لم يروْا بعضَهم البعض منذ أكثر من عاميْن بعد أن تفرَّقت بهم سُبُل الحياة في 4 قاراتٍ مختلفة. إبان الدراسة الجامعية، كانوا أكثر من مجرد أصدقاء أو زملاء دراسة، بل كانوا عائلة حقيقية، يجتمعون بشكلٍ يوميّ في جد الحياة وهزلها. لم تكد تمر ساعة على اجتماعهم في ذلك المكان الهادئ، حتى نفد رصيد معظم الحوارات، واستُبدلَ سمر الأصدقاء الذي كانت لا تقدر عليه الساعات الطوال بمشهدٍ غريب.

تسمَّر وجه كلُّ واحدٍ منهم في شاشة هاتفه الذكي، ليس للرد على رسائل واتس آب عاجلة، إنما امتُصَّت حواسهم في شيء آخر. أحدهم اندمج في معركة حامية الوطيس في لعبة قتالية شهيرة على الإنترنت جعلت سيما التوتر تنحفر في ملامح وجهه. وآخر ينافس في بطولة ملتهبة في لعبة تنس أونلاين بدا فيها أنه يركز في حركات أنامل أصابعه كأنه في عملية جراحية كبرى. وثالث يشحذ ذهنه وفراسته وقدراته التخمينية ومعرفته الكروية في إعداد فريقه في لعبة «فانتاسي» لإحدى دوريات كرة القدم العالمية الكبرى. ورابع ذهبت به المعلومات العامة كل مذهب فاندمج في لعبة مسابقات ثقافية وعلمية أصابته بالإحباط لسرعة منافسه في الإجابة وبالتالي تفوقه عليه. وخامس بدأ للتو بانفعالٍ ظاهر مباراة ثأرية في لعبة الشطرنج ضد لاعب على الجانب الآخر من الكوكب هزمه قبل دقائق.

حاول أحدهم اصطناع غضبٍ هادر ولومهم لإضاعة فرصة لقائهم النادرة في صحبة الهواتف الذكي التي تقضي بصحبتهم ساعاتٍ طوال يوميًا، ثم ما لبث أن يئسَ من الاستجابة الهزيلة، فعاد إلى هاتفه الذكي واندمج في لعبةٍ بطلها قناص محترف، ووجد أن اصطياد الأعداء فيها أسهل وأمتع من محاولة اقتناص وقت حقيقيٍّ ثمين بصحبة الأصدقاء.

إدمان ألعاب الموبايل والصحة النفسية

المشهد الذي صدَّرنا به المقال ليس فقط من وحي الواقع، إنما يحدث بحذافيره يوميًا، وفي شرائح ثقافية واجتماعية مختلفة. بل وكاتب هذه السطور يعترف بأن ألعاب الموبايل قد عطَّلته بضع مرات أثناء إتمام هذا المقال، ولعبت دورًا سلبيًا ملموسًا في قدرته على الوصول إلى التركيز المطلوب.

ورغم حداثة ظاهرة انتشار الهواتف الذكية، ومعها طوفان ألعاب الموبايل، لاسيما التي تضم آلاف اللاعبين عبر الإنترنت، فإن هناك العشرات من الدراسات العلمية القيّمة التي تناولت هذا الموضوع من كافة جوانبه، وخلٌصت إلى خطورة الوصول إلى حالة إدمان ألعاب الموبايل، لتاثيراتها السلبية الثابتة على الصحتيْن النفسية والذهنية، التي يأتي في صدارتها زيادة الضغط النفسي والحرمان من الاسترخاء الذهني والانفعالي اللازم في أوقات الفراغ، والجنوح إلى العزلة والوحدة، وصولًا إلى الإصابة باضطراباتٍ نفسية مؤثرة مثل الاكتئاب والقلق والفوبيا الاجتماعية. ويزيد الطين بلة، أن الإصابة بتلك الاضطرابات النفسية يؤدي إلى المزيد من إدمان ألعاب الموبايل، فيصبح الأمر أشبه بدوامة، أو حلقة مُفرغة تدور بلا نهاية.

