تتكرر ردود الأفعال الاجتماعية على السوشيال ميديا بشكل كبير حول حوادث الانتحار أو حول تصريحات بعض المشاهير بإصابتهم باضطرابات نفسية، حيث تشير أغلبها إلى تفسيرات تتضمن البعد عن الدين والضعف والاستسلام أو تتطرق لعدم الرضا بقضاء الله المنتشر بين أبناء/ بنات هذا الجيل، ومن هنا تظهر الحاجة للبحث في علاقة التدين من عدمه في الحماية من الإصابة بالأمراض النفسية أو افتراض أن المتدين في مأمن من الاضطراب النفسي.

لطالما كانت العلاقة بين الأديان وبين الطب النفسي أو علم النفس الإكلينيكي معقدة في أحيان بل ومضطربة في أحيان أخرى، ويرجع ذلك إلى نظرة الأديان إلى الأمراض النفسية والأشخاص المصابين بها في العصور القديمة أو في العصر الحديث.

تتضمن الثقافات الدينية ثقافات فرعية في تفسير بعض المشكلات النفسية كالإدمان أو السلوكيات الإدمانية حيث تعزيها للخيارات الشخصية الخاطئة للأفراد وضعف الإرادة، وكذلك تفسر بعض الإعاقات الجسدية كوسيلة للانتقام الإلهي من المصابين به أو أفراد أسرهم على الذنوب، حيث تطرح حلولًا مثل: التوبة بنية التكفير عن الذنوب، أو جلسات طرد الأرواح الشريرة التي تظهر في صورة الزار في مصر وبعض المجتمعات العربية، أو المشورة من رجال الدين والمعالجين الروحانيين.

دراسات: التدين قادر على حمايتنا من الأمراض النفسية

وفقًا لتعريف شافرانسكي ومالوني عالميْ النفس الإكلينكي المتخصصين في علاقة الروحانية بالعلاج النفسي، يشير مصطلح التدين إلى الالتزام بمعتقدات وممارسات تابعة لكنيسة معينة أو مؤسسة دينية منظمة، يتطلب أي بحث عن التجارب أو السلوكيات الدينية تعريفًا عمليًا للدين والطائفة التي ينتمي لها الشخص وكذلك مقدار ممارسته للشعائر لأن درجات التدين متفاوتة.

تشير دراسة العلاقة بين التدين والمرض النفسي عند مرضى الاكتئاب من إعداد الباحثين سوابنيل جوبتا وأجيت أفاتسي إلى أن التدين يؤثر على أمراض تعاطي أو إدمان المخدرات والذهان والوسواس القهري واضطرابات القلق، حيث تم الربط بين أبعاد التدين التي تتضمن المغفرة واللجوء إلى الله واعتباره قاضيًا ومطلعًا على الأفعال وبين انخفاض معدلات الإدمان على الكحوليات أو العقاقير المخدرة عند المتدينين مقارنة بغيرهم، كما توصلت الدراسة إلى أن التدين المجتمعي والروحانيات لها علاقة بانخفاض درجة اضطرابات الاكتئاب الشديد ونوبات الهلع والرهاب عند المتدينين مقارنة بالأقل تدينًا.

كما أشارت الدراسة إلى أن الأشخاص الأكثر تدينًا أقل إدراكًا لإصابتهم بالأمراض النفسية والأقل سعيًا لطلب المشورة والدعم النفسي من المتخصصين مقارنة بغير المتدينين مما يؤدي لتطور الاضطراب لديهم إلى مستوى أكثر حدة، لكن أشارت الدراسة إلى وجود علاقة عكسية بين مستوى التدين عند المصاب بالمرض النفسي وبين نسبة محاولات الانتحار أو الإقبال عليه، ويفسر الباحثون ذلك من خلال نقطة تحريم الانتحار أو قتل الذات المذكورة بأغلب الأديان السماوية.

