لطالما أثارت ذكرى إعدام «سيد قطب» حديث الشارع السياسي – الثقافي المصري، بين من يراه أديبًا ومفكرًا ومنظّرًا إسلاميًا مصريًا، ومن يراه أحد أخطر المنظّرين للإرهاب. وحول ذلك صنفت العديد من الكتب -وما لا يمكن حصره من المقالات- لإثبات إحدى الرؤى أو نفيها عن الرجل الذي رحل عن عالمنا منذ ما يقرب من 50 عامًا، ولا زالت كتاباته بين الرفض والاستحسان!.

نتناول في هذا المقال علاقة الرجل بنظام يوليو، وأهم المحطات التي تجب معرفتها عن الرجل قبل الحكم عليه وعلى كتاباته. فهل كان «سيد قطب» -كما أسماه البعض- ملهمًا لحركة يوليو والضباط الأحرار، أم كان عدوًا للنظام على طول الخط ما استدعى محاكمته وإعدامه؟


الإخوان والضباط الأحرار

مجلس قيادة الثورة الذي تشكّل بعد ثورة 23 يوليو/ تموز عام 1952.

كتب «عبد الرؤوف عبد المنعم» في مذكراته أنه كان مواظبًا على درس الثلاثاء الذي كان يلقيه الإمام المؤسس «حسن البنّا» في المركز العام للإخوان المسلمين، ودعا معه ضباطًا آخرين لحضور اللقاء؛ كان في مقدمتهم النقيب «جمال عبدالناصر»، وكان ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1942.

تكونت أول أسرة إخوانية من ضباط الجيش عام 1944 من 7 ضباط، وكان نقيب الأسرة هو الصاغ «محمود لبيب»، والأعضاء من ضباط الإخوان؛ «عبدالمنعم عبدالرؤوف، جمال عبدالناصر، كمال الدين حسين، حسين أحمد حمودة، سعد توفيق، صلاح خليفة، خالد محي الدين».

مع انفصال «عبد الناصر» بـ«الضباط الأحرار»؛ استمرت جماعة الإخوان المسلمين في ضم الضباط من الإخوان في أسر خاصة لهم، والإبقاء على تنظيم خاص بهم له فاعليته وأثره.

تتابعت الأسر الإخوانية في التشكل داخل صفوف الجيش المصري، وأطلق الضباط السبعة الأوائل على أسرتهم وباقي أسر الضباط الإخوان «تنظيم الإخوان الضباط»، وبايع الضباط السبعة «عبد الرحمن السندي» مسئولًا عن التنظيم السري الخاص للجماعة[1].

مع هدنة «رودس» عام 1949 بين اليهود والقادة العرب؛ اجتمع الضباط الإخوان ليبحثوا وجوب الثأر من قتلة الإمام «البنا»، والحذر من أفراد الحرس التابع للقصر حتى لا ينكشف التنظيم الخاص، وتدبير انقلاب على من في القصر للتخلص من النظام الملكي، وإقامة نظام إسلامي.

وفي مايو/ آيار عام 1949، تم استدعاء النقيب «جمال عبد الناصر» لمكتب رئيس الوزراء «إبراهيم عبد الهادي» للتحقيق معه بتهمة انتمائه للإخوان المسلمين، لكن «عبد الناصر» استطاع أن ينفي التهمة عن نفسه!.

تجدر الإشارة هنا، أنه أثناء توقيف النقيب «عبد الناصر»، تم تغيير اسم التنظيم ليكون «الضبّاط الأحرار» بدلًا من «الإخوان الضباط» محاولة من الصاغ «لبيب» للفصل في الإسم بين «التنظيم»، و«الجماعة» خشية بطش الملك.

في سبتمبر/ أيلول عام 1949، اندلع الخلاف الأول بين قطبي الحركة «عبد الرؤوف عبدالمنعم، وجمال عبد الناصر». فالثاني رأى فتح الباب أمام كافة الضباط للانضمام للحركة، والأول ارتأى قصر الانضمام على الضباط من الإخوان المسلمين.

اتفقا في النهاية على المضي في خطين متوازيين لإسقاط الملك وطرد الإنجليز، وأخبر «عبد الناصر»، «عبد الرؤوف» أنه يسعى جاهدًا لإسقاط النظام الملكي، وأنه في سبيل ذلك ضم ضباطًا لا ينتمون للإخوان مثل؛ «صلاح سالم، وعبد الحكيم عامر» دون علم قيادات الإخوان المسلمين.