بالفعل، لدينا مشكلة جوهرية في هذه القضية، وهي غياب تعريف علمي محدد لإدمان ألعاب الموبايل، والعجز عن تعيين الوقت أو المقدار التي عند تجاوزه، يوصَم الشخص بأنه قد أصبح مدمنًا لتلك الألعاب. لكن يمكن بشكل تقريبي أن نقول إن إدمان ألعاب الموبايل يكون قاب قوسيْن أو أدنى عندما يُسرف الإنسان في ممارسة تلك الألعاب إلى الحد الذي يؤثر على فاعليته في عمله وفي حياته الأسرية والاجتماعية، وفي ابتلاع معظم أوقات فراغه على حساب هواياتٍ أخرى أكثر إفادة مثل ممارسة الرياضة أو القراءة… إلخ، مع عدم القدرة على السيطرة كمًا وكيفًا على ممارسة ألعاب الموبايل.

ومنذ عام 2013، دشّنت الجمعية الأمريكية للطب النفسي وصفًا لما يُعرف باضطراب إدمان ألعاب الإنترنت، ولحقتها منظمة الصحة العالمية في عام 2018. وتشير التقديرات إلى أن نسبة إدمان ألعاب الإنترنت بين الأطفال والمراهقين تصل إلى 9%. وفي بلدٍ آسيوي كـ«تايوان»، يمتاز بأنه من معاقل التكنولوجيا الحديثة لاسيّما في مجالات الحوسبة والاتصالات، تقدر نسبة الممارسة غير الصحية لتلك الألعاب بين الأطفال والشباب بأكثر من 20%. وأكثر الألعاب تسببًا في الإدمان لا سيّما بين المراهقين والشباب هي الألعاب الضخمة على الإنترنت، التي تضم ملايين اللاعبين حول العالم، مثل ألعاب الساحات القتالية، والمنافسات الرياضية، وتؤدي أجواء المنافسة الحامية في تلك الألعاب إلى تفاقم الضغط النفسي.

بعد استقراء عديد من الأدلة والبراهين العلمية المتاحة حتى الآن، فإن إدمان ألعاب الموبايل يبدد الفرصة للاسترخاء النفسي والذهني عبر عديد من الآليات، التي من أخطرها على صحة النفس والجسد، الإصابة بالأرق المزمن، والحرمان من النوم الجيد ليلًا لساعاتٍ كافية، واختلال الساعة البيولوجية الطبيعية، إذ يؤدي هذا إلى زيادة إفراز هرمونات التوتر والضغط النفسي. 

أثبتت نتائج دراسة موسّعة نُشرت عام 2018، أن الإسراف في ممارسة ألعاب الموبايل يؤدي إلى زيادة الضغط النفسي بدلًا من تحقيق الاسترخاء المرجو. وأظهرت دراسة أمريكية أن ما يقارب 1% من الأمريكيين يعانون من الإدمان المرضي للألعاب على شبكة الإنترنت.

أوصتْ دراسة علمية نُشِرَت عام 2021، لمجموعة من الباحثين من دولة بنجلاديش، بأن تحاول السلطات والمؤسسات توفير بدائل ترفيهية تُغني الشباب عن ألعاب الموبايل، لما أكَّدتْهُ نتائج الدراسة من أضرار بالغة لها على مستويات التركيز والفاعلية الدراسية والاجتماعية للشباب. وناشد الباحثون الشبابَ أن يستبدلوا الرياضة والأنشطة الثقافية خارج الدراسة بإدمان ألعاب الموبايل.

وحذرت دراسة صينية نُشرت عام 2022 من ظاهرة إدمان ألعاب الموبايل بين أطفال المدارس وصغار المراهقين، والآثار النفسية والاجتماعية السلبية الهائلة لها، وضرورة تضافر الجهود على مستويات الأسرة ومؤسسات المجتمع لا سيما المدارس لاحتواء تلك الظاهرة، وتقديم بدائل التسلية الأفضل للأطفال مثل الألعاب الرياضية والرحلات الاستكشافية… إلخ.

