الإجبار والعنف.. من أكثر الطرق المستخدمة في تعديل سلوك الآخرين، بمختلف أعمارهم فيما يتعلق بتعديل السلوك من منظور نفسي، وذلك في الكثير من النواحي كرغبة تعليم الأطفال القيام بسلوكيات معينة أو منعهم من الوقوع في بعض الأخطاء والعادات المؤذية، وهو ما ظهر في النهاية كيف يمكن أن يكون ذلك لعنة على الخاضعين له.

في كتاب «لا تطلق النار على الكلب»، الصادر عن عالم الأدب للترجمة والنشر (قاعة 2-A35 بمعرض الكتاب بالقاهرة) من تأليف كارين بريور، والذي نقله للعربية الدكتورة إيمان هنداوي، يمكن الوصول إلى صورة أكثر وضوحاً لطرق التغيير الصحيحة للسلوك وتعديله مع مختلف الأشخاص من مختلف الفئات العمرية، بطريقة سليمة ولا تؤثر بالسلب على نفسية الآخرين، كما أنها تراعي بشكل كبير، كيف يمكن أن يؤثر ذلك التعديل السلوكي على المستوى الدراسي أو كفاءة العمل أو غيرها من الأنشطة التي يقوم بها الخاضع لتعديل السلوك.

السر في «التعزيز»: دفعة للاستمرار

ما «التعزيز»؟ هو ببساطة خطوة تصاحب القيام بسلوك ما، ينتج عنها الانفتاح النفسي على القيام بالسلوك مرة، والتعزيز هنا ينقسم إلى نوعين، أولهما، إيجابي، والآخر سلبي، يظهر الإيجابي بوضوح في التصرفات الطيبة المشجعة كالملاطفة والتشجيع وغيرها من الأمور الطيبة التي تتلازم مع القيام بسلوكيات جيدة وهو ما يخلق حالة داخلية من الاطمئنان والسعادة تشكل دافعاً للاستمرار في السلوكيات الجيدة والمحببة.

التعزيز السلبي هو في الحقيقة الجانب المعاكس تماماً للتعزيز الإيجابي، فالخوف من النتائج السلبية يمكن أن يشكل تعزيزاً سلبياً، لكنه في الحقيقة ليس تعزيزاً محبباً فهو دائماً يمثل الخطر أو النتيجة السيئة أو العقوبة والتي تتلازم مع حالات الوقوع في الأخطاء أو الفشل في تحقيق الأهداف، وهو ما يخلق حالة نفسية مرتبطة بالقيام بتلك الأفعال وترتبط بشكل كبير بالنفور منها أو القيام بها بصورة تفتقر إلى الكفاءة والإبداع، فتخرج تقليدية أكثر من اللازم، أو بجودة سيئة لا تتناسب مع أهميتها، لكنه أيضاً وفي بعض الأحيان قد يكون تعزيزاً مفيداً فخوف بعض البشر من الوقوع في النتائج السلبية يشكل دافعاً – صحيح أنه دافع بغيض – لإنجاز الأعمال بشكل جيد، لكن يشار إلى أن ذلك النوع من المعززات، لا يستقر طويلاً في نفسية البشر بعد إنجاز المهام.

لكن فكرة التعزيز في حد ذاتها ليست مطلقة وثابتة ولا ترتبط فقط بالبشر أو بمحفزات الأفعال المقبلة من الآخرين كشكل مشابه للمكافأة، فالعديد من العوامل النفسية والظروف المحيطة بالبشر قد تعمل على تقديم التعزيز، فالمطر لمن يحبونه والأجواء المرتبطة به يمكن أن يعملا كمعزز متميز للعمل، فيما يتعلق بالحيوانات على سبيل المثال يمكن أن تكون الملاطفة الجسدية وتقديم الطعام المحبب للحيوانات، عاملاً مهماً للغاية فيما يتعلق لتعزيز سلوك الحيوانات الأليفة تجاه أصحابها، ورفع معدلات الألفة أكثر وأكثر بينها وبين أصحابها.