انفصل عبد الناصر نهائيًا عن تنظيم الإخوان المسلمين عام 1950 بعد رحيل «محمود لبيب»، ورأى قطع الصلة بـ«عبد الرحمن السندي» -رئيس الجهاز السري للإخوان- وضم للحركة ضباطا كثر من غير الإخوان، وبقي بعض «الضباط الإخوان» حاضرين بقوة في الحركة من أمثال: «كمال الدين حسين، وصلاح خليفة، وحسين حموده».


سيد قطب منظّرًا لثورة يوليو

بالغ البعض في توصيف الدور الذي لعبه «قطب» في التمهيد لـ«حركة يوليو» وشبهه بالـ«كونت دي ميرابو» خطيب الثورة الفرنسية. نقلت مجلة الهلال في عددها الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1986 عن الباحث والأكاديمي المصري «الطاهر أحمد مكي» قوله:

كان لـ«سيد قطب» دور بارز في الإعداد للثورة، وبث روح الإصلاح في المجتمع المدني والعسكري من خلال مقالاته الإصلاحية التي نشرها في العديد من الصحف المصرية.

لقي كتاب «العدالة الإجتماعية في الإسلام» إقبالًا وترحيبًا، وكان من الكتب التي تركت أثرًا واضحًا في فكر «الضباط الأحرار» ومن أوائل الكتب التي قرؤوها قبل أن تقوم الثورة نفسها، أو بالأدق عام 1951.

فقد طلب مني الكتاب صديقٌ له قريب ضابط في الجيش، ثم عاد ورجاني أن أدله أين يُباع فهو بحاجة إلى أكثر من نسخة. كان هذا الضابط هو البكباشي «إبراهيم عاطف» الذي انتخبه الضباط سكرتيرًا لناديهم مع «محمد نجيب» إبان تحديهم للقصر الملكي.

يروي «سليمان فيّاض» في مقالته التي نشرتها مجلة الهلال تحت عنوان «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين»؛ تفاصيل زيارته لـ«سيد قطب» في بيته بحلوان بعد قيام الثورة، وينقل هذا الحديث الذي دار بينهما:

– سألته عن رأيه في هذه الثورة؟

– ابتسم وقال لي: هنا تحت هذه الشجرة كان «الضباط الأحرار» يعقدون بعض اجتماعاتهم معي في فترة التمهيد للثورة. ثم دخل «سيد» البيت وعاد يحمل مظروفًا. أخرج منه صورًا، وأخد يرويها لي واحدة واحدة. وكان هو في كل صورة وتحت هذه الشجرة، وكانت كلها صور ليلية أُخذت في ضوء الفلاش. وفي كل صورة كان هؤلاء «الضباط الأحرار» وهو بينهم واسطة العقد.

المقالات الإصلاحية كانت منها؛ «الإشتراكية، اللواء الجديد، الدعوة». كما نُشرت له مقالات متفرقة في «الأهرام، روز اليوسف، الرسالة»؛ لذا كان من المتوقع بعد نجاح الثورة أن يكون لـ«سيد» دور بارز في مسيرة الإصلاح والبناء التي أعقبت الثورة.

يقول الأديب والشاعر السعودي، ومؤسس صحيفة عكاظ السعودية الأستاذ «أحمد عبد الغفور عطار»:

بلغ من احترام الثورة لـ«سيد قطب» وعرفانها له بالفضل أنه كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادتها أحيانا. أما الأستاذ «عادل حموده» فيروي في كتابه «سيد قطب من القرية إلى المشنقة»:

والذين عاصروا تفاصيل الأيام الأولى للثورة؛ يؤكدون أن «سيد قطب» كان له مكتب في مجلس قيادة الثورة، وأنه كان يقيم هناك إقامة شبه دائمة، حيث أوكلت إليه هو و«محمد سعيد العريان» مهمة تغيير مناهج التعليم.

بعض النقاد ارتأوا في الروايات سالفة الذكر مبالغة، وأن علاقة «سيد قطب» بـ«الضباط الأحرار» لا تعدو كونهم ضباطًا ساخطين على الوضع السياسي؛ يلتقون بكاتب ساخط مثلهم ليتناقشوا، ويتجاذبوا أطراف الحديث فيما بينهم بشكل عام، إلا أن المتفق عليه أن «قطب» كان من أوائل المرحبين بـ«حركة يوليو» وأشد الكُتاب حماسة وتأييدًا لها.

وأفضل ما يُجمل هذه الفترة إجابة «محمد قطب» عند سؤاله عن علاقة «سيد» برجال الثورة في مقابلة صحفية أجرتها معه مجلة الغرباء التابعة لجماعة الإخوان المسلمين قال:

كانت له بهم صلة شخصية في الشهور الأولى حين دعوه ليكون مستشارًا للثورة في الأمور الداخلية، فعمل معهم فترة، ولكنه تبين له منذ اللحظة الأولى -لا أقول منذ الأسبوع الأول ولكن من اليوم الأول- عداؤهم لجماعة الإخوان المسلمين، فحاول أن يوفق بين الطرفين غير أنه ما لبث أن تبين له أن لا سبيل إلى التوفيق؛ فانقطع عن الاتصال معهم.

