اعتدلت في سريرها بصعوبةٍ بالغة رغم مساعدة الممرضة النوبتجية لها، فالنوم على ظهرها لأكثر من بضعة دقائق أصبح مجهودًا حقيقيًا أشبه بخوض ماراثون رياضي أو بالسباحة لمسافةٍ طويلة.

مرَّ شهرٌ على ولادة طفلها الأول الجميل، ولكن ما حدث لها خلال هذا الشهر الثقيل أشد من أضعاف هواجس القلق والخوف من المجهول التي كانت تعتريها أثناء الحمل، إذ لم تتصور أن تنقلب سعادتُها بالمولود المُنتظر إلى كل هذا الشقاء والمعاناة، وأن تقضي معظم شهرها الأول في المستشفى بدلًا من أن تستقبل الضيوف والمباركات في منزلها.

كانت البداية بعد أيامٍ قليلة من وضع وليدها، إذ شعرت بضيق شديد في التنفس مع أقل مجهود، وأن النوم مُستلقيةً على ظهرها يُشعِرها بأنها على وشك الغرق والاختناق. حاول أهلها طمأنتها بأن هذا إرهاق وإجهاد من أثر الحمل الأول، فحاولت بشتَّى الطرق أن تُصدقَهم، ثم جاءت الفاجعة في الأسبوع التالي، عندما شعرت بصعوبة بالغة في التنفس، وأن صدرها يختنق بالمياه، وكأنها تغرق في بحرٍ عاصف، وشعرت كأن الدنيا تدور بها في دوامةٍ سرمدية.

حملها زوجها في منتصف الليل حملًا إلى أقرب مستشفىً للطوارئ ليخبروه هناك بأنها تعاني الآن من ارتشاح رئوي حاد، وأنهم لا يعرفون سبب حدوث هذا الآن، ولا بد من دخولها إلى العناية المركزة لتتلقى الإسعافات الأولية وإلا أصيبت بفشلٍ تنفسي يعقبه توقفٍ في عضلة القلب.

في العناية المركزة، أحاطت بها غابة متشابكة من الأردية البيضاء، وأنابيب المحاليل، وخراطيم الأكسجين، وثبَّتوا على وجهها قناعًا ضخمًا للتنفس، وأحكموا ربطَه حتى شعرت كأنَّ عظام وجهها تتفكَّك من جرّاء ضغطه الشديد. حاولت مرارًا نزع هذا القناع، لا سيَّما وقد أشعرها لحظيًا بالاختناق، لكنهم أبعدوا يديها في إصرار، ثم ربطوهما في السرير. بعد نحو ساعةٍ من الوقت مرّت عليها كنصف عُمرٍ أو يزيد، شعرت بأن أنفاسها أصبحت أهدأ، بينما امتلأ كيس التجميع الخاص بقسطرتَها البولية عن آخره.

في الصباح، مرَّ عليها استشاري أمراض القلب، وطالع أوراق الحالة وما بها من تحاليل واختبارات، ثم أجرى لها أشعة موجات صوتية على القلب (إيكو)، فكانت الصدمة. أخبرهم الطبيب بأن كفاءة انقباض عضلة القلب لديها بالكاد 35%، والطبيعي يتراوح بين 55 و70%، مما يعني إصابتها بضعفٍ شديد في عضلة القلب. وكان الطبيب صريحًا بأن الحالة غير مستقرة، وأنها مفتوحة على كافة الاحتمالات من الأفضل إلى الأسوأ، وأن السبب غالبًا هو حالة نادرة مرتبطة بالحمل والوضع.

رُسمَت خارطة العلاج المكثف للحالة، وهو شبيه للغاية بعلاج ضعف عضلة القلب وفشل وظائف القلب المعتاد، ووُضِعت النتائج القصيرة والبعيدة بين دفتيْ القدر.

ضعف عضلة القلب المتعلَّق بالحمل: وقائع وأرقام

ما وصفناه في القصة الرمزية السابقة، هو السيناريو الأكثر تكرارًا في الواقع في حالات ضعف عضلة القلب المتعلِّق بالحمل، والتي تحدث عادةً في الشهر الأخير من الحمل، أو خلال الأشهر الخمسة أو الستة التالية للولادة، وفي الغالبية العظمى من الحالات، لا يكون لدى السيدة المصابة تاريخ سابق مع أمراض القلب، وهذا ما يُفسِّر المفاجأة الصاعقة التي تُسبِّبها تلك الحالة لدى المريضة وذويها، وحتى أطبائها.

اسمه باللغة اللاتينية peri-partum cardiomyopathy حيث peri-partum تعني حول الولادة، قبلها أو أثناءها أو بعدَها، أمّا cardiomyopathy فتعني ضعف عضلة القلب. ورغم أن هذا المرض معروف في الأوساط الطبية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فإنَّ السبب المُحدَّد للإصابة به لا يزال مجهولًا، وما نمتلكه حتى اللحظة من تفسيرات، هي محض نظريات تحتاج لمزيد من الأدلة العلمية الأقوى.

