يُجزمُ المتدينون، وفي القلب منهم المسلمون، أن التديُّن يسهم إيجابيًا في مواجهة كافة الاضطرابات والآلام النفسية، ومنها الاكتئاب، وأن غياب التدين ونقص الإيمان، يجعل الإنسان أكثر عرضة لاضطرابات القلق والاكتئاب، ويعزِّزون هذا الجزم بالنصوص المقدسة مثل الآيات الكريمة «ألا بذكرِ اللهٍ تطمئنُّ القلوب» و«ومنْ أعرضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا»… إلخ، وكذلك بضرب الأمثال الحياتية، وتسليط الأضواء على تجاربٍ شخصية لأفرادٍ أكّدوا أن التديُّن قد ساعدهم في الوقاية من أو مواجهة الاكتئاب والقلق. في المقابل، يرى آخرون أن التدين لا يعصم من الاكتئاب، ويستدلون بوجود نماذج عديدة لمتدينين مصابين باضطرابات القلق والاكتئاب وغيرها، ويصل بعضهم إلى حالة القنوط التام، وارتكاب الانتحار.

في السطور التالية، سنمر على أبرز وأحدث النتائج التي توصَّلت إليها الدراسات العلمية الطبية حول تلك القضية الشائكة، ونستنطقُ الأدلة العلمية القوية المتاحة عن حدود العلاقة بين التدين والاكتئاب. ولسوء الحظ، يقلُّ في العالم العربي والإسلامي توافر الدراسات العلمية ذات الأدلة القوية التي ناقشت هذا الأمر الشائك الخطير، والمتوافر منها يكاد بالإجماع يؤكد أن التدين والروحانيات تلعب دورًا إيجابيًا في الوقاية من الاكتئاب وفي المساعدة في علاجه، مثل دراسةٍ إيرانيةٍ نُشرت عام 2021، أكدَّت الدور الإيجابي للتدين في مساعدة مرضى السرطان على مواجهة الاكتئاب والوقاية منه. وبالتالي لمزيدٍ من الموضوعية، سيكون اعتمادنا الرئيس على المصادر الأجنبية. 

التدين والاكتئاب: ماذا يُخبرنا العلم؟

لا تزالُ قضية الدين والتديُُّن تحظى بقدرٍ كبير من الأهمية في الحياة المعاصرة، فقد أظهرت بعض الاستطلاعات العلمية للرأي بين الآلاف من سكان البلدان النامية أن الدين يشكل جزءًا مهمًا من الحياة لدى أكثر من 90% منهم، بينما جاءت النتيجة تقارب 50% في استطلاعاتٍ مماثلة في البلدان المتقدمة.

منذ عقود، تنالُ دراسة العلاقة بين الاكتئاب والتدين اهتمامًا علميًا كبيرًا، وأظهرت نتائج الأبحاث التي بحوزتنا حتى الآن وجود تشابك وتداخلٍ كبيريْن بين مساحتيْ الاضطرابات النفسية والمزاجية، والحالة الدينية للإنسان. فعلى سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن الكثيرَ من مرضى الاكتئاب يُعبرون عن آلامهم النفسية بلغة مقتبسة من الدين، مثل جزم الكثيرين منهم بأن ما يعانونه من ألمٍ نفسي هو عقاب من الله على تقصيرهم في الدين وارتكابهم المعاصي… إلخ، وأنهم لن يتجاوزوا ما يعانونه من اكتئاب إلا إذا التزموا دينيًا بشكلٍ مُرْضٍ.

وقد ركّزت الأبحاث والدراسات العلمية التي ناقشت تلك العلاقة بين الاكتئاب والتديْن على فرضيَّتيْن رئيستيْن: الأولى هي دور التديْن في الوقاية من الاكتئاب، والثانية هي دوره في علاج الاكتئاب وتخطيه بعد الإصابة به. 