استمرت هذه الفترة 3 أشهر. كانت الصلة فيما بينه وبين رجال الثورة صلة وثيقة، ثم كان الانقطاع بعدها تدريجيًا حتى وصل إلى الانقطاع الكامل بعد حوالي شهرين آخرين.


كيف نظّر سيد قطب للديكتاتورية؟

حمل أول تعليق لـ«سيد» على «حركة يوليو» نزعة ديكتاتورية واضحة، في مقاله الذي نُشر في الأخبار 8 أغسطس/ آب عام 1952م بعنوان «الاستجواب»، وأخذ يعدد فيه الأسئلة على «محمد نجيب» ورفاقه.

لم يكن ينتظر منهم إجابة بقدر ما كان يرسم لهم الدور المنوط بهم بعد يوليو/ تموز، وأخذ عليهم أنهم اكتفوا بخلع الملك، ولم يقودوا حركة تطهير شاملة، وانتقد أي فكرة تتحدث عن عودة الضباط لثكناتهم في كلمات واضحة:

وبهذا كان واضحا في أطروحته بلا مواربة -كما ظهرت في كتاباته- فكرة الديكتاتور العادل. والحقيقة أن ما دار على لسان «سيد» اتسق مع ما يفكر به الضباط الأحرار، والتقى المزاجان على هذا.

بعد أيام فقط من الاستجواب؛ وقعت أعمال عنف في «كفر الدوار» بين عمالٍ ساخطين وأفراد من الجيش، أسفرت عن مقتل جنديين من الجيش، وآخر من الشرطة، إضافة لـ3 من العمال لقوا حتفهم وأصيب 28 آخرين. وقعت الأحداث يومي 12 و13 أغسطس/ آب، وكانت القيادة تتعجب مما قد يغضب العمال، وقد أكل الإستعمار لحومهم وشرب دماءهم، وحموه وهو يجلدهم بالسياط! ما الذي يثير حنقهم على النظام الجديد؟

انبرى «سيد قطب» يكتب مقاله «حركات لا تخيفنا» ليوضح أن الحوادث المفتعلة في «كفر الدوار» لا تخيفنا، وأن الرجعية لن تقف مكتوفة الأيدي، وهي تشهد مصرعها، ولكننا كسبنا المعركة وكان أمر الله مفعولًا.

بدا «سيد واضحًا» وهو يحرض الضباط على التعامل الحازم مع الحركات الشيوعية؛ التي قالت قيادة الثورة أنها هي التي وقفت وراء أحداث «كفر الدوار». وأتبع «سيد» مقاله هذا بمقال ثان بعنوان «الشيوعية المريضة».

ووقوفًا على مقاله الأول -حركات لا تخيفنا- واستخدامه ضمير الجمع، فإن ذلك يشير إلى مدى توحد المسار والأفكار والنزعة الحازمة – التي قد تكون ديكتاتورية.


قطب على مفترق الطريق

دأب «عبد الناصر» بعد قيام الثورة على تكوين حزب أو تنظيم سياسي ليكون واجهة للثورة، ودعا الإخوان المسلمين للانخراط في التنظيم الجديد، وحل تنظيمهم الخاص، وأرسل الضابط «إبراهيم الطحاوي» ليلتقي مسئول الوحدات بالتنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين «صلاح شادي».

كانت يهدف اللقاء إلى إقناعه بضرورة انضمام الإخوان لـ«هيئة التحرير» التي صدر «عبد الناصر» قرار بإنشائها في 23 يناير/ كانون الثاني عام 1953م. رفض «صلاح شادي» هذا الأمر فاجتمع «عبد الناصر» بوفد من الإخوان لإقناعهم بالأمر في محاولة ثانية.

كان هذا الاجتماع في منزل المستشار «حلمي عبد الباقي»، وبعد مشاورات موسعة بين قادة الإخوان؛ قرروا عدم الانخراط والذوبان في هيئة التحرير. ظل «عبد الناصر» حريصًا على ضم شخصيات ذات ثقل في الشارع السياسي، مثل «سيد قطب».

تداولت الصحف حينها أخبارًا بأن «سيد» على موعد مع منصب هام، وأنه مرشح بقوة لتولي وزارة المعارف، وهو الحديث الذي لم يدم طويلا. فقد استقال «سيد» من هيئة التحرير فقط بعد شهر من تأسيسها، أي في فبراير/ شباط عام 1953. ودأب «سيد» على رأب الصدع بين« عبد الناصر» -الذي لم يكن حينها عضوًا في الجماعة-، والإخوان لما يتمتع به من صلة جيدة مع الطرفين.