تسجل الولايات المتحدة الأمريكية نسب إصابة مرتفعة في تلك الحالة، حيث تُحصى في المتوسط حالة واحدة من كل 900 إلى 4 آلاف ولادة، ويُعزا إليها نحو 15% من وفيات الأمهات في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنها صاحبة المنظومة الصحية الأقوى على سطح الكوكب. أمّا نيجيريا فقد سجَّلت واحدة من أعلى النسب في العالم، وهي حالة واحدة لكل 100 ولادة.

وأشهر عوامل الخطر التي وجدت الدراسات العلمية أنها قد ترفع نسب احتمالات الإصابة بتلك الحالة هي:

  • ارتفاع سن الأم أثناء الحمل فوق الثلاثينات، لا سيّما فوق الأربعين عامًا.
  • زيادة عدد مرات الحمل.
  • تصاعد عوامل الخطر الضارة بالقلب لدى كثير من السيدات في العشرينيات والثلاثينات من العمر، مثل السمنة والضغط والسكر.
  • الإصابة بما يُعرَف بتسمم الحمل pre-eclampsia، وهي حالة خطيرة تتمثل في تضرر الكُلى، وهدر البروتين في البول، وارتفاع ضغط الدم، وتورم الجسم.
  • نقص بعض المغذيات المفيدة مثل السيلينيوم الموجود في الأغذية البحرية وبعض المكسرات والقمح والحبوب. وكذلك الزنك الموجود في الدجاج واللحوم الحمراء.
  • بعض العوامل الوراثية، وزيادة إحصائية ملحوظة لدى أصحاب الأصول الإفريقية.

وظهرت بعض الأدلة العلمية التي تحتاج إلى مزيدٍ من التوثيق والتعزيز، والتي تؤكد أن زيادة إفراز هرمون اللبن (البرولاكتين) في أواخر الحمل، وشهور الرضاعة الأولى بعد الولادة، له دورُ أساسي في إصابة بعض السيدات بتلك الحالة المرضية النادرة.

هل يُشفى هذا القلب الكسير؟

يمكن مجازًا تقسيم المُصابات بتلك الحالة إلى ثلاثة أقسام من حيث احتمالات الشفاء والتعافي:

  • الأول: سيتحسّن تدريجيًا على مدار أسابيع أو أشهر، لا سيّما إنْ تلقّى رعاية طبية جيدة باكرًا، وسيستعيد وظائف القلب الطبيعية كليًا أو جزئيًا.
  • الثاني: سينجو من المضاعفات الحادة للمرض مثل الفشل الحاد في وظائف القلب والارتشاح الرئوي الحاد، وهبوط عضلة القلب والدورة الدموية… إلخ، لكنه سيعيش بضعفٍ مزمن في عضلة القلب يحتاج إلى متابعة دائمة وعلاج مزمن لتحسين وظائف القلب والسيطرة على أعراض ضعف عضلة القلب.
  • الثالث: للأسف الشديد، سيكون مصيره الوفاة خلال أيام أو أسابيع قليلة، نتيجة المضاعفات الحادة الخطيرة لتلك الحالة.

في السنوات القليلة الماضية، ومع تحسن الرعاية الطبية لا سيّما في البلدان ذات المنظومات الصحية الأكثر قوة، زادت نسب التعافي لتلك الحالة، وتقلّصت احتمالات الوفاة. فقد أظهرت دراسة أمريكية حديثة أُجريت على 100 امرأة مصابة، مع المتابعة لمدة عام كامل، أن أكثر من 70% منهن قد استعدن كفاءة انقباض عضلة القلب بنسبة فوق 50% (الطبيعي من 55 إلى 70%)، وأن 13% فقط هم منْ أُصبن بضعف مزمن شديد في عضلة القلب (كفاءة انقباض القلب أقل من 35%).

ما الوسائل العلاجية المُتاحة؟

يتشابه العلاج كثيرًا مع العلاجات المتاحة لضعف عضلة القلب وهبوطها ومضاعفاتها الحادة والمزمنة، لكن هناك بعض العلاجات الخاصة التي تتوافق مع النظريات الأقوى في تفسير الإصابة بتلك الحالة.

في مرحلة فشل عضلة القلب الحاد وهبوط الدورة الدموية

  • التنفس الاصطناعي والمحاليل الوريدية التي تُحسِّن انقباض عضلة القلب وترفع ضغط الدم في الحالات الأشد خطورة، والتي قد تحتاج بعض الأجهزة الداعمة للقلب الأكثر تقدمًا وصعبة التوافر في مصر ومعظم البلدان النامية، مثل جهاز الأكسجة الغشائية خارج الجسم ECMO، وجهاز Impella الذي يمكن اعتباره قلبًا صناعيًا يُوضع داخل القلب… إلخ.
  • مدرات البول الوريدية حسب ما يسمح ضغط الدم، وذلك للتخلص من السوائل الزائدة التي ترشح في الرئتيْن وسواها، نتيجة عجز مضخة القلب الضعيفة عن التوزيع الفعال للدورة الدموية.
  • محاليل النيترات الوريدية حسب ما يسمح ضغط الدم، وهي تساهم في تقليل الأحمال عن عضلة القلب.
  • مختلف درجات الدعم الأكسجيني حسب احتياج كل مريض.
  • جرعات وقائية من مضادات التجلط، وذلك لمنع حدوث جلطات الأوردة لا سيما في الساقين والحوض والتي قد تصعد إلى شرايين الرئة، وهذه الجلطات شائعة مع حالات هبوط عضلة القلب نتيجة لزوم المريض للفراش، وتباطؤ سريان الدم.
  • المتابعة الدقيقة لوظائف كافة الأعضاء الحيوية لا سيّما المخ والكلى والكبد.