في عام 2012، نُشرت نتائج مراجعة منهجية موَسَّعة للأبحاث وللدراسات العلمية التي تناولت قضية العلاقة بين التديُّن والاكتئاب على مدار 50 عامًا سابقة على إجراء تلك المراجعة. شملت المراجعة 444 دراسة تناولتْ قضية العلاقة بين الاكتئاب، ومختلف أشكال التدين والروحانيات، أظهرت 61% من تلك الدراسات تأثيرًا إيجابيًا للتدين في تقليل فرص الإصابة بالاكتئاب من الأصل، ومعدلاتٍ أسرع في التعافي منه بعد الإصابة، بينما أظهرت 6% من الدراسات المشمولة بالمراجعة نتائج عكسية للتدين مع الاكتئاب، أما الثلث الباقي من الدراسات فجاءت نتائجه متضاربة، أو عجزت عن إثبات علاقة إيجابية أو سلبية يقوم عليها الدليل القوي.

ومن اللافت، أنه في نفس تلك المراجعة المنهجية المذكورة، ذكر الباحثون أنه من بين 178 دراسة هم الأقوى والأعلى جودة، كانت نسبة الدراسات التي أظهرت علاقة إيجابية للتدين بقضية الاكتئاب وقايةً وتعافيًا 67%، بينما 7% فقط من تلك الدراسات القوية أظهرت علاقة سلبية بين التدين والاكتئاب.

وهناك دراسة شيقة أجريَت على 114 شخصًا تابعهم الباحثون على مدار 20 عامًا، أظهرت نتائجُها أن هؤلاء الذين كانوا أكثر اهتمامًا بالتدين والروحانيات، كانوا أقل عرضةً للإصابة بالاكتئاب بنسبة 73% مقارنة بغيرهم. بينما أظهرت نتائج أخرى على عينةٍ من الأشخاص الذين تعرَّضوا لأزماتٍ حياتية عنيفة، أن من كانوا ينتظمون في طقوسٍ دينية كانوا أقل عرضة لاعتلالات المزاج ومنها الاكتئاب بنسبة 49%.

في ما يتعلَّق بالوقاية من الاكتئاب أيضًا، أظهرت دراسة نُشرت عام 2019 في إحدى الدوريات العلمية التابعة لجامعة شيكاجو الأمريكية، أن الميول الدينية لدى المراهقين تُقلل فرص الإصابة بالاكتئاب بنسبة تصل إلى 24%. وطبقًا لنفس الدراسة، تفوَّقت الميول الدينية في المساعدة في تخفيف الضغوط النفسية لدى المراهقين على كُلٍّ من الأنشطة المدرسية  والأثر الإيجابي للصداقة والأصدقاء.

والعكس صحيح أيضًا وفق دراساتٍ أخرى، فقد أظهرت دراسة أمريكية مُحكَّمة استهدفت الأمريكيين من أصولٍ لاتينية وهسبانية، أن نقص التدين والروحانية يزيد من فرص الإصابة بأعراض القلق والاكتئاب وتفاقمها، لا سيَّما لدى كبار السن.

والآن ننتقل إلى الشق الثاني. ماذا بعد وقوع الاكتئاب؟

هل يسهم التدين في علاج الاكتئاب أو تخفيف وطأته؟

وجد الباحثون أن الاكتئاب مع مرور الوقت يؤثر في بنية المخ، حيث يسبب تدريجيًا هشاشة في القشرة المخية. كان من اللافت أن الدراسات أكدت أن الأشخاص الذين يمارسون التدين والروحانيات يمتلكون قشرةً مخية أكثر سماكة وأقل هشاشة، مما قد يفسرُ قدرتَهم على تجاوز الإصابة بالاكتئاب، ونقلُّ فرصُ تكرار إصابتهم بالاكتئاب.

في مراجعةٍ منهجية موسَّعة نُشِرَت نتائجها عام 2019، وشملت 152 دراسةً علمية تناولت العلاقة بين شدة أعراض الاكتئاب، ووجود التدين والروحانيات. أظهرت نصف تلك الدراسات تقريبًا أن التدين والروحانية كان لهما تأثيرُ إيجابي في تحسين أعراض الاكتئاب، بينما في أقل من 10% من الدراسات جاءت النتائج عكسية.

