لما كان القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، فقد حظي بقدر كبير من القداسة والتبجيل لدى عموم المسلمين، كما صار – في الوقت نفسه – حجر الأساس في البناء التشريعي والعقائدي في الدين الإسلامي، الأمر الذي حدا بمختلف المذاهب والفرق الإسلامية لاعتباره واللجوء إليه بغية العثور على الأدلة والشواهد التي تثبت صدق معتقداتهم.

علماء المذاهب المختلفة عملوا على الوصول لهدفهم من خلال طريقين رئيسين: الأول يتمثل في الخروج بمجموعة من التفسيرات والتأويلات القرآنية المتوافقة مع أفكار كل مذهب. والثاني يتمحور حول تقديم قراءات لغوية/ نحوية/ بلاغية مختلفة للنص القرآني، بحيث راعت كل قراءة من تلك القراءات الأصول والمبادئ الحاكمة في كل مذهب، الأمر الذي عبَّر عنه ابن القيم الجوزية (المتوفى 751 هـ) في كتابه «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، بقوله: «وأنت تجد جميع هذه الطوائف تُنزِّل القرآن على مذاهبها وبدعها وآرائها، فالقرآن عند الجهميِّ جهميٌّ، وعند المعتزليِّ معتزليٌّ، وعند القدرية قدريٌّ، وعند الرافضة رافضيٌّ».

في هذا المقال سنقدم مجموعة من الأمثلة على القراءات المذهبية المختلفة للنص القرآني، تلك التي راجت في بعض الفترات التاريخية بين صفوف كل من أهل السنة والجماعة، والمعتزلة، والشيعة الإمامية الاثني عشرية، وهي القراءات التي كُتب الاستمرار لبعضها، في حين نُسي البعض الآخر منها مع تطاول الزمن واعتماد قراءة حفص بن عاصم كقراءة مشهورة وغالبة للقرآن الكريم في الأغلبية الغالبة من الأمصار الإسلامية.

العدل الإلهي وكلام الله: القراءة المعتزلية للقرآن

خالف المعتزلة أهل السنة والجماعة في العديد من الأصول والمسائل العقائدية والكلامية، ومنها على سبيل المثال مسألة العدل الإلهي، ومسألة كلام الله.

القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفى 415 هـ) – وهو واحد من كبار علماء المعتزلة في القرن الرابع الهجري – عرض رأي أهل العدل والتوحيد – وهو أحد الأسماء المشهورة للمعتزلة – في تلك المسائل في كتابه «الأصول الخمسة»، فكان مما قاله في مسألة العدل الإلهي أن عدل الله عز وجل يقتضي أن يُثاب المحسن على إحسانه في الدار الآخرة بأن يدخل الجنة، وأن يُعاقب المسيء على إساءته بأن يدخل النار؛ أما بالنسبة لمسألة كلام الله، فيعتقد المعتزلة أن الكلام صفة للفعل وليس من ‏صفات الذات الإلهية، وأنه محدث غير قديم، ويشرح القاضي عبد الجبار رأي المعتزلة في تلك النقطة بقوله: «… ولا خلاف بين الأمة أن كل ما سوى الله فهو مُحدث. فيجب أن يكون القرآن كلام الله مُحدثًا، ومُحدِثه الله عزَّ وجلَّ …».

ولما كان القرآن الكريم يحتوي على الكثير من الآيات التي يحمل ظاهرُها معاني تعارض تلك العقائد المعتزلية، فإن التفسيرات المعتزلية قد عملت على تقديم قراءة مخالفة لتلك الآيات، ومن ذلك الآية رقم 156 من سورة الأعراف «قال عذابي أصيب به من أشاء»، والتي يفهم من ظاهرها أن الله يعذب العباد بحسب مشيئته، وليس بمقتضى عملهم في الحياة الدنيا، وكذلك الآية رقم 164 من سورة النساء «وكلم الله موسى تكليما»، والتي يُفهم منها أن الله قد تكلم إلى النبي موسى.

المُفسِّر المُعتزلي الكبير أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري (المتوفى 538 هـ) في كتابه الكشاف، قدَّم مجموعة من الحلول للخروج من الإشكاليات الناجمة عن القراءة الحرفية لتلك الآيات، وذلك من خلال اختيار بعض القراءات،والتي وإن كانت غير مشهورة، إلا أنها تتسق إلى حد بعيد مع الأصول العقائدية المعتزلية.