وقدّم الباحثان تفسيرًا للنتائج التي أشارت إلى أن مستوى اضطرابات الاكتئاب والهلع والرهاب أقل حدة في المتدينين نتيجة لعوامل مثل تحريم اليأس من رحمة الله، والإيمان بمساعدته والدعم الاجتماعي وبقوة الإله كقوة خارقة لقوانين الطبيعة في التأثير الإيجابي على حياتهم عندما يفقد الأشخاص قدرتهم على محاربة المرض.

وفي دراسة حملت عنوان «هل باستطاعة التدين تقديم حماية من الانتحار» أُجريت بواسطة عدد من الباحثين، والتي نُشرت على موقع المكتبة القومية للطب، استعرضت إحصائية أن 84% من سكان العالم منتسبون إلى اعتقادات دينية، وأن 75% من النسبة المذكورة منتسبون للأديان الإبراهيمية التي تعارض الانتحار وتصنفه خطيئة طبقًا لتعاليمها.

نصت تلك الدراسة أيضًا على أنه عندما يحدث تنافر بين الاعتقادات الشخصية والاعتقادات الدينية لدى الأفراد المتدينين يؤدي ذلك لمشاعر الغضب والذنب والعار والتي تؤثر سلبيًا على الصحة النفسية والعقلية، كما أن قدرة التدين على الحماية من الانتحار تتحقق عن طريق ممارسات الحضور في دور العبادة وشبكات الدعم في المجتمع الديني، بينما لم يتم إثبات أي دور للعبادات كالصلوات في الحماية.

تعليقٌ على نتائج الدراستين

عند قراءتي للاستنتاجات التي توصلت لها الدراستان الأولى والثانية وجدت أنه توجد حاجة للتعليق على نتائجها لتغافلها عن بعض الأبعاد المهمة؛ فالدراسة الأولى توصلت لاستنتاجاتها التي تتضمن أن درجة أو شدة الاضطرابات النفسية أو نسب الحدوث لاضطرابات مثل الاكتئاب والقلق أو إدمان العقاقير والكحوليات والرهاب والمضاعفات الانتحار أقل عند المتدينين عن نظرائهم من المصابين بنفس الاضطرابات عن طريق العينات والإحصائيات وهي بالطبع أساليب علمية دقيقة للقياس الكمي لا غبار عليها، لكنها تجاهلت أبعادًا ومتغيرات أخرى تؤثر على المتغير المراد قياسه.

لاحظت أنه قد تم تجاهل تأثير التوافق النفسي والاجتماعي للفرد مع المجتمع الذي يعيش فيه، وهو من أهم الأبعاد التي تؤثر على اتجاه الفرد نحو السواء أو الانعصاب ونحو التعافي والتحسن أو التدهور وتتحكم بشكل كبير في حصوله على المساندة والمساعدة وعلى إتاحة الوصول لشبكات الدعم المجتمعي وحتى شعوره بالقبول والتقدير.

التوافق النفسي والاجتماعي يتوافر بشكل أكبر للشخص المتدين حيث إنه يلقى قبولًا اجتماعيًا واحترامًا من الآخرين وهو أكثر توافقًا مع قيم المجتمع الذي يعيش فيها خاصة إن كان منتميًا للأغلبية الدينية، بالإضافة لأن الصور النمطية عن المتدينين أغلبها إيجابية وتشير لأنهم أشخاص يتمتعون بالأخلاق ويلتزمون بالقوانين وجديرون بالتعاطف معهم، مما يقلل من احتماليات تعرضهم للنبذ وإطلاق الأحكام والتحقير والتمييز بناء على المعتقد وقد يقلل أيضًا من خطر العنف الجسدي والجنسي -في بعض المجتمعات- الذي يتعرض له نظراؤهم غير المتدينين.

كما أن التوافق المجتمعي يتيح للمتدينين سهولة تكوين العلاقات مع أفراد المجتمع سواء كانت علاقات عاطفية أو أسرية أو زواجًا أو صداقات وإيجاد عمل وغيرها، مما يجعلهم أكثر إحاطة بدوائر المساندة من الأسر والأصدقاء وغيرهم مما يجعل اختياراتهم أكثر تعددًا على عكس غير المتدينين الذين قد يضطرون للتعامل مع الرفض والنبذ الأسري ومن الأصدقاء والشركاء المحتملين مما يؤثر على نظرتهم لأنفسهم وتقديرهم لذواتهم ودافعيتهم وطاقتهم لمواجهة الاضطراب.