نحو معايير صحيحة

يستعرض الكتاب وبطريقة سلسة وواضحة في ترجمة جيدة تتناسب مع محتوى الكتاب مفهوم التعزيز بصورته العامة الكاملة، وكيف يمكن أن تكون أفضل من مفهوم المكافأة المعتاد، فالمكافأة وإن كانت مشجعة ومحفزة، لكن عمليات التعزيز غالباً ما تكون ذات قدرة أكبر على تقديم الدعم النفسي للقائم على العمل.

في كثير من الأحيان يمكن أن يكون التعزيز فعلاً ذاتياً في الحقيقة، لتكون النتيجة تطوراً ملحوظاً في النتائج، والغريب أن ذلك التطور جزءاً منه في الحقيقة يكون بادياً للعيان منذ البداية، لكن النفور والمخاوف والتفكير المبالغ فيه في نقاط الضعف، تجعل من رؤية تلك الناحية الصعبة، وذلك بسبب الانصياع للمخاوف والأفكار البشرية.

يروي محام أمريكي في نيويورك وهو أحد عشاق رياضة الأسكواش، كيف كانت ممارسته تلك الرياضة تتسم بالحماقة، وكان كثير اللوم بشكل ذاتي على نفسه على طريقة لعبه، وتسديداته الخطأ خلال اللعب، والتي حولت اللعبة بالنسبة له إلى تحد بغيض يدمر روح الاستمتاع باللعبة.

ذكر المحامي بعدها أنه قرر انتهاج طريقة جديدة، يحكم بها على نفسه في اللعب، وهي أن يقوم بتعزيز نفسه إيجابياً بشكل ذاتي، حيث يستمر في إخبار نفسه بكلمات الاقتناع والتشجيع، وتجاهل التسديدات الخطأ التي يقوم بها خلال اللعب، وكانت النتيجة هي تحسن تجربته النفسية مع ممارسة الأسكواش.

لذا من هنا يمكننا فهم أن مسألة التعزيز ليست بالضرورة تأتي من الآخرين، بقدر ما يمكن أن تكون عاملاً ذاتياً عن طريق تهيئة الأجواء المحببة للعمل والقيام بالمهام، كشكل من الأشكال الإيجابية المعززة للأعمال، وذلك وفقاً لما يتناسب من عوامل نفسية داخلية.

الأثر الاجتماعي للتعزيز النفسي

واحدة من أهم الأمور التي تطرح أهمية هذا الكتاب هو غياب مفهوم التعزيز النفسي في أداء المهام في مجتمعاتنا، وسيطرة فكرة المكافأة بصورتها المادية أو المعنوية، لكن الكتاب يطرح فكرة التعزيز باعتبارها أفضل من المكافأة، ذلك أن المكافأة في كثير من الأحيان قد لا تكون مجدية معنوياً لتحقيق الهدف، كما أنها في بعض الحالات لدى الأطفال مثلاً قد تشكل أزمة تربوية في حال استمرارها، لكن التعزيز والمقصود به هنا كل دعم نفسي أو تهيئة مساعدة بإمكانها أن تكون بديلاً عبقرياً في هذه الحالة.

وعلى خلاف كثير من الإصدارات الخاصة بتعديل السلوك، والتي تحمل في طياتها الكثير من الكلام الإنشائي، فإن كتاب «لا تطلق النار على الكلب»، قدم نمطاً مغايراً، فالمادة العلمية المتاحة في الكتاب ليست تقليدية مكررة وإنما تطرح نموذجاً جديداً من نماذج تعديل السلوك، كما أنها تقدم طرقاً للتنفيذ العملي بصورة موضوعية وحقيقية، كما أن الترجمة جاءت في لغة سهلة متميزة، بعيدة عن التعقيدات الأكاديمية، كما أنها جاءت في صياغة لغوية مريحة للقارئ تساعده على القرب بشكل كبير من الرسالة الأساسية التي جاءت في المُؤَلف الأصلي، وهو ما يرشح الكتاب ليكون من أهم إصدارات الكتب الخاصة بتعديل السلوك في فئة الكتب المترجمة هذا العام.