قال «سيد» في تقريره للمحققين:

فيما يتعلق بالخلاف بين رجال الثورة والإخوان المسلمين؛ وكنت في ذلك الوقت ألاحظ نموه عن قرب لأنني أعمل أكثر من 12 ساعة يوميًا بالقرب من رجال الثورة، ومن معهم ومن يحيط بهم.

يروي «سيد» في مذكراته المنشورة بعنوان «لماذا أعدموني؟»:

استغرقت في العمل مع رجال «ثورة يوليو» حتى فبراير/ شباط عام 1953م، عندما بدأ تفكيري، وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير، ومنهج تكوينها، وحول مسائل أخرى جارية في هذا الحين لا داعي لتفصيلها. وفي الوقت نفسه كانت علاقتي بجماعة الإخوان المسلمين تتوثق.

وبهذا فاضل سيد بين الإخوان ورجال الثورة فاختار الإخوان وصار واحدا منهم مطلع عام 1953م، وهو يعلم أنهم مقدمون على محنة شديدة لا سيما أن قربه من الفريقين جعله أكثر دراية من غيره بما يمكن أن تؤول إليه الأمور وما سيسفر عنه الشقاق والفجوة التي تتسع يومًا بعد يوم.

جدير بالإشارة هنا أن «سيد» لم يمكث في التنظيم خارج السجن لفترة طويلة، فقد انضم للتنظيم مطلع العام 1953، واعتقل بعد حادثة المنشية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1954.


محنة سيد قطب

يا سيدي بدلًا من أن تسيروا في هذا الطريق حتى نهايته، بدلًا من أن تضربوا الحديد ساخنًا، بدلًا من أن تقتحموا أوكار اللصوص، آثرتم أن تنسحبوا إلى الثكنات، وأن تتركوا الميدان لرجال السياسة. الرجال الذين امتطى الملك الراحل ظهورهم، واتخذ منهم أدوات لإذلال الشعب وإهانته.

أذاع مجلس قيادة الثورة بيانا مطولًا أعلن فيه حل جماعة الإخوان المسلمين في الـ15 من يناير/ كانون الثاني عام 1954، وتم اعتقال قيادات الجماعة في صباح اليوم التالي؛ على رأسهم «حسن الهضيبي» المرشد العام و«سيد قطب»، وباقي قيادات الجماعة البارزين.

أقال «عبد الناصر» في الـ25 من فبراير/شباط عام 1954 «محمد نجيب» من منصبه، فنظم الإخوان مظاهرات حاشدة ما أرغم «عبد الناصر» على تلبية المطالب، وإعادة «نجيب» لكافة مناصبه في الـ28 من فبراير/ شباط من العام نفسه، والإفراج عن قيادات الإخوان المعتقلين لديه على دفعات.

وفي الـ26 من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1954؛ أذيع اتهام للإخوان المسلمين بمسئوليتهم عن محاولة الاغتيال الفاشلة التي دُبرت لـ«عبد الناصر»، حين كان يلقي خطابه بمقر هيئة التحرير بالإسكندرية في الثامنة من مساء اليوم.

ذهبت أصابع الاتهام تلقائيًا لجماعة الإخوان المسلمين، واعتقل «سيد قطب» كأحد المحرضين مع غيره من قيادات الحركة، وحكم عليه بالسجن المشدد 15 عامًا ذاق فيها صنوفًا من العذاب، وتجرّع الويلات كما أورد في كتابه «لماذا أعدموني؟»، وكما نقل رفاقه في السجن في سيرهم الذاتية.

خرج «سيد» بعفو صحي في مايو/ آيار عام 1965، بوساطة الرئيس العراقي في ذلك الوقت «عبد السلام عارف»، الذي كان مقربًا من «عبد الناصر» بعد ما قضى من عقوبته قرابة 11 عام. اعتقل «سيد» مرة أخرى عندما اعترض على اعتقال شقيقه «محمد» في مذكرة رسمية أرسل بها للمباحث العامة. عندها ألقت القبض عليه في ليلة يوم الإثنين الـ9 من أغسطس/ آب عام 1965.

حكم عليه القاضي العسكري «فؤاد الدجوي» بالإعدام لاتهامه بقلب نظام الحكم. نفّذ الحكم على «سيد» فجر يوم الإثنين الـ29 من أغسطس/ آب عام 1966م.

ذهب «سيد» وبقي أثره، صعدت روحه للسماء وبقيت كلماته في الأرض. تدارس الناس تجربته كأديب، وناقد، وسياسي، ومصلح، ومعارض أيضًا!.