فبالتالي جاءت النتائج كأنما تشير إلى أن الشخص غير المتدين أكثر استعدادًا للاضطراب في المطلق وليس بسبب عوامل خارجية، مثل تعايشه مع الخوف من الوصمة المجتمعية ومن النبذ ومن العزلة ومن التعنيف النفسي ومن التهميش ومصادرة الحقوق والتمييز وأحيانًا من العنف الجسدي والقتل والاعتقال في بعض المجتمعات.

لاحظت أيضًا أنه لم يتم ذكر أبعاد مؤثرة مثل الطبقة والمستوى الاجتماعي أو التعليمي في العينات المستخدمة حيث إن للطبقة والمستوى الاجتماعي تأثيرًا على موارد الفرد المالية وعلى مقدرته على تحمل تكاليف علاج نفسي متخصص من عدمها، وأيضًا على عوامل الرفاه النفسي المؤقتة، مثل: ممارسة الرياضة والغذاء الصحي وممارسات التأمل وغيرها.

كما أن المستوى التعليمي يؤثر في القدرة على الوصول للمعلومات وإتاحتها وبالتالي الوعي بأهمية الصحة النفسية وبمعرفة أعراض الاضطرابات وإدراك المرض عند الإصابة به، وأيضًا على توجه الشخص نحوه فقد يتجه متدين مثقف إلى العلاج النفسي وقد يتجه غير متدين غير مثقف إلى إنكار المشكلة برمتها والهروب من الاعتراف بها.

وبهذه الملحوظات يُمكننا القول إن تعميم نتائج دراسات إحصائية طبقت في دولة بعينها على باقي الدول، والقول بأن هناك تفوقًا ثابتًا لفئة على حساب فئة أخرى يتجاهل البعد الثقافي والبعد التشريعي والديني لكل دولة، حيث إنه توجد مجتمعات أكثر عنفًا ضد غير المتدينين من غيرها بناء على ثقافة وتقاليد كل دولة وعلى تشريع القوانين هل يستمد من مصادر دينية أم مدنية أم مزيج بينهما.

أيضًا، برغم مراعاة وجود رجال ونساء بنسب متقاربة في الإحصائيات المذكورة بهدف تثبيت بعض الأنواع، إلا أنه حدث تجاهل للخصوصية الثقافية في المجتمعات المختلفة، حيث إن الرجل المتدين في المجتمعات المتدينة يلاقي وصمة عند اعترافه بإصابته باضطراب نفسي بل حتى في أفعال بشرية طبيعية كالبكاء أو التعبير عن الخوف لأنه محصور في دور الحماية للأسرة والقوامة والصلابة وهو بذلك يختلف عن الرجل المتدين أو غير المتدين في مجتمع علماني أو عن الرجل غير المتدين في المجتمع المتدين.

كذلك بالنسبة للنساء والأقليات الجنسية والجندرية حيث تتعرض هذه الفئات للعنف بناء على النوع الاجتماعي بصورة مضاعفة وأشد خطورة في المجتمعات المتدينة قد تصل للقتل على الهوية، بينما يكون تعرض تلك الفئات للعنف أقل حدة في المجتمعات غير المتدينة مع توافر وسائل للإنصاف والعدالة الناجزة للناجيات/ين من العنف بدون التعرض للوصم أو إطلاق الأحكام أو اللوم.

