صوتي الشكل، بعض تلك الأنماط بدائي وبسيط للغاية ومن الممكن فهمه بسهولة، وبعض تلك لأنماط معقد تتم دراسته عن طريق أبحاث تمتد – ربما – لسنوات طويلة، مثل أبحاث كارل فون فريش العالم النمساوي الحاصل على نوبل في الطب والذي درس سلوك النحل وحلل رقصاته Waggle dance التي اتفقت بشكل دقيق مع توقعات فريش، أو دراسة تواصل النمل عبر الفيرمونات، بينما البعض الآخر ما زال قيد الدراسة.

في كل الأحوال، تعد دراسة التواصل بين الحيوانات أمرًا بالغ الأهمية والروعة في نفس الوقت، تلك القدرات لكائنات كالفئران والخنافس والنمل تدعونا دائمًا للتعجب والتساؤل العلمي والفلسفي عن كيفية ظهور تلك الآليات التواصلية ومدى اتساع الهوة بينها وبين لغة البشر أو ضيقها، لكن يجب هنا توضيح أن تلك القدرات، جميعها، مهما بلغت من التعقيد، فهي ما زالت أقل بكثير من قدرات طفل في الثالثة من عمره على التواصل.