محتوى مترجم
المصدر
The Plot
التاريخ
2015/06/17
الكاتب
Jonathan Fox

يتشابك الدين مع السياسية في كل دول العالم، على الرغم من أن هذا التشابك يتفرد ويختلف من دولة لأخرى. فمثلا، في ألمانيا، وهي دولة لا زالت تفرض رسومًا على أتباع الديانات المعترف بها، تناولت القضايا المعروضة على المحاكم في الفترة الأخيرة ما إذا كانت الحكومة تستطيع تنظيم طقوس الختان لليهود والمسلمين، وعما إذا كانت تستطيع منع تغطية الرأس عند المسلمات. أيضًا، فإن جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي في حروب أهلية حول حجم الدور الذي يجب أن يلعبه الدين في السياسة وأي المذاهب الإسلامية يجب أن يحكم.

عمليًا، فإن معظم الحكومات في العالم معنية بالدين؛ فهي إما أنها تدعمه، أو تحاول تقييده، أو الاثنين معًا. في كتابي الجديد «العلمانية السياسية، الدين والدولة»: تحليل زمني متسلسل لبيانات من جميع أنحاء العالم، استكشف العلاقة بين الدين والدولة حول العالم. فمن مُجمل 177 دولة، هناك 23% لديهم ديانات رسمية، هناك 25% ليس لديهم ديانات رسمية لكن في الممارسة العملية يميلون لدين ما عن بقية الأديان، و19% يدعمون بعض الأديان دون سواها. وعليه، فإن ثلثي الدول يفضلون بشكلٍ واضح وحتى يدعمون دينًا معيَّنًا أو مجموعة أديان بعينها دون غيرها. هناك أيضًا نسبة 9% معادية للأديان وتحظر ممارستها. وهناك فقط 43 دولة، يمثلون نسبة (24%)، يتعاملون بشكل محايد بخصوص مسألة الدين، ويدعمون وينظمون الممارسات الدينية.

ولفهم تلك العلاقات المعقدة، أُغطي أبرز 110 سياسة دينية للحكومات في الفترة ما بين 1990 و2008، وهذا جزء من مشروعي الأكبر عن الدين والدولة. وينقسم هذا المشروع بشكله الموسع إلى الأقسام الآتية: دعم الدولة للدين، تنظيم دين الأغلبية والقيود المفروضة على الأقليات الدينية. وأخيرًا، أضع تلك النتائج في سياق نظري يركز على مشهد التنافس بين العلماني والديني.


المنظور التنافسي العلماني-الديني

كانت النظرية العلمانية على حق بخصوص التحديات الحديثة للدين؛ لكنها كانت على خطأ بخصوص موت الدين.

من هذا المنظور، والذي أُسمِّيه اختصارًا «المنظور التنافسي Competitive Perspective»، أُجادل بأن الجهات الدينية والجهات التي تدعم العلمانية السياسية كلاهما يتنافسان لرسم سياسة الدولة. أُقدِّم هنا العلمانية بوصفها حزمة من المبادئ والمعتقدات التي ترى وجوب فصل الدين عن بعض/كل جوانب الحياة السياسية والحياة العامة. من ثمَّ، فإن العلمانيين يسعون على الأقل للحد من الدور العام الذي يلعبه الدين. في الوقت نفسه، فإن الجهات المعنية بالدين تسعى لبسط دوره في الحياة العامة. بعبارة أخرى، فإنه مهما دعمت دولة ما دور الدين في الحياة السياسية والعامة – هناك من يرون أنها لا تدعمه بما يكفي، ومهما كانت دولة علمانية – هناك من يرون أنها ليست علمانيّة بما يكفي. لذلك، فإن تلك الجهات تتنافس في فضاء سياسي للتأثير على سياسة الدين في الدولة.