كذلك لا يمكننا تجاهل اتجاه الدول نحو الصحة النفسية والجهود المبذولة في التوعية بأهميتها وبأهمية طلب الدعم والمشورة النفسية في وقت مبكر، ومدى توافر الخدمات وإتاحتها وسبل الوصول إليها بأسعار مناسبة لأغلب الأفراد واتجاهات المؤسسات الدينية والإعلامية تجاه المرض النفسي هل هي إيجابية وتدعم التعافي والاندماج في المجتمع أم سلبية وتدعم الوصمة خاصة ضد المتدينين الذين يعانون من وصمة مضاعفة عند الإصابة بأمراض نفسية.

دراسات أخرى: لا علاقة بين التدين والاضطراب النفسي

دراسة الباحث هارولد كوينج أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية بجامعة ديوك أكدت على أن العلاقة الكمية بين الدين والصحة العقلية معقدة بشكل استثنائي ويصعب فهمها، بسبب الطبيعة متعددة الأبعاد لكل من التدين والصحة العقلية والتفاعل الثنائي الاتجاه المتغير باستمرار بين كل منها بمرور الوقت.

يستعرض الباحث أن الانخراط الديني قد يمنع تفاقم درجة الاضطراب النفسي وقد يجعلها تتفاقم وتزداد شدة، كما أن درجة المرض النفسي قد تزيد من نسبة الانخراط في الممارسات الدينية وقد تقللها وذلك يعتمد بشكل جزئي على درجة وشدة الاضطراب نفسه، حيث إنه في المراحل الأولى من الشعور بالأعراض تكون الاستجابة باتجاه ممارسة العبادات وطلب المشورة من رجال الدين أو الانخراط في الأنشطة الدينية الجماعية، لكن بزيادة شدة واستمرارية الاضطراب أو المرض الذي يتعامل معه المصاب لا تعد الأنشطة الدينية تؤثر على تخفيف الحدة وقد تؤدي إلى فقدان الشخص الأمل في الدين أو الابتعاد التام نتيجة لاعتقاده أنه كان حلًا محتملًا للعلاج النفسي والتعافي وفشلت تجربته معه.

ديناميكيات تلك العلاقة لا تظهر وجود أي فائدة للتدين في العلاج النفسي أو الحماية من حدوثه خاصة عند تطبيق الدراسات بالملاحظة (طولية أو مستعرضة) ويوضح أن أغلب الدراسات التي تم تطبيقها هي دراسات بحثية بطبيعتها تحاول استنباط الآثار لاستيضاح هل كان أثر التدين إيجابيًا أم سلبيًا.

ويستطرد الباحث مؤكدًا على أهمية الدراسات الطولية التي تستغرق زمنًا طويلاً من دراسة العينة وأن أغلب الدراسات التي رصدت علاقة إيجابية لا تمثل سوى عنصر في العلاقة المعقدة والمتشابكة والمتقاطعة العوامل بين التدين والمرض النفسي وأن نتائج تلك الدراسات تختلف باختلاف عوامل اجتماعية وثقافية وباختلاف الزمان والمكان.

وكذلك تطرّق كولين إلى إشكالية قياس الدين بشكل كمي في حد ذاتها وأنه يجب مراعاة الدقة في قياس وتسجيل النشاط الديني المبلغ عنه بشكل ذاتي من قبل الفرد حيث إن أغلب مقاييس التدين تستند إلى التقرير الذاتي طبقًا لتصنيف الأشخاص لنفسه، وهذا يجعلها عرضة لقلة الدقة والادعاء بناء على المستويات المقبولة اجتماعيًا أو المستحسنة في مجتمع بهدف السعي للظهور بمكانة أفضل وكسب القبول أو تجنب الوصمة وإطلاق الأحكام أو حتى السعي للأمان، كما قد يذكر شخص متدين في الصين أنه أقل تدينًا من حقيقته بهدف حماية نفسه من سلطة ديكتاتورية لها تاريخ مع اضطهاد المتدينين.

يخضع التقرير الذاتي للأمراض النفسية أو العقلية لبعض العوامل التي تؤثر على دقة القياس مثل الوصمة التي يتعرض لها المصابون بالأمراض النفسية والعقلية في بعض المجتمعات وقد يكون لها آثار على مستقبلهم المهني أو علاقاتهم الإنسانية أو تؤدي لتعرضهم للنبذ، وقد يكون هناك بعض المبالغة في تعريف مشاعر الألم أو الحزن أو الخوف عندما يكون الشخص تحت تأثير صدمات شديدة أو حديث العهد بالصدمة مثل توقع الموت من الحزن في حال فقدان أحد الأحباء.