فيما يخص الآية الأولى، استبدل الزمخشري بحرف الشين في كلمة أشاء حرف السين، ليتغير منطوق الآية إلى «قال عذابي أصيب به من أساء»، وهو التغيير الذي يتسق مع عقيدة المعتزلة في العدل الإلهي؛ لأن العذاب هنا سوف يصبح مقصورًا على من أساء من العباد فحسب.

أما فيما يخص الآية الثانية، فقد غيَّر الزمخشري من إعرابها، إذ غير علامات الإعراب الخاصة بكلمتي الله وموسى، لتتحول من رفع الله ونصب موسى في القراءة المشهورة، إلى نصب الله ورفع موسى في القراءة المعتزلية، بما يعني أن موسى صار هو الفاعل/المتكلم، وصار الله عز وجل هو المفعول به/ المخاطب، بما يتماشى مع عقائد المعتزلة التي تنفي صفة الكلام عن الذات الإلهية.

الإمامة وآل البيت: القراءة الشيعية للقرآن

من المعروف أن الشيعة الإمامية الاثني عشرية قد خالفوا أهل السنة والجماعة في الكثير من المسائل العقائدية، ومن أهمها مسألة الإمامة، التي يعتقد الشيعة أنها أصل من أصول الدين، وأنه قد تم تحديدها بشكل إلهي بحت لا دخل فيه للبشر، وذلك حينما تم النص على تعاقب اثني عشر رجلًا من أهل بيت الرسول على تولي ذلك المنصب المقدس، وكان أولهم هو ابن عم الرسول، علي بن أبي طالب، وآخرهم هو المهدي المنتظر، محمد بن الحسن العسكري، الغائب عن الأنظار منذ سنة 329 هـ.

ولما كان التأكيد على مسألة الإمامة قد غاب بشكل واضح عن آيات القرآن الكريم، فلم يكن من الغريب والحال كذلك، أن نجد أن الكثير من المصادر الشيعية – وبعض المصادر السنية كذلك – قد قدمت قراءة مغايرة لبعض الآيات القرآنية، وتمت نسبة تلك القراءة إلى بعض أئمة الشيعة المعتبرين، الأمر الذي اتسق مع مركزية مبدأ الإمامة في الفكر الشيعي الجمعي من جهة، كما أسهم في تقوية الأدلة والشواهد الشيعية الداعية لإمامة الأئمة من آل البيت من جهة أخرى.

من تلك الآيات، الآية رقم 110 من سورة آل عمران «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، والتي ظهرت قراءة شيعية موازية لها، عندما ذكر محمد باقر المجلسي (المتوفى 1111 هـ) في كتابه بحار الأنوار نقلًا عن بعض الأقوال المنسوبة للأئمة: «إنما أنزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله في الأوصياء خاصة فقال: (أنتم خير أئمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) هكذا والله نزل بها جبرائيل عليه السلام، وما عنى بها إلا محمدًا وأوصياءه صلوات الله عليهم».

التناول نفسه ظهر في الآية رقم 8 من سورة التكوير، والتي ورد فيها: «وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت …»، إذ ورد في تفسير روح المعاني لأبي الثناء الألوسي (المتوفى 1270 هـ) أنه قد رُوِيَ عَنْ الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق وغيرهم من أئمة آل البيت، أنَّهم قد قَرَءُوا: كلمة الموؤدة الواردة في الآية، بِفَتْحِ المِيمِ والواوِ، لتصبح المَوَدَّة، والمراد بِها الرَّحِمُ والقُرابَةُ، وتم الربط بين هذه الكلمة من جهة وما ورد في الآية رقم 23 من سورة الشورى من جهة أخرى، وهي الآية التي ورد فيها «قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى»، والتي يتفق أغلبية المفسرين – سنة أو شيعة – على أنها تقصد ضرورة مودة آل بيت الرسول.

