منذ صغري وأنا أهوى قصص النجاح وسير الناجحين وأقرأ بنهم عن أخبار العظماء في مختلف المجالات، وأحاول جاهدة أن أبحث عن السمات التي تميز هؤلاء العظماء وما هي الممارسات المفتاحية المختلفة لديهم التي ساعدتهم على التفوق والإبداع، ووقع تحت يدي مؤخرًا مقال عن إيلون ماسك (Elon Musk) وهو مؤسس للعديد من الشركات الكبرى وصاحب العديد من المبادرات التي تقدر ببلايين الدولارات مثل سبيس إكس، باي بال وتسلا موتورز.

المقال تحدث عن ولع إيلون بالقراءة والتزامه بقراءة كتابين في اليوم مثله مثل كل المبادرين والعظماء، فكثرة الاطلاع توسع الأفق والمدارك. لكن هذا لم يكن ما جذب انتباهي في قصة نجاحه وتفوقه، فما استوقفني في المقال أنه ذكر أن ما يميز ماسك بشكل خاص هو أنه أبدع وأتقن في مجالات عدة لا ترتبط ببعضها البعض وأن لديه صفات الموسوعيين.

وتعرض المقال لمفهوم “خبراء العامات” أو ما أطلق عليهم في هذا المقال “الموسوعيون” وهؤلاء يتميزون بالتعمق في مجالات عدة غير متعلقة ببعضها البعض، ويقومون بتقسيم المعرفة في مجال ما لمبادئ أساسية ثم تطبيق هذه المبادئ في سياق آخر أو مجال آخر. وهم أيضًا يتميزون بالفضول نحو معرفة كل ما هو جديد، يحبون أن يعرفوا عن كل شيء، وسبّاقون في تجاربهم وبارعون في مجالاتهم التي تتسم بتعدد الاهتمامات والمواهب.

استوقفني هذا المفهوم كثيرًا فلقد نشأنا على ثقافة نبذ التعدد في الاهتمامات والمعارف وتشجيع التخصص، فكان الحث منذ الصغر على اختيار وظيفة الحياة بسؤال مثل (ماذا تريدين أن تعملي عندما تكبرين؟) وكان الرد في عقلي دائمًا عشر وظائف ولكن كل مرة كنت أنطق واحدة فقط من هذه الوظائف أو الأحلام العشرة حتى لا أضطر إلى الاستماع لمحاضرة عن أهمية اختياري لوظيفة واحدة فقط. عوضًا عن أمثلة كانت تطلق على كل من تخول إليه نفسه أن ينوع في اهتماماته مثل (سبع صنايع والبخت ضايع) لتعيد هذا المجنون إلى سبيل الرشاد.


ثقافة التخصص

عانيت من مساوئها حينما اضطررت عند دراسة الثانوية العامة للاختيار بين القسم العلمي والأدبي، وكنت عاصرت مرحلة تقسيم العلمي إلى ثلاثة أقسام؛ علمي علوم وعلمي رياضة أو علمي شامل الذي كان يجمع بين مواد الرياضيات ومواد العلوم. وبعد اختياري للعلمي الشامل والدراسة لمدة شهرين ونصف انتقلت (على الرغم من محاولات معلمي إثنائي عن فعل ذلك) الى القسم الأدبي؛ لأني كنت أفتقد دراسة مواد مثل التاريخ وعلم النفس التي في رأيي هي مفصلية لكل العلوم، ففهم الماضي يعيننا على بناء الحاضر والمستقبل وفهم النفس البشرية يصلنا بمختلف العلوم لآفاق كبيرة ولكن في نفس الوقت يساعدنا على الوصول إلى التوازن بين التقدم وبين احتياجات النفس البشرية.

واستمرت رحلة الحث على التخصص حتى في المرحلة الجامعية والدفع للانتماء لتخصص معين، أو مجال محدد معترف به من قبل الجامعة أو سوق العمل وإن لم تفعل وتنوعت في التخصصات تنتهي بالشعور بأنك لا تنتمي لأي شيء وأنك غير محترف أو غير جاد، خاصة إذا كنت متعدد المواهب والاهتمامات و مبدعًا في أكثر من مجال.

ولذا نجد أن الإغراق في ثقافة التخصص في التعليم يؤدي إلى ضيق مدارك المتعلمين وانعدام الرؤية للصورة الكبيرة للعلوم المختلفة، فالمعرفة مثل الجسد الواحد كل جزء بها يؤثر على غيره من الأجزاء ويساعد على نموه وتطوره والإبداع فيه. بالإضافة إلى التغير السريع المتزايد في التكنولوجيا مما يجعل بعض التخصصات على المدى البعيد غير مطلوبة لاستبدال الحاسوب بالبشر في تلك المجالات. وأرى أيضًا أن ثقافة التخصص نفرت العديد من التعلم فالتخصص في التفاصيل دون ربطها ببعضها البعض أو ربطها بالصورة الكاملة لسبل المعرفة تجعل العلوم المختلفة جافة ومملة للمتعلم.