توصل الباحث لاستنتاج حول أن كل النتائج والفرضيات السابقة هي لمحة فقط من التعقيدات المتشعبة في علاقة التدين بالمرض النفسي وأنه من المدهش بالنسبة له قدرة بعض الباحثين على افتراض وجود علاقات إيجابية أو سلبية بل ومحاولة إثباتها وسط كل ذلك التعقيد.

وصم المرضى النفسيين في المجتمعات الدينية

تناول الباحث جون بيتيت موضوع الوصمة في دراسته مدخل إلى وصمة الأمراض النفسية المعززة دينيًا حيث عرف تلك الوصمة على أنها عقبة ممتدة أمام العلاج النفسي وأنه من الضروري تفسير أسبابها الرئيسية كخطوة ضرورية لإيجاد حلول مقترحة حيث استعرض من هذه الأسباب؛ التفكير الأصولي الذي يمتاز بالجمود وعدم التساؤل والأكثر عرضة لتنميط الأقليات العرقية أو الدينية أو المرضى أو ذوي الإعاقات والذي يفضل الاستعانة بممارسات دينية على الاستعانة بمتخصص نفسي وتمتاز بوصمة العار الراسخة تجاه المرض النفسي وتعتبر علم النفس هو طريقة علمانية لا تتفق مع الدين في حل المشكلات.

ووضع الباحث القبلية من ضمن الأسباب، حيث عرّف القبلية على أنها سمة تظهر في بعض المجتمعات الدينية أو المجتمعات التي تتشارك روابط الدم وتتضمن زواج الأقارب والاعتقاد في الإيثار لأجل حماية القبيلة أو المجتمع القبلي ويمتازون بخصوصية ثقافية وتقاليد منفصلة تمدهم بالشعور بالفخر والتميز عن الآخرين وينتج عنه التعصب القبلي الذي يعتقد في أهمية طرد الغرباء وغير المندمجين في المجتمع من المصابين بالاضطرابات أو بالإدمان ونبذهم لكونهم لا يتماشون مع معايير المجموعة.

ذكر الباحث أن أسباب الوصمة تتضمن أيضًا عدم القدرة على فصل الأمراض النفسية عن المعتقدات الدينية مثل تفسير بعض الأمراض على أنها عقاب من الله على بعض الذنوب أو استحواذ شيطاني والاقتصار على الجانب العقابي للدين وتجاهل جانب الرحمة والمغفرة.

كما ذكر أن السبب الأخير لتعميق الوصمة تجاه العلاج النفسي المترتب على الاعتراف بالإصابة بالمرض هو التجارب السلبية مع مقدمي الخدمات النفسية غير المتدينين في حال تعاملهم باستخفاف مع معتقدات المرضى الدينية وعدم إظهار الاحترام لذوات المرضى ولاعتقاداتهم ولإطلاق الأحكام عليهم بانعدام العقلانية والجمود نتيجة لكونهم أشخاصًا متدينين وقولبتهم أو اقتراح وسائل علاج تتنافى مع معتقداتهم الدينية والإصرار عليها، مما يولد لديهم قناعة بأن مقدمي الخدمات النفسية وعلم النفس فرع يمتهن الأديان أو يتنافى علاجهم نفسيًا مع كونهم أشخاصًا متدينين مما يسبب نفورهم من العلاج ووصم من يتلقى علاجًا نفسيًا بأنه غير متدين أو غير مؤمن.