في السياق نفسه، ذهبت بعض القراءات المنسوبة لأئمة الشيعة إلى أن الإمام الأول، علي بن أبي طالب، قد ورد ذكره بشكل صريح في القرآن الكريم، بما يؤكد من حقه في الإمامة بعد الرسول، فبحسب ما يذكر ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588 هـ) في كتابه «مناقب آل أبي طالب»، منسوبًا إلى الإمام السادس جعفر الصادق، أن عمر بن الخطاب قد قال يومًا لرسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنك لا تزال تقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى … فقد ذكر الله هارون في أم القرى ولم يذكر عليًّا!» فردَّ عليه النبي قائلًا: «أما سمعت الله يقول: هذا صراطُ عليٍّ مستقيم»؟ وكان يشير بذلك إلى الآية رقم 41 من سورة الحجر «قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ»، ونلاحظ هنا الاختلاف الواضح في ضبط كلمتي صراط وعلي، والذي من شأنه أن يغير كليةً من معنى الآية، إذ وردت كلمة علي في الرواية الشيعية بكسر الياء، وإضافتها إلى كلمة صراط، بما يعني أن كلمة (علي) الواردة في الآية هو اسم علم (علي بن أبي طالب)، أما في الرواية القرآنية المشهورة فقد وردت بتنوين صراط وفتح الياء في (علي)، بما فهم منه الأغلبية الغالبة من المسلمين أن المقصود بها هو مجرد وصف للصراط بأنه «رفيع مستقيم»، وذلك بحسب ما ورد في تفسير شمس الدين القرطبي (المتوفى 671 هـ) في تفسيره.

أحكام الوضوء وغائية الفعل الإلهي: القراءة السنية للقرآن

على العكس من معظم المذاهب والفرق الإسلامية مال أهل السنة والجماعة للأخذ بالقراءة الحرفية المتواترة المشهورة للقرآن الكريم، ولم يشذوا عن ذلك المنهج إلا في مواضع معدودة، عندما عملوا على الأخذ ببعض القراءات المختلفة من ناحية الضبط النحوي أو الدلالة اللغوية.

من المواضع التي أخذ فيها أهل السنة بالقراءة النحوية غير الاعتيادية، والتي تتماشى مع ما ساد عندهم من معتقدات وأفكار، تلك التي وردت في الآية رقم 6 من سورة المائدة، والتي ورد فيها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ …». علماء القراءات القرآنية انقسموا إلى فريقين عند قراءتهم لتلك الآية: الفريق الأول، ومنهم كل من ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وشعبة، مالوا لقراءتها وفق الشكل الاعتيادي التقليدي، والذي يجعل المعطوف مربوطًا بأقرب الكلمات منه قربًا في الجملة، وبالتالي فقد قرأوا كلمة «وأرجلِكم» بالخفض، أي أنهم قد كسروا حرف اللام فيها، في إشارة إلى أنها معطوفة على الكلمة السابقة «برءوسكم»، فلما كان المعطوف يتوافق مع حركة المعطوف عليه فقد كان من الطبيعي أن تأخذ الرجلين هنا حكم المسح. أما الفريق الثاني، ويضم كلًّا من نافع وابن عامر والكسائي وحفص، فقد أخذوا بالقراءة غير الاعتيادية من الناحية النحوية، وذلك عندما قرءوا الآية بنصب كلمة «وأرجلَكم»، وهو ما يعني أنها معطوفة على «وجوهكم» و«أيديكم».

الاختلاف في أوجه القراءة والإعراب، يمكن فهمه بالرجوع للممارسات الفقهية المعمول بها عند أهل السنة والجماعة من جهة، والشيعة الإمامية الاثني عشرية من جهة أخرى، إذ مال فقهاء أهل السنة للقول بحكم غسل الرجلين في الوضوء، واحتجوا بالقراءة الواردة في مصحف حفص بن عاصم، أما نظراؤهم من الشيعة الإمامية فقد أخذوا بالحكم الفقهي الذي يوجب مسح الرجلين في الوضوء، وأخذوا بالقراءة الواردة في المصاحف الأخرى.

من المواضع الأخرى التي وفَّق فيها أهل السنة والجماعة من الأشاعرة بين معتقداتهم وأفكارهم من جهة، والقراءة القرآنية من جهة أخرى، ما ورد في الآية رقم 56 من سورة الذاريات «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، فبينما أخذت المعتزلة بالفهم المباشر – والمشهور – للآية، فذهبت إلى أن اللام السابقة لكلمة يعبدون، هي لام الغاية والتعليل، بما يعني أن الله قد خلق الإنس والجن ليقوموا جميعًا بعبادته، وهو الأمر الذي يتماشى مع أفكارهم التي تقول إن جميع أفعال الله عز وجل لها غاية وهدف.

الأشاعرة الذين رفضوا مبدأ غائية الفعل الإلهي، ذهبوا إلى أن هذه اللام ليست لام التعليل بل هي لام العاقبة والصيرورة، فليس المراد أن العبادة باعثة لله تعالى على خلق الجن والإنس، وإنما المراد عاقبة الأمر وصيرورة الحال؛ أي لما وجد الخلق كلفوا بالعبادة فترتب التكليف بالعبادة على وجود الخلق.