النصف المملوء من الكوب

رغم ما أثبتناه علميًا في السطور السابقة من أضرار ألعاب الموبايل على الصحة النفسية، وأنها تؤدي إلى نقيض الاسترخاء مثل اضطرابات القلق النفسي، والجنوح إلى التوتر العصبي والانفعالات المبالغ فيها، فإنه يمكن بتجنُب إدمانها، وبالاعتدال في ممارستها، أن تسهمَ إيجابيًا في مساعدتنا على الاسترخاء على النحو التالي:

  • إعطاء الأولوية الكبرى للحياة الحقيقية بعيدًا عن الشاشة، وتقديم الألعاب في الواقع مثل ممارسة كرة القدم وغيرها من الألعاب الجماعية مع الأصدقاء.
  • تحجيم الأوقات المخصصة لممارسة تلك الألعاب، حتى لو كان لدينا وقت فراغٍ كبير خالٍ من المهام الواجبة. فقد ذكرت دراسة صغيرة نُشرت عام 2021 شملت 80 طالبًا جامعيًا، أنّ ممارستهم الألعاب لفترات وجيزة يوميًا قد ساعد على تقليل الضغط النفسي للدراسة، وعلى مساعدتهم على الاسترخاء. في العموم، تعامل مع وقت الفراغ كطريقٍ سريعة شبه خاليةٍ من السيارات، هل يعني قلة السيارات الأخرى على الطريق أن تنطلق بسيارتك فيها بسرعة جنونية؟ هذا سيؤدي حتمًا إلى وقوع الحوادث أو على الأقل دفع أثمان باهظة لمخالفات السرعة.
  • هناك بعض أنواع الألعاب التي تساعد على الاسترخاء مثل تلك الألعاب بطيئة الرتم كالكلمات المتقاطعة أو ألعاب البازل، والألعاب ذات الأجواء الطفولية والألوان المريحة، وهي في ذلك على النقيض من الألعاب القتالية والألعاب شديدة التنافسية التي قد تزيد الضغط النفسي بشكلٍ مباشر نتيجة أجوائها المثيرة للقلق والانفعال، وبشكلٍ غير مباشر نتيجة إضاعة الوقت وتعطيل المهام الواجبة.
  • على عكس ما قد يتصور البعض، فإن الألعاب التي تحتاج إلى التفكير وإعمال الذهن مثل الشطرنج والألعاب الإستراتيجية، قد تساعد على الشعور بالاسترخاء الذهني بعد ممارستها أكثر من الألعاب الأكثر بساطة. 
  • قد تساعد بعض الألعاب المسلية على تزجية الأوقات السلبية الطويلة مثل أوقات الحجز بالمشافي للمرضى المزمنين، وساعات جلسات الغسيل الكلوي… إلخ.
  • يُفضّل تجنب ممارسة تلك الألعاب أثناء التجمعات الأسرية وجلسات الأصدقاء، لإتاحة الفرصة للاسترخاء الحقيقي التي يمنحه دفء العلاقات والتواصل مع المقربين وتبادل الأحاديث في جد الأمور وهزلها.
  • تجنب اللعب المتواصل لأكثر من ثلث ساعة، وذلك لمساعدة الذهن على الاسترخاء، ولإراحة العين وأصابع اليدين.
  • يجب كذلك تجنب الألعاب التي تحتاج فيها إلى دفع المال الحقيقي من أجل الحصول على مزايا إضافية افتراضية فيها، فهذا السلوك يؤدي إلى الضغط النفسي نتيجة الندم وجلد الذات، كما ينمي روح المقامرة السلبية لدى اللاعب.
  • عدم تفعيل خاصية التنبيهات notifications لتطبيقات الألعاب على الموبايل، لتقليل التشتت بها على مدار الساعة.
  • اللجوء إلى معالجٍ نفسي مُختص في حالة الشعور بأننا على أعتاب مرحلة إدمان ألعاب الموبايل، ليساعدنا عبر تقنيات الحديث والعلاج المعرفي السلوكي على كيفية استعادة زمام السيطرة في هذا الأمر. ويمكن للانضمام لبعض مجموعات الدعم التي تضم آخرين ممّن يريدون التعافي من إدمان ألعاب الموبايل أن يساعد كثيرًا في السيطرة على تلك الحالة.