أيضًا، تتناول دراسة الصحة النفسية والعائلات المصرية من إعداد الباحثين جيهان إندراوز ولويس براين ولايزلي ويلكس عرضًا لطبيعة الأسرة المصرية الممتدة وهي أسرة مترابطة جدًا والعلاقات قوية بين الأجداد والآباء والأحفاد وتُعلي قِيم تقدير الكبير والاستفادة من خبرته وتقديم الدعم للأعضاء الأصغر سنًا في الأسرة حتى بعد زواجهم، تعتقد الأسر المصرية في وجود وصمة للمرض خاصة في حوادث الانتحار الذي يخلق لدى الأسرة مشاعر الذنب والعار كونه خطيئة في حق الله من منظور الدينين الإسلامي والمسيحي ويعرضهم للوصمة المجتمعية عند تحقيق الشرطة في الواقعة ومعرفة الجيران والآخرين بها.

الروحانية قد تكون هي الحل

عند استعراض دراسة منافع روحانية التدين للصحة النفسية المنشورة من قِبَل التحالف القومي للصحة النفسية نجد أنه تمت التفرقة بين مفهومي التدين والروحانية حيث إن الدين نظام من المعتقدات الراسخة، بينما الروحانية تكمن داخل الفرد وداخل ما يعتقد به ويعبر عنه شخصيًا، كما اهتم المقال بذكر أن الروحانية كفكرة هي أوسع من الدين فالشخص المتدين لديه روحانية في اعتقاده لكن ليس كل شخص روحاني بالضرورة أن يكون متدينًا أو مؤمنًا في الأساس.

واهتمت الدراسة بذكر أن الروحانية والدين كلاهما يشترك في احترام قيم السلام والهدف والتسامح، لكن فوائد ومضار كلًا منهما تختلف لاختلاف طبيعتهما عن بعض، حيث ركز أن الأديان تحرم الانتحار وترفض إدمان الكحوليات والعقاقير والتعرض بالضرر للآخرين وتخلق للشخص شعورًا بالاطمئنان عن طريق وجود قوة عليا «الإله» تعتني به ولن تتخلى عنه وقد تعوضه عن بلائه في وقت لاحق مما يكسبه قيمًا مثل الصبر والتسامح.

اما الروحانية فهي مشاعر ارتباط تتولد داخل الفرد تجاه قوة أكبر منه قد تكون الإله أو الكوكب والبيئة المحيطة، وتساعده على اكتشاف العالم وكيفية ملاءمته لها، بالإضافة إلى اكتشاف وفهم نفسه عن الطريق النظر بداخله، تتضمن الروحانيات ممارسات صحية للعقل والجسد مما يجعلها لها تأثير إيجابي لا يمكن إنكاره على الصحة العقلية والرفاه النفسي.

تمتاز الروحانية بإشباع الفردية حيث تعزز إحساس الشخص بذاته وقيمتها ومشاعره بالتمكين وبحرية الاختيار عن طريق اختياره للطريقة الأفضل بالنسبة له طبقًا لما يؤمن به ونموه الشخصي كما أنها تتقبل جميع الأشخاص سواء كانوا متدينين أو لا على اختلاف معتقداتهم.

تضمن الروحانية ممارسات التأمل وصفاء الذهن والوعي الذاتي mindfulness حيث تعزز ممارسات التأمل والتفكير الذاتي وتؤدي إلى خلق فلسفة حياة ذات هدف أو معنى للفرد عن طريق شعوره بالتقارب من الآخرين أو الطبيعة أو الفنون والجمال، وتعزز التعبير عن النفس بأي شكل من خلال الفنون أو الممارسات الدينية أو الأنشطة الجسدية وغيرها.

كما تتضمن الروحانية الوحدة مع البيئة المحيطة عن طريق ممارسات التركيز على شيء معين كالأصوات والأشياء من حولنا أو الإحساس بالبيئة المحيطة والشعور بالانتماء لها وتخلق مشاعر الامتنان والتقدير لتفاعل الفرد مع عالمه.