وفيما تطورت تلك النظرية من نظرية العلمنة، وهي النظرية التي هيمنت على الدين في مجال العلوم الاجتماعية معظم القرن العشرين، يُفضل اعتبارها مبنية على أنقاضها وليست متطورة منها. لقد توقعت النظرية العلمانية أن التحديات الكامنة في الحداثة من شأنها أن تؤدي لموت الدين أو على الأقل طمسه. أقر بأن النظرية كانت على حق بخصوص التحديات الحديثة للدين لكنها كانت على خطأ بخصوص موت الدين. ومن المؤكد، أن التحديات التي واجهت الدين سهلت صعود العلمانية كأيديولوجية سياسية منافسة للدين في كل دول العالم. وهكذا، غيرت الحداثة من ديناميكا الدين والسياسة، لكن يظل الدين ذا تأثير قوي ومباشر. أي أن حذف ضرورة تحجيم دور الدين، الأمر الذي لا مفر منه في النظرية العلمانية، يمحو قلب وروح النظرية. لذلك، أعتقد أن «المنظور التنافسي العلماني-الديني Secular-Religious Competition Perspective» هو نظرية جديدة في حد ذاته والتي، وعلى الرغم من أن لها جذورًا في النظرية السابقة، لا يُمكن أن تُعتبَر نسخةً جديدةً من تلك النظرية.


السياسات الحكومية بخصوص الدين في الممارسة العملية

في الممارسة العملية، فإن السياسة الدينية الحكومية تؤكد بشكل كبير المنظور التنافسي الديني العلماني التنافسي. حتى أن أكثر من 110 نوع من الممارسات السياسية للدين التي تقوم بها الحكومات، أُناقشهم بالتفصيل في الكتاب، قد تغيَّرت بمرور الوقت. المزيد من الدول صار يُناصِر الدين، يُنظِّم دين الأغلبيّة، ويَحُدّ من الممارسات الدينية للأقليات الدينية.

لإعطاء بعض الأمثلة: عام 1995، قررت الحكومة السويدية (اللوثرية: مذهب بروتستانتي) وكنيسة السويد الانفصال عن بعضهما البعض. نتيجة لذلك، كان على الحكومة والأبرشيات المحلية تقسيم قدر كبير من الممتلكات، فتلقت الأبرشيات دعمًا أقل بكثير من الدعم الذي تلقته الدولة، وبالتالي لم يعد للدولة حق تعيين أساقفة الكنائس. وفي عام 2001، وقعت سلوفكيا عقدًا مع الفاتيكان يعطي امتيازات خاصة للكنيسة الكاثوليكية دون غيرها من الكنائس. في العام نفسه، أطلقت الحكومة اليمينة مشروعًا للسيطرة على جميع مراكز التربية الإسلامية في البلاد في محاولة منها لوأد التطرف الديني والطائفية. في عام 2003، بدأت في تقويض رجال الدين الذين لا يؤيدون النظام.

بشكل عام، فإن 98 دولة (بنسبة 55.4%) أدخلت سياسات دينية بعينها في الفترة من 1990 وحتى 2008، فيما تخلت 22 دولة (بنسبة 12.4) عن سياسات دينية معينة، فيما قامت 28 دولة (بنسبة 15.8) بنبذ وإضافة سياسات دينية بعينها، وفقط 29 دولة (بنسبة 16.4) لم تقم بأي تغييرات. وهذا مؤشر على أن الدين أصبح قضية مهيمنة، لذلك، فإنه أصبح مَحَطّ اهتمام أكثر من الماضي. يظهر من ذلك أن العلاقة بين الجهات الدينية والعلمانية الفاعلة هي علاقة أخذ وعطا من الجانبين. وعلى الرغم من أن الفاعلين الدينيِّين حاليا يبدو أن لهم اليد العليا، إلا أن هذا التنافس السياسي المحتدم والمتردد يُعبِّر بدقة عن الاقتصاد السياسي للدين الذي يتم وصفه في «المنظور التنافسي العلماني-الديني».


المشهد الأكبر

أعتقد أن المنظور التنافسي العلماني-الديني هو في حد ذاته مفتاح لفهم طبيعة العلاقة والتفاعل بين الدين والسياسة في العصر الحديث، لكنه أيضًا جزء من اقتصاد ديني أكثر تعقيدًا. ذلك أن هنالك مؤثرات أخرى على الدين والسياسة وعوامل أخرى تجعل المشهد أكثر تعقيدا:

منافسة معقدة

كل من التوجهين الديني والعلماني له شعب متعددة. هناك وجهات نظر متعددة حول ما تعنيه فكرة أن تبقى الحكومة بعيدة عن الدين. على سبيل المثال، فإن النموذج الأمريكي يفصل بين الحكومة والدين – وهذا يعني أنها لا تدعم ولا تحد من الدين في الوقت نفسه – في حين أن نموذج الحياد المنتشر في أوروبا يسمح للدولة بأن تدعم أو تُقيِّد الدين طالما أنها في النهاية تقف على قدم المساواة من جميع الأديان. هناك أيضًا تقاليد دينية متعددة فضلا عن المذاهب والتفاسير المختلفة داخل الدين الواحد. ربما أبرز الأمثلة بزوغًا في هذا الصدد هو الإسلام بتفاسيره التقليدية والإسلام كما تفسره الحركات المتطرفة مثل طالبان، تنظيم القاعدة وداعش. وهكذا، ففي الوقت الذي تتنافس فيه التيارات الدينية والعلمانية على النفوذ السياسي، تتنافس فيه تيارات الدين الواحد والأيديولوجية الواحدة فيما بينها.

التقييد مقابل الدعم

فغالبا ما تكون دوافع السياسات الدينية للحكومة غير واضحة. على سبيل المثال، واحدة من أفضل الطرق للسيطرة على الدين وتقييده تكون عبر دعمه! فعندما تدعم الدولة دينًا بعينه، فإن هذا الدعم غالبًا ما يأتي في صورة مراقبة علنية لهذا الدين فضلا عن التهديد الضمني الذي تقوم به الدولة إذا لم تدعمها مؤسسات هذا الدين. فمثلا، عندما تمول الدولة دينًا ما، فإن هذا الدين يصبح مُعتمِدًا ماليًّا على الدولة، ويخضع لابتزازها القائم على احتمال سحب التمويل. نتائج هذه الدراسة تظهر أن جميع الدول التي تُقيِّد، تنظِّم، أو تتحكم في الدين، فإنها تدعمه أيضا، وأن مستويات الدعم والسيطرة كليهما مرتبطان إلى حد كبير.

الكلّي مقابل الجزئي

فالسياسات الكلية الشاملة لا تُتَرجَم دائمًا إلى المِثْل على المستويات الجزئية. ففي حين أن «السياسات العليا» للدولة في سياستها الدينية الرسمية ترتبط بالتأكيد بممارستها اليومية تجاه الدين، إلا أن هناك تباينًا واسعًا حول تلك المسألة. فمثلًا؛ الدول التي لديها دين رسمي تتراوح ما بين 2 إلى 42 من بين 51 نوعًا كامنًا من الدعم العملي للدين الذين تم حصره في الدراسة.

الوطني مقابل المحلي

غالبا ما تختلف السياسات المحلية مع السياسات الوطنية. يتجلّى هذا في أن العديد من السلطات المحلية غالبا ما تدعم دين الأكثرية وتقيد دين الأقلية بشكل غير الذي تمثله السياسة الوطنية. على سبيل المثال، فإن العديد، وليس جميع، من القيود المفروضة على المساجد وغطاء الرأس للمسلمات في الدول الغربية يَصدُر عن سياسات محلية وليست وطنية.

ليست كل السياسات الدينية بدوافع دينية

فهناك العديد من العوامل السياسية، الثقافية والاقتصادية الأخرى التي تلعب دورًا بالإضافة للعديد من مصالح السياسيين.


كل هذا يُشَكِّل مجموعة التفاعلات المعقدة التي ترسم سياسة الدولة في مسألة الدين. فلا يوجد دولتان في العالم لديهما نفس السياسة، وقليلة هي الدول التي لديها سياسة لا تتغير. الأكثر من ذلك، فإن التقاليد الدينية ليست متجانسة. في العالم المسيحي، على سبيل المثال، فالدول التي لديها عدد أقل من السياسات الدينية، وأقل تمييزًا ضد الأقليات، هي دول في العالم الثالث وليست في الغرب. فهناك تنوع كبير جدًا في العالم الإسلامي: فالأغلبيات الإسلامية المستقرة في غرب أفريقيا لديها سياسات بخصوص الدين مشابهة للديمقراطيات الغربية مثلا، في حين أن أنظمة الشرق الأوسط تشارك في دعم دين بعينه وتنظيم عبادات أديان أخرى وتفرض قيودًا على بعض الأقليات. وبالتالي تُظْهِر الدراسات التحليلية للعلاقة بين الدين والدولة نتائج مفاجئة. كما تشير التوجهات العالمية الواضحة إلى أن دراسة السياسات الحكومية بخصوص الدين مسألة لا تقل أهمية عن أي وقتًا مضى.