أظهرت دراسة نُشِرَتْ أواخر عام 2017، أن التديُّن يلعب دورًا إيجابيًا في تحمل كبار السن في دولة بورتوريكو -تقع في أمريكا الوسطى- للأمراض المزمنة المصابين بها ومن بينها الاكتئاب، حيثُ يجعلهم أكثر رضًا عن النفس واستقرارًا نفسيًا رغم ما يعانونه مع تطاول مدة تلك الأمراض.

كذلك يُسهمُ التديُّنُ في تقليل فرص حدوث أخطر مضاعفاتِ الاكتئاب، وهو الميول والنوازع الانتحارية، التي قد تتطور فعلًا إلى الانتحار. في دراسةٍ حديثةٍ نشرتها جامعة كامبريدج البريطانية في شهر مايو/أيار 2022، أكَّدت النتائج، أنه بغضِّ النظر عن الانتساب لدينٍ معين، فإنَّ الإيمانَ بوجودِ الله يقلل بشكلٍ كبير النوازع الانتحارية لدى كبار السن بين 55 و85 عامًا، ممن يعانون من اعتلالاتٍ مزاجية مثل الاكتئاب.

وأكدت نتائج دراسة أجريت على الطلبة الجامعيين في أوكرانيا ونُشِرت عام 2021، أن الطلبة الأكثر ميلًا إلى التدين وممارسة الطقوس الدينية كانوا أقل عرضةً للميول الانتحارية وخطر ارتكاب الانتحار.

خاتمة: هل هناك تدينٌ صحيٌّ وآخر غيرُ صحي؟

بعد أن استعرضْنا سريعًا العديد من نتائج البحث العلمي الطبي المتعلِّق بقضية الاكتئاب والتدين، والتي تشيرُ في أغلبها إلى دورٍ إيجابي للتدين في ما يتعلَّق بقضية الاكتئاب وقايةً وعلاجًا واجتنابًا للمضاعفات، أودُّ الإشارة إلى ملاحظةٍ مهمة تتصل بهذه القضية الخطيرة.

 إذا كان الدين قيمة عليا تتسِّم بالثبات، ولها مرجعها المتمثِّل في نصوصِها المقدسة، فإن التديُّنَ مختلفُ كثيرًا من فردٍ لآخر، لأنَّه التفاعل البشري مع الدين، ولكل متديِّنٍ طريقته الخاصة في التعاطي مع تفصيلات التديُّن، وفي عواطفه وأحاسيسه العميفة المتصِّلة بالدين والتدين.

فإذا نظرنا بعيون الصحة النفسية، سنجدُ أنَّ هناك بعضَ أنماطِ التدين التي قد تفاقمُ الاضطراباتِ النفسية بوجهٍ عام، والاكتئاب بوجهٍ خاص، وهي الأنماط التي يغلب عليها جلد الذات (الذي يتجاوز كثيرًا حدود اللوم الذاتي البنَّاء)، والاتهام القاسي الدائم لها بالتقصير في الواجبات الدينية والحياتية، والذي يضعف قوة المرء النفسية، ويعزز قناعته بعجزه عن التحسن، وأنه سيظلُّ شخصًا مُقصِّرًا لا يستحق الأفضل.

في المقابل، هناك أنماطُ أخرى من التدين تعزِّز المناعة النفسية، وتقوّي عقل الإنسان وقلبه في مواجهة الصدمات النفسية، وهي القائمة على حسن ظن الإنسان بنفسه وبتدينه، وبعلاقته بربِّه، وشعوره أن العناية الإلهية تحوطه، وأن ما يقع فيه من أخطاء أو خطايا، ليست نهاية المطاف، وأنه يمكن أن يتجاوزها كأنَّها لم تكُن.