بعد استقرار الأعراض والمضاعفات الحادة

هناك العديد من المجموعات الدوائية المفيدة لمرضى ضعف عضلة القلب، والفشل المزمن في وظائفها، والتي يعرفها أطباء القلب المتخصصون، مثل مضادات البيتا، ومضادات هرمون تحويل الأنجيوتنسين، ومدرات البول… إلخ، وتُعطَى بجرعات خاصة تتناسب مع كل حالة وأعراضها واستجابتها.

وقد تحتاج بعض الحالات التي تتجاوز المرحلة الحادة الخطيرة لكنها تعاني من ضعفٍ شديد دائم بعضلة القلب إلى تركيز جهاز مزيل الرجفان البطيني ICD وذلك للوقاية من حدوث الاضطرابات الكهربية الخطيرة التي قد يعاني منها مرضى ضعف عضلة القلب، مثل التسارع البطيني والرجفان البطيني، والتي قد تؤدي إلى توقفٍ مفاجئ لعضلة القلب، وهو من أهم أسباب الوفاة في تلك الحالات.

العلاجات الخاصة

أهم تلك العلاجات، والذي يُنصَح بها حاليًا فور التشخيص، هو إيقاف الرضاعة الطبيعية، وإعطاء الأدوية المضادة لهرمون اللبن مثل البروموكريبتين، والذي أظهرت بعض الدراسات نتائج جيدة له في تحسين مدى وسرعة تعافي عضلة القلب.

وفي الحالات التي تتطور في أواخر الحمل، فلابد من فريقٍ طبي متكامل من أطباء القلب والرعاية المركزة والنساء والتوليد لاتخاذ القرار الأنسب لكل حالة فيما يتعلق بموعد الولادة، وطريقتها، والعلاجات التي يُمكن إعطاؤها دون أن تضر بالأم أو الجنين، وبالطبع الأولوية القصوى لإنقاذهما معًا، فإن تعذَّر ذلك، فصحة الأم أولى (ولا خيار في هذا كما كنا نشاهد في بعض الأفلام منزوعة الصلة بالعقل والواقع).

وبالنسبة للحالات التي يتحول فيها ضعف عضلة القلب الشديد إلى واقع دائم، فلا علاجٌ جذري سوى عملية زرع القلب والرئتيْن، وهي بالطبع رفاهية طبية شديدة التعقيد، لا تُتاح إلّا في بعض البلدان شديدة التقدم طبيًا.

وعلى مستوى الأبحاث، اختُبرت محاليل الأجسام المضادة المناعية، لكن لم يظهرْ لها تأثير علاجيْ فعّال.

اقرأ: كيف تُنقذ حياة مريض بجلطةٍ في القلب؟

كيف يمكن تجنب الإصابة بتلك الحالة؟

طالما لم نعرف بعد الأسباب المباشرة القاطعة لحدوث تلك الحالة، فسيظل الغموض يحيط ببعض جوانب خطط الوقاية والعلاج. لكن مما لدينا حتى الآن من معرفةٍ بهذا المرض فأهم وسائل الوقاية هو تجنب تكرار الحمل لمن سبق وتعرَّضت لهذه الحالة في حملٍ سابق، حتى لو كانت من القلة المحظوظة التي استعادة كفاءة القلب كليًا أو جزئيًا بمرور الوقت، لأنه لا يُشترَط في المرات التالية أن يتكرَّر سيناريو التحسن. وأيضًا محاولة تجنب الحمل لدى السيدات الأكبر سنًّا، خاصةً منتصف الثلاثينيات فما أعلى.

وهناك بعض النصائح العامة التي وُجد لها فائدة نسبية في تقليل فرص الإصابة بتلك الحالة، وحماية القلب من أثقال الحمل وسواه بوجهٍ عام:

  • الامتناع عن التدخين والكحوليات.
  • اتخاذ نمط حياة صحي قدر المستطاع بالحفاظ على قدرٍ من الرياضة المعتدلة المنتظمة قبل وأثناء الحمل، وتجنب الوجبات كثيفة الدهون، والحفاظ على الوزن.
  • السيطرة على عوامل الخطر المعروفة لأمراض القلب إن وُجِدَت مثل ارتفاع سكر أو ضغط الدم، واختلال الكوليسترول، عن طريق الالتزام بتعليمات الأطباء والانتظام في تناول العلاج.