تعديل المسار

نجد صحوة مؤخرًا في التعليم على أهمية تنشئة أطفالنا على ثقافة الموسوعية، فنجد الغرب ينادون بأهمية Holistic learning أو التعليم الشامل واستبدال نظم التعليم التقليدية بنظم تعليمية بديلة تركز على دمج احتياجات العقل والروح والبدن؛ مثل منتسوري ووالدورف وتشارلوت ماسون بالإضافة للدمج بين العلوم وصيحة STEAM أو الأنشطة والمناهج التي يتعلم من خلالها الطفل كافة العلوم معًا بالإضافة للفن والتربية البدنية.

وجاء هذا المقال مؤكدًا لي أن التعمق في مجالات عدة له مميزات متعددة على خلاف ما نشأنا عليه وأن الموسوعية هذه هي ما تؤدي للابتكار، فالموسوعيون يفكرون بمعطيات مجالات عدة في نفس الوقت مما قد ينشأ عنها علم مختلف تمامًا وجديد عن العلوم السابقة مثلما حدث مع علم البرمجة اللغوية العصبية والذي نتج عن دمج مجاليْ علم النفس وبرمجة الحاسبات معًا على يد جون جريندير وريتشارد باندلر.

الموسوعيون لديهم القدرة على “نقل التعلم” بأن يأخذوا ما تعلموه من مجال ما وتطبيقه على مجال آخر أو أخذ ما يتعلمونه في صناعة معينة وتطبيقه على صناعة أخرى، وهم في عصرنا الحديث مثل إيلون ماسك وستيف جوبز الذي قال في خطابه عند زيارة جامعة ستانفورد إنه علينا المرونة في اختياراتنا خلال رحلة الحياة فهذه المرونة ستمكننا من فهم أوسع وأعمق للعالم من خلال اكتشاف اهتماماتنا بدلا من السير وفق خطة صارمة محددة. وهذان لا يعدان المثالين الوحيدين على الموسوعيين بل المعروف أن العديد من المشهورين والعظماء تميزوا بتنوع المعرفة وتنوع التخصصات ومجالات الاهتمام لديهم، فلقد كان ليوناردو دافنشي رسامًا ومعماريًا ومهندسًا وعالم خرائط وجيولوجيا وموسيقيًا وكان مبدعًا في كل تلك المجالات.

ولم تكن الموسوعية حكرًا على الغرب فحسب، فببحث بسيط في تاريخ أمتنا نجد أن الموسوعيين كانوا القاعدة وليس الاستثناء، فقد أبدع علماء المسلمين القدامى مثل ابن سينا والحسن بن الهيثم والخوارزمي وأبو بكر الرازي في مختلف العلوم والآداب من فلسفة وعلوم دينية، والفلك، والفنون، والأدب والبلاغة، والطب والكيمياء والهندسة والمعمار بل وابتكروا علوما جديدة كالجبر، وعلم الاجتماع، وعلم أصول الفقه، وعلم العروض وغيرها من العلوم والمجالات.

إن مفهوم الموسوعية لا يعني الإحاطة بكل العلوم، بقدر ما يعني اتساع دائرة المعرفة العلمية لعلوم متعددة وإتقان العديد من المجالات في آن واحد.


كيف أعد أطفالي كي يكونوا موسوعيين؟

أقول إن البداية تكمن في اعتبار الطفل أنه كل متكامل عقل وروح وجسد، وأن التركيز على المهارات الأكاديمية من رياضيات ولغات وعلوم فحسب لن يعينهم فنحن نعيش في مجتمع متجدد يحتاج إلى اختلاف وتنوع في المهارات وعقل منفتح بعيدًا عن الأجندات المسبقة لما نود أن يصبح طفلنا عند البلوغ، فما هو مطلوب ومحبب اليوم قد يصبح غير مطلوب ومهجور في المستقبل.

لذا علينا توفير تجربة تعليمية شاملة تتجاوز المهارات الأكاديمية فحسب وتتفرع لتشمل معرفة الطفل لذاته من خلال تعليمه احترام الذات واحترام الآخرين، وإعطائه الحرية ليكتشف مختلف العلوم والمعارف دون تضييق عليه في ذلك، والسماح له بالتجربة والاستمتاع بشغفه حتى وإن تنوعت مجالات شغفه، بالإضافة إلى إمداده بالثقة في مواهبه وتفرده.