هل التدين يحمي من الأمراض النفسية؟

من المهم قبل عرض إجابتنا على هذا السؤال الصعب، ذِكر الأسباب العلمية المثبتة التي تؤدي لحدوث مرض نفسي في البداية، حيث تنقسم أسباب الإصابة بأى مرض نفسي أو عقلي إلى أسباب بيولوجية مثل: تركيب المخ والجينات والكيمياء العصبية والاستعداد الوراثي وإصابات أو تلف المخ، وأسباب بيئية مثل: الضغوطات المزمنة ومستوى الحياة المتدني والتروما والتعرض للسموم خاصة في مراحل مبكرة والمشاكل العائلية والعاطفية وإساءات الأهل في الطفولة وبعض العقاقير أو المخدرات.

تعريف الأمراض النفسية طبقًا لمنظمة الصحة العالمية أنها اضطرابات نفسية أو عقلية تنطوي على اضطراب في التفكير أو المشاعر أو السلوك، جدير بالذكر أن الدليل الإحصائي الخامس يضم الاضطرابات النفسية المختلفة عصابية أو ذهانية.

من هنا نستطيع القول إن الدين سواء فى وجوده أو عدمه ليس عاملاً من العوامل المسببة للأمراض النفسية حيث إن الأسباب السابقة التي تؤدي للاضطراب أو للاستعداد للاضطراب يمكن أن يختبرها شخص متدين أو غير متدين، كما أن المرض النفسي لا يختلف عن المرض العضوي من حيث الحاجة لتلقي علاج ودعم خلال رحلة مكافحة المرض أو التعايش معه والتحكم في شدته والحماية من المضاعفات.

وبهذا يُمكنني القول إن التدين لا يحمي من الإصابة بالأمراض النفسية لأنه لا يستطيع تغيير العوامل التي أدت إليها أو علاجها، لذلك من الضروري تشخيص وعلاج الأمراض النفسية من قبل المتخصصين سواء كانوا أطباء نفسيين وأخصائيين نفسيين عن طريق العلاج الدوائي أو العلاج المعرفى السلوكي أو الجدلي وغيرهم كلا حسب تخصصه باستخدام منهج علاجي علمي ويمكن قياس نتائج التحسن.

لا يمكن حسم نقطة هل يؤثر التدين على صحة الشخص النفسية وتوافقه واندماجه في المجتمع دون معرفة ثقافة وعادات وتقاليد المجتمع الذي يعيش فيه فقد يكون لعدم تدين شخص في مجتمع عربي مثلاً تأثير عليه، وقد يكون لتدين شخص في مجتمع غير متدين كالصين تأثير، بالإضافة لأبعاد الطبقة والنوع الاجتماعي ونظرة المجتمع للإصابة بالأمراض النفسية وامتيازات الشخص بشكل عام قد تخلق تأثيرًا.

الوصمة للمرض النفسي في المجتمعات الدينية تؤثر بشكل كبير على اعتراف الشخص بوجود مشكلة أو تجاهلها وخضوعه للتشخيص أو العلاج، كما تؤثر على فاعلية حلقات الدعم في حياته من أسرة وأصدقاء وشركاء وعلى اتجاههم ناحيته.

من المهم الاهتمام بالتوعية بالصحة النفسية في أوساط المتدينين لأنهم أكثر عرضة للشعور بالعار والخوف من الأحكام عند تعرضهم للمرض النفسي، كذلك من المهم جدًا عدم جعل تدين الشخص من عدمه عاملاً في التعاطف معه عند إصابته أو دعمه خلال رحلته للتعافي أو التمييز ضد غير المتدين عند إصابته خاصة في مجتمعاتنا العربية ذات الأغلبية المتدينة.

الروحانية عامل مساعد مفيد في التخفيف من حدة ضغوطات الحياة اليومية أو التفريغ النفسي للمشاعر وتساعد على زيادة مشاعر الامتنان والاطمئنان، لذلك ينصح بإدراج نشاط روحاني واحد أو أكثر كممارسات التأمل والفنون والموسيقى أو الصلوات وغيرها ضمن روتين الشخص اليومي، لكن يجب ألا نغفل أبدًا أنها عامل مساعد ولن تكون بديلًا عن تلقي العلاج النفسي المتخصص.